بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 نوفمبر 2014

طوق الحمامة The Ring of the Dove

الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد،دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف،فلاتدرك حقيقتها إلا بالمعاناة،وليس بمنكر فى الديانة ،ولابمحظور فى الشريعة ،إذ القلوب بيد الله عز وجل "
هكذ قال الأديب العالم الفقيه ابن حزم الأندلسى فى كتابه العظيم "طوق الحمامة فى الإلفة والإلاّف".

وهذا لعمرى من الدراسات الفارقة فى الحب وأروع دراسة وأعمقها كتبها هذا العالم الجليل طيّب الله ثراه.
ويشرح "والحب - أعزك الله-داء عياء ،وفيه الدواء منه على قدر المعاملة ،ومقام مستلذ،وعلة مشتهاه ،لايود سليمها البرء 

،ولايتمنى عليلها الإفاقة.يزين للمرءماكان يأنف منه،ويسهل عليه ماكان يصعب تصديقه عنده ،حتى يحيل الطباع المركبة ،

والجبلة المخلوقة
 "

وصدق الشاعر إذ يقول "

قالوا عشقت فقلت كم من فتنة لم تغن فيها حكمة الحكماء

إن الذى خلق الملاحة لم يشأ إلا شقائى فى الهوى وبلائى
وقال آخر :
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه و لكن من يبصر جفونك يعشق
وقول الشريف الرضى :

أنت النعيم لقلبي و العذاب له فما أمرّك في قلبي و أحلاك
وسلطان الحب على العشاق قادر ،وقلّ أن يفيق منه ،إنما هو روح تسرى فى الأبدان ودماء تجرى فى العروق.

وقال رجلُ لعمر بن الخطاب رضى الله عنه :يا أمير المؤمنين إنى رأيت إمراة فعشقتها .فقال عمر :ذلك مما لا يملك.
ويقول الفضيل بن عياض :لو رزقنى الله الله دعوة مجابة لدعوت الله أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية.
ويؤكد ذلك القاضى أبو عمر النونانى فى كتابه" تحفة الظراف:

"العشاق معذورون على كل حال ،مغفور لهم فى جميع الأفعال والأقوال .

إذ العشق إنما دعاهم على غير اختيار .بل اعتراهم على جبر واضطرار .

والمرء إنما يلام على مايستطيع من الأمور لا فى المقضى عليه والمقدور"

وما ورد عن الحسين بن الحلاج :

والله ماطلعت شمس ولاغربت إلا واسمك مقرون بأنفاسى

ولاجلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى

ولاشربت الماء من ظمأ إلا وصورة منك فى الكاس

ولا ذكرتك محزوناً ولافرحاً إلا وأنت بقلبى بين وسواسى

ولو قدرت على الإتيان جئتكمو سعياً على الوجه أو مشياً على الراس



العشاق والمحبون ،من عمق التاريخ ، لايهدؤون وشعلة العشق والحب متأججة فى قلوبهم ،فهى صلوات فى هيكل الحب ،يحفظونها وويقدسونها ويتلونها ليل نهار .
ومن عمق التاريخ .. يأتينا صوت الحضارة المصرية الخالدة المشرقة الزاهرة ،مهما توالت القرون ..
إنها فجر الضمير .
ومن كتابات عالم المصريات العملاق الدكتور سليم حسن، ومن الجزء الثامن عشر من موسوعته الرائدة والفارقة فى "مصر القديمة" أختار من بردية شستر بيتى "أغانى غزلية " المقطوعة الرابعة التى ترجمها .

لنقرأ ماذا تقول الحبيبة :

إن قلبى يخفق سريعاً،

عندما أذكر حبى لك،

ولايجعلنى أسير كبنى الإنسان،

بل أفزع من مكانه،

ولايجعلنى أتزين بلباس، 

أو أتحلى بمروحتى.

إنى لا أضع كحلاً فى عينى ،

ولا أعطر نفسى قط .

(
لاتنتظرى بل عودى إلى البيت

هكذا يحدثنى غالباً قلبى كلما ذكرته.

لاتلعبن دور المجنون ياقلبى ؛

لماذا تلعب دور الرجل المخبول ؟

اهدأ إلى أن يأتى لك المحبوب .

ياعينى ....؟

ولاتجعلن القوم يقولون عنى ،

إنها إمرأة قد أقعدها الحب.

كن ثابتاً كلما ذكرته،

أنت ياقلبى،

ولاترخين له العنان"



قمع الهوى 
كنت فى بداية نضجى وفى سنى المراهقة ،ولم أكمل بعد العشرين وتعلقت ببنت الجيران تعلقا ملك على حواسى وتحدثت معها وصارت المشاعر بيننا بحرا عذبا ووهجا متألقا ، والأشعار الرومانسية لإبراهيم ناجى ومدرسة أبولو الوجدانية ومدرسة المهجر وجبران خليل جبران وحفظت أشعارا كثيرة عن الحب وقرأت مئات بل آلاف قصص الحب والروايات العالمية لكل أدباء العالم وأتذكر كم عانيت من قسوة المشاعر والأحاسيس الغضة الخضراء.
نظرا لظروف المجتمع الريفى والتربية الدينية والأخلاق الحميدة لم أستطع تعميق هذه العلاقة، وظلت علاقة ود وتبادل عواطف فى إطار المشروع من التصرفات والمتعارف عليهاوالمعاملة بين الأهل والجيران سيما وأنها تمت بقرابة لأمى.
أعتقد أن هذه المشاعر ترسبت فى حياتى آنذاك وأخذت بيدى إلى أن المتاح من العلاقات لايكفى لظهورها حيز النور ولابد من وأدها فى مهدها وإلا الثورة والإنقلابات والتقاتل بين الأسر والعائلات . حافظت من جهتى على سرية العلاقة ولم أغامر بظهورها وكذلك هى ،فكلانا يعرف جيدا النهاية المؤسفة لو حدث وتسرب خبر العلاقة ،بصراحة كتمت المشاعر وخنقتها خنقا ،وقلت لايمكن البوح بها إلا على الورق والكتابة والإنغماس أكثر وأكثر فى القراءة والتثقيف والتعليم .وحصلت على الثانوية العامة وبدون تفكيراخترت كلية الحقوق جامعة القاهرة وتحملى مشقة السفروالغربة عن الأهل والصحاب ، رغم أن كل زملائى إختاروا كليات بجامعة طنطا . 
وفوجئت فى يوم من الأيام بأخيها يخبرنى بخطبة أخته على فلان قريب لى وله ،وأنهم قرأوا الفاتحة من أسبوع أو أكثر .
الحق أقول : غامت عيناى بالدموع وتلجلج لسانى وشعرت بتهاوى قلبى ولم أنبس ببنت شفة . ومرت سنة أو أكثر، وعقد القران وتحددت ليلة الزفاف وحضرت الفرح وأنا غاضب من قلبى الذى أوردنى هذا المورد الصعب والإيذاء النفسى الجسيم .وكانت الغربة من المجتمع والناس وقلبى الذى أخرسته وألجمته وأغلقت عليه باباً صعب الإقتراب منه أو المرور أمامه . ولم أحاول مستقبلاًخوض غمار معارك الحب،خشية من مصارع العشاق.
سأسمى هذا الحب الذى أقبل علىَ إبان مراهقتى (حب جامح) لأنه سيطر سيطرة كاملة وهيمن هيمنة أخذت بخناقى ، واجتاح كيانى وسلب أنفاسى
سأمسك نفسى عن الكلام العاطفى وأحكم بالعقل والمنطق على تجربتى الشبابية.

أتصور وأنا فى نهاية العقد السادس من العمر ، أن الحب هو أشياء كثيرة وعواطف وانفعالات شتى ، بل أحيانا يصبح غير مفهوم 
وأتذكر هذين البيتن :
إنى أحبك حبا ليس يبلغه ** فهم ولاينتهى وصفُ إلى صفته
أقصى نهاية علمى فيه معرفتى ** بالعجز منى ، عن إدراك معرفته

اليوم :
أحاول تشريح مفهوم هذه العلاقة وأتبين ظروفها ومحتواها وخصائصها والدوافع التى أملتها والغاية منها يتبين لى الآتى :
إنه إندفاع محموم .
إنه نار شبت فى كيانى .
إنه رغبة وشهوة .
إنه أتى إلىَ عفويا ، دخل بقوة وعنف وبدون إستئذان.
إنه إمتد فترة طويلة ثم صار شاحبا وضعيفا وهزيلا.
إنه ترك فىَ ندوبا وجروحا وانكسارا وآلاما لاتنسى.

بل أتذكر سوفوكليس المسرحى اليونانى الأعظم يقول :
الحب ليس وحده الحب .
ولكن اسمه يخفى فى ثناياه أسماء أخرى متعددة .
إنه الموت والقوة التى لاتحول ولاتزول .
إنه الشهوة المحض،الجنون العاصف والنواح.

وأتجاوز بالقول قليلا وأتقدم بحرص شديد وحذر أشد :

هل تختلف تجربة المرأة عن الرجل إذا ما صادف الحب قلبها؟


للحب علامات . 

صفحات من كتاب " طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف" لابن حزم الأندلسى 

"للحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي . فأولها إدمان النظر والعين باب النفس الشارع ، وهي المنقبة عن سرائرها ، والمعبرة لضمائرها ، والمعربة عن بواطنها . فترى الناظر لا يطرف ، ينتقل بتنقل المحبوب ، وينزوي بإنزواءه ، ويميل حيث مال .
ومنها علامات متضادة وهي على قدر الدواعي ، والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة . والأضداد أنداد ، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت ، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام . فهذا الثلج إذا أُدمن حبسه في اليد فعل فعل النار ، ونجد الفرح إذا أفرط قتل ، والغم إذا أفرط قتل ، والضحك إذا كثر واشتد ، أسال الدمع من العينين . وهذا في العالم كثير ، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما شديداً ، كثر تهاجرهما بغير معنى ، وتضادهما في القول تعمداً ، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور ، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه ، وتأولها على غير معناها ، كل هذا تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه .
والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة ، المضادة المتولدة عن الشحناء ومحارجة التشاجر ، سرعة الرضى ، فإنك بينما ترى المحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا تقدره ، يصلح عند الساكن النفس ، السالم من الأحقاد في الزمن الطويل ، ولا ينجز عند الحقود أبداً ، فلا تلبث أن تراهما ، قد عادا إلى أجمل الصحبة ، وأهدرت المعاتبة ، وسقط الخلاف ، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة ، هكذا في الوقت مراراً . وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ، ولا يدخلنك ريبة البتة ، ولا تتمار في أن بينهما سراً من الحب دفيناً ، واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف .ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة . هذا لا يكون إلا عن تكافٍ في المودة وائتلاف صحيح .
ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب ، ويستلذ الكلام في أخبارة ويجعلها هجيراه ، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها ، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر .
- ومن وجوه العشق : الوصل ، وهوحظ رفيع ، ومرتبة سرية ، ودرجة عالية ، وسعد طالع ، بل هو الحياة المجددة والعيش السني ، والسرور الدائم ، ورحمة من الله عظيمة . ولولا أن الدنيا ممر ومحنة وكدر ، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره ، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه ، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه ، وكمال الأماني ، ومنهى الأراجي .
ولقد جربت اللذات على تصرفها ، وأدركت الحظوظ على اختلافها ، فما للدنو من السلطان ، ولا المال المستفاد ، ولا الوجود بعد العدم ، ولا الأوبة بعد طول الغيبة ، ولا الأمن بعد الخوف ، ولا التروح على المال ، من الموقع في النفس ما للوصل ، ولا سيما بعد طول الامتناع ، وحلول الهجر ، حتى يتأجج عليه الجوى ، ويتوقد لهيب الشوق ، وتتضرم نار الرجاء . وما إصناف النبات بعد غِب القطر ، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج ، ولا خرير المياة المتخللة لأفانين النوار ، ولا تأنق القصور البيض ، قد أحدقت بها الرياض الخضر ، بأحسن من وصل حبيب قد رُضيت أخلاقه ، وحُمدت غرائزه ، وتقابلت في الحسن أوصافه ، وأنه لمعجز ألسنة البلغاء ، ومقصر فيه بيان الفصحاء ، وعنده تطيش الألباب ، وتعزب الأفهام وفي ذلك أقول :
وسائل لي عما لي من العمر : وقد رأى الشيب في الفوْدين والعذر
أجبته : ساعة لا شيء أحسبه : عمراً سواها بحكم العقل والنظر
فقال لي : كيف ذا بينه لي فلقد : أخبرتني أشنع الأنباء والخبر
فقلت : إن التي قلبي بها عَلِقٌ : قبلتها قبلة يوم على خطر
فما أعد ولو طالت سِنِي سوى : تلك السويعة بالتحقيق من عمري "
 
 
من فرط إعجابى بكتاب طوق الحمامة ..أنقل هذه الدرر عن العشق بالوصف دون المعاينة.ضبط نصه وحرر هوامشه : الدكتور الطاهر أحمد مكيص39،38 طبعة دار المعارف المصرية الطبعة الرابعة ،منقحة، 1985م


مختارات من طوق الحمامة فى الألفة والألاف


(4)
باب من أحب بالوصف

و من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة ، و هذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب ، فتكون المراسلة و المكاتبة ، و الهم و الوجد ، و السهر على غير الإبصار ، فن للحكايات و نعت المحاسن ، و وصف الأخبار ، تأثيرا في النفس ظاهرا .
و أن تسمع نغمتها من وراء جدار ، فيكون سببا للحب و اشتغال البال.

و هذا كله قد وقع لغير ما واحد ، و لكنه عندي بنيان عار على غير أساس ، و ذلك أن الذي أفرغ ذهنه في غير هوى من لم ير لا بد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها ، و عينا يقيمها نصب ضميره ، لا يتمثل في هاجسه غيرها ، قد مال بوهمه نحوها ، فإن وقعت المعاينة يوما ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية. 
و كلا الوجهين قد عرض و عرف ، و أكثر ما يقع هذا في ربات القصور ، المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال ، و حب النساء في هذا أثبت من حب الرجال ، لضعفهن و سرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن ، و تمكنه منهن.


و في ذلك أقول شعرا ، منه :

و يا من لا مني في حب من لم يره طرفيلقد أفرطت في وصفك لي في الحب بالضعف
فقل : هل تعرف الجنة يوما بسوى الوصف

و أقول شعرا في استحسان النغمة دون وقوع العين على العيان منه :
قد حل جيش الغرام سمعي ***و هو على مقلتي يبدو

و أقول أيضا في مخالفة الحقيقة لظن المحبوب عند وقوع الرؤية :
وصفوك لي حتى إذا أبصرت ما*** وصفوا علمت بأنه هذيان
فالطبل جلد فارغ و طنينه*** يرتاع منه و يفرق الإنسان

و في ضد هذا أقول :
لقد وصفوا لي حتى التقينا*** فصار الظن حقا في العيان
فأوصاف الجنان مقصرات ***على التحقيق عن قدر الجنان

و إن هذه الأحوال بين الأصدقاء و الإخوان ، و عني أحدث.
*خبر : 
إنه كان بيني و بين رجل من الأشراف ودّ و كيد ، و خطاب كثير ، و ما ترامينا قط ، ثم منح الله لي لقاءه ، فما مرت إلا أيام قلائل حتى وقعت لنا منافرة عظيمة و وحشة شديدة متصلة إلى الآن ، فقلت في ذلك قطعة ، منها :
أبدلت أشخاصنا كرها و فرط ***كما الصحائف قد يبدلن بالنسخ
و وقع لي ضد هذا مع أبي عامر بن أبي عامر ( 1 ) رحمة الله عليه . فإني كنت له على كراهة صحيحة و هو لي كذلك ، و لم يرني و لا رأيته ، و كان أصل ذلك تنقيلا يحمل إليه عني و إلي عنه ، و يؤكده انحراف بين أبوينا لتنافسهما فيما كانا فيه من صحبة لسلطان ، و وجاهة الدنيا. ثم وفق الله الاجتماع به فصار لي أو الناس ، و صرت له كذلك ، إلى أن حال الموت بيننا.
و في ذلك أقول قطعة ، منها :
أخ لي كسّبنيه اللقاء ***و أوجدني فيه علقا شريفاو قد كنت أكره من الجوار*** و ما كنت أرغبه لي أليفا
و كان البغيض فصار الحبيب *** و كان الثقيل فصار الخفيفا 
و قد كنت أدمن عنه الوجيف*** فصرت أديم إليه الوجيفا

و أما أبو شاكر عبدالرحمن بن محمد القبري ( 2 ) فكان لي صديقا مدة على غير رؤية ، ثم التقينا فتأكدت المودة و اتصلت و تمادت إلى الآن.
هوامش :1– الحديث أكيدا عن ابن لعبد الملك المظفر ، و ينفي أننا بصدد المظفر نفسه فارق السن بينه و بين ابن حزم ، فلقد كان والد ابن حزم و المظفر نفسه في خدمة هشام الثاني المؤيد ، كما يفهم ذلك من كلام المؤلف.
2 – ترجم له الضبي في كتابه ( البغية ) الترجمة رقم 1107 ، و أورد اسمه كاملا : عبدالواحد ( بدلا من عبدالرحمن ) بن محمد بن موهب بن محمد التجيبي ، أبو شاكر ، و يعرف بابن القبري. و قال إنه فقيه محدث أديب خطيب ، نشأ بقرطبة و سكن شاطبة ، و ولى الأحكام بها ، و أورد له الضبي ، برواية ابن حزم ، أبياتا من الشعر ، و ذكر أنه توفي عام 456 هـ = 1064 م .
 
 
قلت ذات يوم 

(1)
فى 20/7/2005م كتبت هذه السطور .

ابن حزم الأندلسى . . رائد أدب الإعترافات والسيرة الذاتية 

"كان طوق الحمامة أروع كتاب درس الحب فى العصر الوسيط ،فى الشرق والغرب ،فى العالمين الإسلامى والمسيحى ،تتبع أطواره ،وحلل عناصره ،وجمع بين الفكرة المفلسفة والواقع التاريخى ،وواجه أدق قضاياه فى وضوح وصراحة ،وكان ابن حزم الدارس الواقعى فى كل خطاه ،أفكاره محلقة ،وقدماه على الأرض ،ويصدر فى نظرته عن تجربة عميقة ،ذات أبعاد إنسانية واسعة ،وعن إدراك ذكى لطبائع البشر وسير الحياة ،فجاءت نتائجه صادقة ، لما ًتفقد بريقها ولا توهجها ، وإنها لتقف الآن فى مستوى أرقى الدرا سات عن الجنس والحب ".

هذا التقديم المشوق والحاسم ، لرائعة الإمام الفقيه إبن حزم الأندلسى "طوق الحمامة فى الإلفة والألاُف "للدكتور الطاهر أحمد مكى ، جعلنى مبهورا بهذا الكتاب وكثيراً ما أطالعه وأحرص على ذلك ،وأردد بعض أبياته ونثره السلس فى شبابى الغض ، ولاأنسى تعريفه للحب 
"
الحب -أعزك الله-أوله هزل وآخره جد.دقَت معانيه لجلالتها عن أن توصف ،فلاتدرك حقيقتها إلا بالمعاناة ,وليس بمنكر فى الديانة ، ولابمحظور فى الشريعة،إذ القلوب بيدالله عز وجل ."
بل أننى أؤكد لنفسى ،دائماً وأبداً، على أن هذا العبقرى العظيم وصاحب المذهب الظاهرى فى الدراسات الفقهية وكتابه العمدة "
الإحكام فى أصول الأحكام"، وكتابه الأروع والأعمق والأخلد "الأخلاق والسير فى مداواة النفوس "الذى كتبه فى أخريات حياته ،تاركا تجربته وذكرياته وكان أصدق مايكون وأعمق وأخلص لضميره وأنقى لروحه وإعترافاته الجريئة بحلو حياته ومرها ،بل أحيانا أ قول وأحسبنى متزيدا فى القول ،أن أدب الإعترافات والسير الذاتية ، كان رائده وبلامنازع ، ابن حزم الأندلسى وأذكر بعضاً من هذا الكتاب المتفرد"تطلبت غرضا يستوى الناس كلهم فى استحسانه،وفى طلبه ، فلم أجده إلا واحدا،وهو طرد الهَم.فلما تدبرته علمت أنَ الناس كلهم لم يستووا فىإحسانه فقط، ولا فى طلبه فقط،ولكنى رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم ،وتباين هممهم وإرادتهم،لايتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم ،ولاينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم ، فمن مخطىء وجه سبيله، ومن مقارب للخطا، ومن مصيب وهو الأقل من الناس ، فى الأقل من أموره، فطرد الهَم مذهب قد اتفقت الأمم كلها،مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداءويعاقبه عالم الحساب ،"
وإذا كنت قد استرسلت وبعدت قليلاًعن طوق الحمامة إلا أننى أعود وبسرعة إليه فهو مقصدى الذى أغوص فيه كى أمسك بجواهره النادرة وهو يؤكدالصدق ويقول ابن حزم "
ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن مالا يكاد يعلمه غيرى ، لأنى ربيت فى حجورهن ، ونشأت بين أيديهن،ولم أعرف غيرهن ،ولا جالست الرجال إلاَوأنا فى حد الشباب،وحين تفيَل وجهى، وهن علمننى القرآن ،ورويننى كثيراً من الأشعار ،ودربننى فى الخط،ولم يكن وكدى، وإعمال ذهنى مذ أول فهمى ، وأنا فى سن الطفولة جداً ،إلاَتعرف أسبابهن،والبحث عن أخبارهن ،وتحصيل ذلك، وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن،و أصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسؤ ظن فى جهتهن فطرت به ."
وبصراحة لا مواربة فيها ،أعتقد أن هذا الكتاب قد أمسك بتلابيب عقلى سنوات طوال ومازال ،إذ أننى وكلما طالعته أجد فيه جديدأ ، وهكذا يكون الخلود والتفرد على مدى العصور،لكتب ودراسات وآراء الفقيه العظيم الإمام ابن حزم الأندلسى ، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
(2)

20/10/2010م
طوق الحمامة فى الأفة والآلاف

ولد أبو محمد، على بن أحمد بن سعيد بن حزم ،فى قرطبة ،صبيحة الأربعاء آخر يوم من رمضان عام 384هجرية - 7من نوفمبر 994ميلادية ،وكما يذكر فى كتابه "طوق الحمامة .فى الألفة والآلاف"

ومما أذكره عن هذا العلاّمة أنه وقد عاش فترة اضطراب السلطة فى الأندلس وكان أحد ضحاياها فعانى السجن والقهر والذل .وكان المذهب المالكى وشيوخه وفقهاؤه الذين لهم الصولة والجولة والكلمة المسموعة ،وتقلبهم مع كل حاكم جديد وإصدار الفتاوى التى تتغير بحسب الأحوال .فصار المذهب المالكى هو السائد،فتوى وتشريع وتعليم وأحكام ،ومناهضة الحكام لأى مذهب سواه والعمل على تحجيمه بل ومعاقبة من يدين بغير الولاء للمذهب المالكى بعقوبات متعددة والتشهير به ومدى خطورته على تدين الناس وإفساد عقيدتهم .

وهكذا عاش ابن حزم فترة صعبة ثائراً وصاحب فكر ورؤية جديدة وكيلت له الإتهامات فى عقيدته ودينه وقناعاته الفكرية .لأنه لايميل إلى المذهب المالكى ويبشر بمذهب جديد.


ومن ثم كان التعتيم والإقصاء للمذهب الظاهرى الذى كان أحد أعمدته مع الشنترينى ،وطمس معالمه ومقاومة من يدرسه أو يقوم عليه .



هكذا أصبح رجالات وشيوخ وفقهاء وعلماء المذهب المالكى فى خدمة السلطان وبكلمته صار المذهب الوحيد الواجب نشره ،تعليماً وفتاوى وتشريعاً وأحكاماً، أما ماعداه من مذاهب أخرى فلابد من خنقها .



عرفتُ ابن حزم الأندلسى فقيهاً وقاضياً ومؤرخاً وتراثه الفكرى الذى يتنوع بين الفلسفة والتاريخ النقدى للأديان والفرق والمذاهب وكتابه الفارق "طوق الحمامة فى الألفة والألاف" الذى قرأته مراراً وتكراراً فهو فى نظرى أعظم وأروع وأعمق وأشمل كتاب كُتب عن الحب ،وقد كتبه وهو فى الثامنة والعشرين من عمره .
ويحكى د.زكى مبارك ..أنه لما قام بنشر هذا الكتاب ،هاجت العمائم وماجت واضطربت أمور شيوخ الأزهر وأنكروا أن يكون هذا الكتاب من تأليف الفقيه الكبير ابن حزم صاحب الإحكام فى أصول الأحكام .فالحب لديهم عار وأى عار والكتابة عنه عبث وقلة أدب ولايجوز أن يكتب ابن حزم هذا الكلام الفارغ الذى لايليق بالعلماء .
واجتمع شيخ الأزهر وعلماؤه للرد على هذ الفرية وانفض الاجتماع ولم يصدر بياناً .


وأعجبنى جداً كتابه"الأخلاق والسير فى مدواة النفوس" ،رأيت فيه تجارب عالم وثقافة متعمق فى الحياة وخبير بالنفوس البشرية وحكمة الشيوخ ورزانة العقل وسعة الأفق .بل رأيتها وصية من عالم جليل إلى الأجيال ،تتناقلها جيل بعد جيل . وأذكر من هذا الكتاب " من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها ،ولم يرافق فى الطريق إلا أكرم صديق " 
والكتاب على صغر حجمه ،عظيم الأهمية ،عميق التأثير .
 
 
الباب الخامس
من أحب من نظرة واحدة

وكثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة. وهو ينقسم قسمين، فالقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسما ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد.
خبر:
 حدثني صاحبنا أبا بكر محمد بن أحمد بن إسحاق عن ثقة أخبره سقط عني اسمه، وأظنه القاضي ابن الحذاء، أن يوسف بن هارون الشاعر المعروف بالرمادي كان مجتازاً عند باب العطارين بقرطبة، وهذا الموضع كان مجتمع النساء، فرأى جارية أخذت بمجامع قلبه وتخلل حبها جميع أعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يتبعها وهي ناهضة نحو القنطرة، فجازتها إلى الموضع المعروف بالربض. فلما صارت بين رياض بني مروان رحمهم الله المبنية على قبورهم في مقبرة الربض خلف النهر نظرت منه منفرداً عن الناس لا همة له غيرها فانصرفت إليه فقالت له: مالك تمشي ورائي? فأخبرها بعظيم بليته بها. فقالت له: دع عنك هذا ولا تطلب فضيحتي فلا مطمع لك في النية ولا إلى ما ترغبه سبيل فقال: إني أقنع بالنظر. فقالت: ذلك مباح لك. فقال لها: يا سيدتي: أحرة أم مملوكة? قالت: مملوكة. فقال لها: ما اسمك? قالت: خلوة. قال: ولمن أنت? فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه، فدع المحال. فقال لها: يا سيدتي، وأين أراك بعد هذا? قالت: حيث رأيتني اليوم في مثل تلك الساعة من كل جمعة. فقالت له: إما أن تنهض أنت وإما أن أنهض أنا فقال لها: انهضي في حفظ الله. فنهضت نحو القنطرة ولم يمكنه أتباعها لأنها كانت تلتفت نحوه لترى أيسايرها أم لا. فلما تجاوزت باب القنطرة أتى يقفوها فلم يقع لها على مسألة.
قال أبو عمرو، وهو يوسف بن هارون: فوالله لقد لازمت باب العطارين والربض من ذلك الوقت إلى الآن فما وقعت لها على خبر ولا أدري أسماء لحستها أم أرض بلعتها، وإن في قلبي منها لأحر من الجمر. وهي خلوة التي يتغزل بها في أشعاره.
ثم وقع بعد ذلك على خبرها بعد رحيله في سببها إلى سر قسطة في قصة طويلة.
 ومثل ذلك كثير.

وفي ذلك أقول قطعة، منها:
عيني جنت في فؤادي لوعة الفكر*** فأرسل الدمع مقتصاً من الـبـصـر
فكيف تبصر فعلالدمع منـتـصـفـاً***منها بإغـراقـهـا فـي دمـعـهـا الـدرر
لم ألقها قـبـل إبـصاري فـأعرفها***وآخر الـعـهـد منها سـاعة الـنـظـر

والقسم الثاني مخالف للباب الذي يأتي بعد هذا الباب إن شاء الله، وهو أن يعلق المرء من نظرة واحدة جارية معروفة الإسم والمكان والمنشأ، ولكن التفاضل يقع في هذا في سرعة الفناء وإبطائه، فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة البصر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الظرافة والملل. وهكذا في جميع الأشياء أسرعها نمواً أسرعها فناء. وأبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاذاً.
خبر: 
إني لأعلم فتى من أبناء الكتاب ورأته امرأة سرية النشأة، عالية المنصب، غليظة الحجاب، وهو مجتاز، ورأته في موضع تطلع منه كان في منزلها، فعلقته وعلقها وتهاديا المراسلة زماناً على أرق من حد السيف، ولولا أني لم أقصد في رسالتي هذه كشف الحيل وذكر المكائد لأوردت مما صح عندي أشياء تحير اللبيب وتدهش العاقل،أسبل الله علينا ستره وعلى جميع المسلمين بمنه، وكفانا.
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق