بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

طعم الهزيمة المُر


(1)

كم من الزمن يتبقى لى حتى أشهد يقظة العقل العربى .
قل لى ولاتضن بالإجابة عساى أهدأ ويطئمن بالى ؟؟؟؟
هل أجيال الهزائم تتابع دون فواصل ، دون توقف ؟؟؟
صدقنى أيها الصديق، إن طعم الهزيمة المر لايفارق روحى ، وأقص هذه الحكاية التى عشتها بعقلى ووجدانى وهى محفورة فى ذاكرتى ،متوهجة،حية ،تقتات روحى وتستكين بأعماقى .

فى سنة 1967وتحديداً شهر يونيو ، هزيمة يونيو المدوية الساحقة الماحقة للعقل العربى والإرادة العربية والكبرياء العربى ، كنت أبلغ آنذاك 13سنة ، وكنا نمتلأ بالحلم العربى والصمود العربى ونزهو بالقومية العربية والتحدى الخلاق للتخلف والرجعية وسحق الإستعمار الجاثم فوق نفوسنا ، وواقفاً أنا مع أمى وعمى على الطريق بجوار سوق بيع الخضروات ، نبيع ما جمعناه من أرضنا من محصول الخيار ، وفجأة يمتلأ الطريق بالسيارات العسكرية حاملات الجنود العائدين والمنسحبين من سيناء بعد إحتلالها وسحق القوات المصرية بها ، وكان هؤلاء الجنود الشعث الغبر الجوعى العطشى الممزقى الثياب الزائغى الأعين المهزومين الضائعين التائهين ،مئات السيارات بل الألوف تحمل فلذات الأكباد أبناء مصر البررة ، المخدوعين ، الذين إنهزموا قبل الحرب ،قبل القتال ، تركوا السلاح والمعدات للصهاينة ،غنيمة حرب لم تقم ، والألوف من الجنود تُركوا بسيناء المحتلة ،غنائم حرب ، للعدو المتربص بنا دوماً وإلى آخر الزمان ،عيونهم ، ملابسهم ، أشكالهم ، الحسرة ، والضياع الذى يسربلهم وإلى المتاهة يأخذهم . 
ولم نجد بداً ولم نجد مناصاً أن يبادر الرجال والنساء بإيقاف هذه السيارات وإعطاء الجنود الأكل والخضروات والمياه والسجائر ، صار السوق يقذف بكل مابه لهؤلاء المساكين العراة الحفاة المهزومين .

أيها الصديق.... ، هذه الصورة المرعبة لاتفارقنى أبداً مسكونة بى مسكون بها ،وتأتى الهزائم متعاقبة ومتوالية ، أشاهدها شابا يافعا ورجلا ناضجا وشيخا هرما ،ومازالت العقلية المهزومة ، تحكمنا ،وتصنع بنا الأعاجيب ، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا.

"والإختلاف بين ما نشهد من أزمة العقل فى العالم المتطور وبين ما ندعوه أزمة العقل فى مجتمعاتنا المتخلفة هو ان الأزمة عندهم أزمة مابعد العقل ، على حين أننا لانزال نمر بأزمة ماقبل العقل ، مازلنا نشهد كتابات تريد تؤكد أن أحدث الكشوف العلمية لها أساس فى النصوص ..."
 د.بشير العظمة ، جيل الهزيمة،طبعة 1991م دار رياض الريس للنشر،ص242


اليوم وكل يوم تتكرر الصورة المرعبة أمامى ، فى فلسطين ، العراق ، السودان ، وقريبا سوريا والبقية تأتى ....

إنها أجيال من الهزائم تتوالد وكأنه قدر متربص بنا ، لافكاك ولامهرب ولامفر ؛؛؛؛؛؛

(2)

وعشت أجواء الهزيمة المروعة القاصمة الساحقة لكبريائنا والتى أعادتنا إلى وراء الوراء ، وجعلت منا أضحوكة الأمم والدول ،واحتلال أجزاء من البلاد العربية وضياع فلسطين وسحق ومحق الشعب العربى الفلسطينى ، وزوال الصمود العربى وسيطرة الخرافات والأكاذيب على عقولنا وأرواحنا وسيادة الدروشة والإتكالية والتوهمات والتماس الحلول من أولياء الله الصالحين .

كنت فى سنى الأولى ، أرى هزيمة يونيو أو حزيران ، ماثلة فى كل شىء ، الحزن والهم والغم والضياع ، بيوت كثيرة يطل الصراخ منها لفقد ابنها واللطم والبكاء الموجعان للقلوب والأفئدة ، وبيوت تقيم السرادقات لتلقى العزاء فى عائلها الشهيد ، وبكاء الرجال والأطفال ، صور مرعبة وحزينة ومؤلمة ،ماثلة فى عيونى وقلبى وعقلى لاتفارقنى مع تقدم العمر .

وفى ظل هذه الأيام المهزومة والمنكسرة ، وجدت والدى يرحمه الله وهو الرجل المثقف والقارئ لأحدث ماتجود به المطابع من دراسات وأبحاث ، يأتى إلى البيت مسرعا ويدخل إلى المكتبة ويبحث عن نسخ القرآن الكريم ، ويفتح كل نسخة عند سورة "محمد" ، ودنوت منه بهدؤ وعلى أطراف أصابعى ، وسألته :ماذا تفعل
 فقال لى بكل ثقة ووجهه يفيض بالفرح ويعلوه الإنشراح : سننتصر بإذن الله ، وأن الشيخ القطب فلان الفلانى قد قص علينا رؤيا صادقة ، أن الرسول "ص" قد زاره فى المنام وبشره بالنصر المبين على أعداء الله والمسلمين واسترجاع فلسطين وزوال اليهود !!!!!وأن الدليل على صحة ذلك وجود شعرة من ذقن الرسول فى المصحف .
 وكل هم والدى هو البحث عن هذه الشعيرات بين الصفحات ، وطال الوقت وهو يكد ويبحث عن الشعيرات ،وفجأة إنهار قاعداً على الأرض وهو يضرب كفاً بكف ، ويحوقل ويهذى ويتغضن وجهه .

 وأصبح الحديث يدور ليلا ونهارا عن البشارة بالنصر ، فى الشوارع ، وفى المساجد ، كانت الدروس الدينية تنصب على هذه البشارة وأن النصر آتٍ لاريب فيه ، ولم يطل الوقت ، وظهر الرئيس/ جمال عبدالناصر ,هو يعلن تنحيه عن الرئاسة ويؤكد الهزيمة المدوية .....ولم يستطع الفكر المتخلف ، العائش فى الخرافة ، أن يصمد فى وجه الحقيقة المرة ، والذى _وقت الهزائم والإنكسارات _يطل بوجهه القبيح ، كى يبررويلفق ويزَور ويأتى بالأسانيد والنصوص ويلوى عنق الحقائق ، وأصبحت الجوقة تعزف وتنشد وتردد وتهتف وفرضت سياسة الإلهاء ، وكثر إشاعة التفاهات والخرافات وصار الرقص قانوناً عاماً ، والهلس فى الإذاعة والتلفزيون ، والأشباح والأرواح والغرائب والأساطير والذين هبطوا من السماء والذين عادوا إليها تملأ الكتب والمجلات والجرائد ، تغييب الوعى وتزييف الحقيقة وسيادة التسول الفكرى ،والإنحطاط العقلى والدخول فى متاهة الشعوذة والسحر وقراءة الكف ، ولم نخرج بعد من هذه المتاهة.

(3)

التشبث بالخوارق والسعى إليها بقوة وبدون تفكير وكأننا نعاج مسوقة للذبح ،كان شعار تلك المرحلة ، بل التقهقر إلى الوراء وحملات التفتيش التاريخية والتنقيب فى حفريات الماضى السحيق ومحاولة العثور على أمجادنا الدفينة وانتصاراتنا المتعددة على الأعداء عبر العصور ،وامتشق المؤرخون والكتاب و الصحفيون الأقلام ودبجوا المجلدات الكثيرة فى عظمة وروعة وعبقرية الأجداد الذين ننتسب إليهم ، وأن ماحدث من هزيمة مروعة وفادحة وساحقة ، بكل المقاييس العسكرية ،شىء لانخجل منه ويجب ألا نتوارى مما حدث ، فالأمم العظيمة تتعرض للنكسات !!! وأصبح كتاب( شخصية مصر) للدكتور جمال حمدان ،الأكثر تداولا وذيوعا وانتشارا ،صار حديث المجالس والنوادى الأدبية ، لقد عثرنا بقدرة قادر على حقيقتنا وذواتنا ووجودنا ،بمجرد بضع مقالات أوبعض الكتب !!!!!!!!!!
هل نحن بحاجة إلى هذه المقالات أو الدراسات حتى نعرف أنفسنا ؟؟؟؟؟
كيف يحدث والثورات التحررية فى معظم بلدان المعمورة من صنع قادتنا العظام،وعبدالناصر(
متعهد بناء أمجاد العرب )؟؟


الصاعقة المدوية أن يبقى كل شىء على حاله ،أن تضيع سيناء ، ويموت، مئات الآلاف من جنودنا وضباطنا وتسلب أسلحتنا وذخائرنا وينتهك عرضنا وشرفنا وكرامتنا ،أشياء ليست فى الحسبان ولاقيمة لها ولافائدة منها وينبغى السكوت المطبق وعدم إثارتها تحت أى مسمى .
 
لكن الصراع على السلطة هو المعركة الحاسمة بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر ،ولم تجف بعد الدماء المهراقة فى صحراء سيناء ،ولم يزل جنودنا تائهين فى الجبال ،مشردين ،حفاة عراة جوعى عطشى ،أصبحوا فرائس لعدو نهم للدماء ،وطيور جارحة وحيوانات متوحشة ..

ويسجل ثروت عكاشة ،فى ملحمته الصادقة ،مذكراتى فى السياسة والثقافة ،شارحاً وموضحاً:
"حتى إذا ماكانت صبيحة يوم الإثنين 5 يونية ......فؤجئت مصر با لعدوان الإسرائيلى الذى هدفه الأول القضاء على السلاح الجوى المصرى فى مرابضه،وكانت -يعلم الله-نكبة وأى نكبة منيت بها مصر ومنيت بها القوات المسلحة .
غير أنه كان طبيعيا أن تقع هذه الهزيمة المروعة لأن القوات المسلحة ظلت فى أيدى قادة تجمد مع مرور الزمن فكرهم واكتسبت مناهجهم البالية قدا سة الآلهة المعبودة ،فى حين أن الزمن قد عفا عليها مع التطورت المتلاحقة والمذهلة .
ولو كان المشير عامر قد ترك مكانه يوم قرر مجلس السيادة ذلك عام 1962،وأسلمه لقائد محترف يتابع خطى التقدم المعاصرة فى العلوم والفنون العسكرية أو لو كان عبدالناصر قد حزم أمره وأصر على تنحيته عن قيادة القوات المسلحة رغم كل ما ناور به المشير عامر وهدد وأوعد ،لما حاقت بمصر تلك النكبة ."

ص374 من الجزء الثانى . الطبعة الثانية. سنة1990 دار الهلال .مصر 
______________
كتبتها ،14/1/2006م  ، فى موقع الوراق 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق