بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

لا تنسونا .. حتى نلقاكم

انقضت أيام رمضان وهلّ قمر عيد الفطر ..ولم أكن حاضراً كى أشهد العيد بين الأهل والصحاب . 
فى النصف الثانى من شهر رمضان،تركت البيت والأهل والصحاب، ورحلت إلى "جمصة "لأغتسل من هموم وأوجاع تحاصرنى وتفت فى عضدى وتُعلقم روحى .
اصطحبتُ زوجتى وابنى .
أتامل البحر العظيم وأراقب سكونه وهياجه .
يُحدثنى جلال الدين الرومى ويقص علىّ حكاياته وأقاصيصه وأشعاره فى المثنوى وشمس تبريز ، تقلقنى حيناً وتطربنى حيناً آخر .
كم عشتُ الساعات الطويلة .. أتحدث مع هذاالصوفى الأعظم مولاى جلال الدين الرومى ..
تذكرت فريد الدين العطار ورائعته منطق الطير وبكيت للنهاية المؤسفة للحلاج .
روحى هائمة معلقة بهؤلاء القادة ،تطير خلفهم وتسعى للوصول إليهم .
هذه التجليات التى تشدنى نحو عوالمهم الخارقة وحياتهم المتواضعة وصفاء قلوبهم . 
تذكرتُ أبى وأمى رحمهما الله ..دمعت عيناى ،تاقت نفسى لرؤيتهما ،التحدث معهما ،أضع رأسى على فخذ أمى (توفيت 29يوليو 2012م).
أتامل صفاء عينيها وجمال وجهها وهدوء روحها .
تاقت نفسى للحوار الجاد والموضوعى مع أبى(67عاماً) والصراع الفكرى والدينى المحتدم، بيننا ،الذى كان ولم ينته حتى بعد مماته(29مايو1990م) ،

فدائماً أجده فى خلال مناقشاتى مع الآخرين ،بل يشعر الآخرون بذلك .
ويؤكدون لى أننى أذكر أبى كثيراً واختلافى أو إتفاقى معه وكأنه حاضرٌ بيننا.
كنت أرد عليهم:أن الأفكار لاتموت بمرور السنين وهى عُرضة للفحص والتمحيص ،حتى وإن مات قائلها منذ مئات السنين.
تمنيت ،وفى كل الأعياد، أن أزور قبريهما . 
أوصت أمى(72 عاماً) أن تُدفن مع أبيها الذى مات ولم تبلغ السنتين ،وحرصت على ذكراه ،منذ وعت موته، تتمنى رؤيته وتوصنى مراراً وتكراراً ألا تُدفن إلا بجواره .
أنظر إليها بحزن وحب وأدعو لها بطول العمر ، وأؤكد لها تنفيذ وصيتها إذا طال أجلى بعدها ،ثم أهمس لنفسى ..
لماذا كل هذا الحرص وماذا تبقى من جسد هذ الأب؟
يومياً.. أمر على مقابرنا فقد أحاطتها البيوت من كل ناحية .،لكن هذا العيد ألحت علىّ نفسى للزيارة ..وبينى وبينها مسافات ومسافات .
عدتُ مشتاقاً لزيارتهما ..وانسالت على ذاكرتى قصيدة الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور "زيارة الموتى ".
حفظتها مع قصائد أخرى ،.فعبدالصبور من شعرائى المجيدين ومن رفاق الصبا رحمهم الله .

زرنا موتانا في يوم العيد
وقرأنا فاتحة القرآن، ولملمنا أهداب الذكرى
وبسطناها في حضن المقبرة الريفية
وجلسنا، كسرنا خبزاً وشجوناً
وتساقينا دمعاً و أنيناً
وتصافحنا،
وتواعدنا، وذوي قربانا
أن نلقى موتانا
في يوم العيد القادم.

يا موتانا
كانت أطيافكم تأتينا عبر حقول القمح الممتدة
ما بين تلال القرية حيث ينام الموتى
و البيت الواطئ في سفح الأجران
كانت نسمات الليل تعيركم ريشاً سحرياً
موعدكم كنا نترقبه في شوق هدهده الاطمئنان
حين الأصوات تموت،
ويجمد ظل المصباح الزيتي على الجدران
سنشم طراوة أنفاسكم حول الموقد 
وسنسمع طقطقة الأصوات كمشي ملاك وسنان
هل جئتم تأنسون بنا؟
هل نعطيكم طرفاً من مرقدنا؟
هل ندفئكم فينا من برد الليل؟
نتدفأ فيكم من خوف الوحده

حتى يدنو ضوء الفجر،
و يعلو الديك سقوف البلدة
فنقول لكم في صوت مختلج بالعرفان
عودوا يا موتانا
سندبر في منحنيات الساعات هنيهات
نلقاكم فيها، قد لا تشبع جوعاًن أو تروي ظمأ
لكن لقم من تذكار،
حتى نلقاكم في ليل آت.

مرت أيام يا موتانا ، مرت أعوام
يا شمس الحاضرة الجرداء الصلدة
يا قاسية القلب النار
لم أنضجت الأيام ذوائبنا بلهيبك
حتى صرنا أحطاب محترقات
حتى جف الدمع النديان على خد الورق العطشان
حتى جف الدمع المستخفي في أغوار الأجفان

عفواً يا موتانا
أصبحنا لا نلقاكم إلا يوم العيد
لما أدركتم أنا صرنا أحطاباً في صخر الشارع ملقاة
أصبحتم لا تأتون إلينا رغم الحب الظمآن
قد نذكركم مرات عبر العام
كما نذاكر حلماً لم يتمهل في العين
لكن ضجيج الحاضرة الصخرية
لا يسعفنا حتى أن نقرأ فاتحة القرآن
أو نطبع أوجهكم في أنفسنا، و نلم ملامحكم
ونخبئها طي الجفن.

يا موتانا
ذكراكم قوت القلب
في أيام عزت فيها الأقوات
لا تنسونا .. حتى نلقاكم
لا تنسونا .. حتى نلقاكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق