بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 نوفمبر 2014

شهر رمضان ..أفراحٌ وذكريات

(1)

ما إن يأتى شهر شعبان وتمضى أيامه إلا قليلاً منها ،إلا وأجد فى بيتنا استعداداً عظيماً لاستقبال شهر رمضان الكريم ،وتصرّح جدتى بأن روايح رمضان هلّت ، ويجب إعداد العدة لمقدمه الميمون .
ويمتلأ البيت سروراً وابتهاجاً بمقدم الشهر الفضيل .وتعم الفرحة كل أفراد الأسرة.
وتحرص جدتى على معرفة كميات الدقيق والسمن والأرز وعدد الدواجن والبط والأوز والبيض والجبن واللبن.
وهل ستكفى المدة من أول شهر رمضان وحتى نهاية أيام العيد ؟

كنت صغيراً ..أحاول أن أعرف ماذا يدور بين جدتى وأمى وأبى وهم يجتمعون للحوار والمناقشة
وتحديد أيام العزومات للأهل والأصدقاء للإفطار عندنا.

فشهر رمضان شهر التقوى والصوم والصلاة والكف عن اقتراف المعاصى والتصدق على الفقراء والمعوزين ،مصداقاً لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل شهر رمضان ،أُغلقت أبواب جهنم وصُفدت الشياطين" .
أشاهد جدتى الصارمة الجادة، القاطعة القول ،السديدة الأمر ،وهى تجلس بحجرة الخزين لكى تتأكد بنفسها وتعيد وتزيد فى القول على أمى الجالسة أمامها فى هدوء وسكينة وانتباه ،حتى لاتنسى شيئاً ،وتنتظر عودة أبى ليلاً كى تعيد على أسماعه ما تريده من بلح وقمر الدين ومكسرات رمضان وسكر وشاى وبن وسحلب .
أنصت فى سعادة وكلى فرحة غامرة ،وأعد نفسى للإفطار مع أصحابى فى الشارع ،كى نتشارك فى إفطار مجمّع ونسميه "خرجة رمضان بكسر الخاء والراء والجيم" ويأتى كل طفل بما عندهم من أطعمة . 
ثم التجمع للتوجه إلى المسجد لصلاة العشاء والتراويح ثم اللعب والسهر مع مايقدمه الراديو"المذياع" من برامج ومسلسلات وأحاديث،والتنبيه على الأهل بأن لايفوتنا السحور، فلابد من إيقاظنا بأى وسيلة .

لن أنسى هذه اللحظات الجميلة التى عشتها طفلاً وصبياً بل وشاباً وشيخاً فى نهاية عقده السادس .
فشهر رمضان من أروع الشهور وأحبها إلى روحى وقلبى والتى أنتظرها بلهفة وشوق وحب .
أفراحى وذكرياتى، فيه، لاتنتهى . 
آمل أن يشاركنى أهلى وأصدقائى ،من أعضاء وعضوات الملتقى الكرام ،فرحتى وذكرياتى ويفيضون علينا بأفراحهم 
وذكرياتهم عن هذا الشهر الفضيل .

أعاده الله علينا وعليكم وعلى الأمة الإسلامية باليمن والبركات .

وكل عام وأنتم جميعاً بخير ..


(2)


انتظار ليلة الرؤية من اللحظات المغروسة فى ذاكرتى ،ترقبٌ يطول ، الجميع بعد صلاة العشاء يتراهنون فيما بينهم .
الصيام بكرة ولا بعده؟؟ 
يأتى صديقُ من آخر المسجد ليسمعنا الحديث النبوى الشريف"
صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" وينبرى أحد شيوخ القرية شارحاً وموضحاً ،أن دار الإفتاء هى المكلفة ببيان رؤية القمر وأن مفتى الديار المصرية سيلقى بياناً عبر الإذاعة ،فلم تكن مصر قد أدخلت التلفزيون بعد.
المشكلة فى القرية.. أن الراديو محدود الانتشار فى نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضى ، وهو موجود لدى قلة معدودة من الناس .فيجب أن نترقب وصول من يُدلى لنا بما انتهى إليه مفتى الديار المصرية .
كلنا آذان صاغية وقلوب متلهفة وعيون متطلعة والتساؤل المسيطر على الأفئدة ،هل بُكرة رمضان؟ 
فإذا أكد لنا الوافد حامل الخبر أن بكرة رمضان ..
رأيت المسجد وقد علت فيه التكبيرات وعلت الأصوات فرحة مبتهجة وتبادل الجميع التهانى بحلول الشهر الفضيل ..وبالقرب من محراب المسجد ،صوتٌ جميلٌ يتلو
:

بسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي185نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي186نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيأُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي187
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيصدق الله العظيم
 
 
(3)

فرحة وذكرى لليلة الأول من رمضان ،فقد ثبتت رؤية هلال رمضان وعمت الفرحة الأهل والجيران والعائلة ودبت الحياة فى أرجاء القرية وأضيئت المساجد.
ونجتمع نحن الصغار كى نلعب فى شارعنا ونطوف فى الشوارع والحارات الأخرى،فرحين وسعداء ، ننادى على أصحابنا وتعلوأصواتنا الرفيعة بالغناء:
رمضان كريم ياحاللو ..حاللو ياحاللو رمضان كريم ياحاللو.
ونظل نلعب فترة طويلة حتى تهمد فينا الحركة ثم يعود كل منا إلى بيته ،آملين من الأهل أن يوقظونا للسحور .. 
ولا أنسى جدتى أم أبى ،فقد كنت أنام معها فى غرفتها ،فهى التى تعتنى بى وتشرف على تربيتى، وأنا أؤكد عليها وأن تحلف لى بالله العظيم ، أن توقظنى ساعة السحور ،حتى أسمع المسحراتى وهو ينادى على اسمى ويدعونى للسحور وأسمع صوته الجهورى العالى وهويقول : ياعباد الله وحدوا الله .....وقت السحور يستقيظ كل من فى البيت وتدب الحركة فى "مرقد اللبن " وهى غرفة كغرفة الخزين تصطف فيها طواجن اللبن ،الأقدم فالأحدث ،وبرنية السمن الضخمة وصنية قطع الجبن القريش وحصائر الجبن الذى لم ينضج بعد معلقة على الجدران وزلعة العسل الأسود.
كنت أهوى وأعشق القشدة الجاموسى وبيض الفراخ البلدى المسلوق والعيش خاص ثم طبق الفول المدمس بالسمن البلدى ..
ياله من سحور شهى !!! 
آكل بشهية وفرحة طاغية تملأ روحى ..وبعدما أشبع ، أقول :الحمد لله ثم أشرب وأتمضمض وأنوى الصيام وأردد وراء جدتى :"
نويت الصيامغداً من شهر رمضان " 
وهكذا كل يوم بعد السحور،أردد هذه الكلمات ..
ولما وعيت وأدركت اليوم من الغد ،قلت لجدتى :
نويت الصيام اليوم من شهر رمضان..
وأظن جدتى علاها الدهشة من قولى هذا ! 
وأزعم أننى قلت لها :
اليوم يبدأ من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وينتهى فى اليوم التالى الساعة 12 ليلاً. فالأبلة فى المدرسة قالت لنا ذلك..
وتصمت جدتى ثم تقول :
أهم حاجة تصوم وتحافظ على الصلاة ولسانك ماينطقش بكلمة وحشة.
 
 
(4)
ويأتى اليوم الأول من رمضان وقد تغيّر نظام الحياة ،فلم يكن اليوم هو اليوم المعتاد والمألوف ،ففى الصباح وأثناء ذهابى إلى المدرسة أرى الناس وهم يلقون السلام ثم يتبعونه بكلمة رمضان كريم وكل سنة وأنتم طيبون .

النفوس هادئة والوجوه باسمة والكلمات ضاحكة .
ماهذا الذى أراه وأشعربه؟؟!

​هذه السيدة جارتنا التى ما إن نضع الكرة الشراب على الأرض فى شارعنا كى نلعب تقسيمة إلا وتخرج علينا زاعقة وصارخة فينا ولاعنة الساعة التى جئنا فيها، ولاتكتفى بهذا بل تدخل كى تحضر طشت مياة وتنشر المياة تحت أقدامنا ،فنتوقف على الفور وننسحب منكسرين وكأننا هزمنا شر هزيمة . 
ويعلو صوت واحد منا بالسب والشتم إلا أننا ننهره بشدة آملين إلا تكون قد سمعته . 
أجدها الآن تنظر نحوى وتقول بحنان ورقة :
رمضان كريم يا رأفت ،
وأرد عليها بحياء:
كل سنة وأنتم طيبين ..

لسانى معقود من الدهشة لتغيّر الحال بين يوم وليلة . 
سبحان الله. 

واقترب من باب المدرسة الخشبى الضخم جداً، فأجد زملائى متفرقين فى الحوش ،فاقول لهم بوجه ضاحك :
كل سنة وأنتم طيبين.فيردون علىّ وهم ضاحكون باسمون:كل سنة وأنت طيب رمضان كريم. 

شىءٌ جميلٌ وصباح أجمل مما أظن.

وهاهو فراش المدرسة الفظ غليظ القلب الحاد اللسان الذى أخشاه وأنأى بنفسى عنه ..يمر بيننا وصوته الخشن، وقد تحول بقدرة قادر إلى سكينة ووقار ،يقول :رمضان كريم ياولاد وكل سنة وأنتم طيبين .

ويدق الجرس لنقف طابور الصباح ويطل علينا وجه الناظرة الجميل لكى تقول للجميع :
رمضان كريم وكل سنة وأنتم طيبين .

كل هذا فعله رمضان فى الناس .
ما أعجب رمضان وما أروعه ..
إذا كان رمضان يفعل كل هذا التغيير فى نفوس الناس ، فلماذا لاتكون كل أيامنا رمضان
؟
 
 
(5)

أشعر أن الشمس وهى تعتلى كرسيها فى عرشها السماوى تبتسم، وقد هدأ لهيبها فوق الرؤوس والسماء صافية .
وهاهى النسائم العليلة تملأ الأجواء وتسرى فى الصدور ابتهاجاً وانشراحاً.
وهاهى شجرة الصفصاف "التى نُطلق عليها شجرة شعر البنت "التى ألوذ بها واحتمى بجدائلها الطويلة المسترسلة ،تتراقص طرباً وأنا مقبلٌ عليها تكاد من شدة فرحتها ،أن تضمنى فى صدرها .
وأتامل صفحة مياة الترعة الصافية، فأرى الأسماك تسير فى جماعات ،والضفادع تتقافز وأرفع رأسى فأرى أسراب العصافير والحمام واليمام ،فرادى وجماعات،تحلق وترسم أشكالاً على هيئة السهم أوتحوّم بأجنحتها .
وهاهى الغيطان وقد اكتست بالسندس الأخضر من مزروعات، تتمايل أعوادها وأوراقها مع النسيم الرقيق ،يميناً ويساراً.
وهاهى طيور أبو قردان الطويلة الأرجل والمنقار، البيضاء الريش ،والتى يُطلق عليها "صديق الفلاح" كما هو مكتوب فى كتاب المطالعة المدرسى، تنتشر على مدى البصر وتلتقط الحشرات الضارة الفاتكة للمزروعات .

وأنا أتأبط شنطة كتبى المدرسية ،ساحباً الجاموسة الوديعة الهادئة التى تسير خلفى فى سكينة وطمأنينة
وقد وصلنا إلى غيطنا ،فأربط حبلها فى الوتد ثم آتى لها بالبرسيم ثم أستظل بشجرة الصفصاف وزقرقات العصافير الطروبة فوق أغصانها تعلو رويداً رويداً،وأفتح شنطة كتبى لكى انتهى من الواجبات المطلوب عملها ..
ويمر الوقت سريعاً وأنا مشغولٌ بكتبى وكراساتى .
وأنتبه، بين الحين والحين،على صوت رجل أو إمرأة أو زميل أو صديق يطلق السلام ثم يردف قائلاً: رمضان كريم وكل سنة وأنت طيب يارأفت ..وأرد بفرحة : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. رمضان كريم ياعم فلان أو ياخالة فلانة أو يامحمد ...رمضان كريم وكل سنة وأنت طيب..
وأرفع رأسى عن الكتاب ،فأرى الجاموسة قد أكلت وشبعت ورقدت تجتر بفمها بعض البرسيم.

يااااه الشمس توشك على الرحيل ولابد من العودة..

وهاهم الأهل والجيران والأصحاب يجدّون فى السير بمواشيهم للرواح قبل آذان المغرب للإفطار بعد يوم حافل بالأعمال والمشقة من فلاحة الغيطان والاعتناء بالمواشى ..
وعلى البعد، أخى الصغير يقابلنى ويقول :إتأخرت كده ليه ..المغرب قرّبت .
 
 
(6)


وأدخل البيت ،فأجد الطعام قد تم رصه على طبليتين ،وقد أبدعت جدتى وأمى فى طبخ الطعام مابين لحم دواجن وأرز معمر مدسوس فى الفرن البلدى وبطاطس دمعة وعيش خاص ولفت مخلل ودورق البلح وأكواب زجاجية وملاعق وسلطة طماطم وبصل وجزر .. ودورقين للمياة العذبة بهما قطع ثلج .
ويتصدر الطبلية الأولى الكبيرة والدى وبجواره عمى أصغر أشقاء والدى ثم ابن عمهماالمتوفى، وعلى الطبلية الثانية الصغيرة جدتى وأمى وأختى الصغيرة .. وأجد مكاناً لى وأخى على الطبلية الأولى . 
كنت فى بادئ الأمر أندهش من وجودنا على طبلية وجدتى وأمى وأختى أمام طبلية أخرى .
لكن يبدو أن هذه التفرقة سمة هذا العصر الستينى التى رأيتها قائمة حتى فى الغيط ،فالذكور فى ناحية والإناث فى ناحية أخرى ،ساعة الأكل ،رغم أنهما طول النهار مع بعضهم !

وانطلق صوت المؤذن .
وصاح أبناء الشارع.. أن حانت لحظة الإفطار .

وتبدأ معركة الشرب والأكل ..
فاليوم كان طويلاً ..والبطون جائعة والحلوق جافة واللهفة على شرب الماء يتسابق عليها الجميع ،وربما امتلأت البطون ماءًا وبقى الطعام كما هو.
 
 
(7)


وها قد تم الإفطار والطعام كأنه لم يؤكل ،فما أسرع أن قام والدى وجلس على المصطبة المفروشة بالحصير وتكيتين من القطن ،وقد أشعل سيجارته البلمونت ولحق بعده عمى ثم أنا .
وظل أخى الصغير وابن عم والدى يمدان الملاعق قى الأرز وأحسب أنهما لا يأكلان ولكنها عادة إكتسباها ،أن يكونا آخر من ينتهى من الأكل .
وما أسرع أن قامت أمى لعمل الشاى .
فالشاى فى بيتنا مشروب رئيسى يشربه الكبار والصغار والنساء لأكثر من مرة . 

وأنسحب مستأذناً للذهاب إلى الجامع لصلاة المغرب والبقاء حتى صلاة العشاء والتراويح .
وأدخل الجامع المضاء بكلوبات الكيروسين ومهما تعددت الكلوبات ،فالإضاءة شاحبة والقرية يُخيم عليها الظلام إلا من أضواء متسربة من شبابيك البيوت ،فلم تكن الكهرباء قد هلّ نورها فى البلاد بعد .
وأقرفص أمام حنفية الوضوء وأبدأ فى الوضوء وحولى أترابى يحدثون ضجيجاً، وكل منهم يسأل الآخر،
ماذا أفطرت اليوم؟ وتتنوع الإجابات .

وأنهض لأصلى المغرب.. وها هى صلاة جماعة فألحق بها ..
ويتحول الجامع رويداً رويداً من هدوء وسكينة إلى همهمات وأصوات عالية وقص حكايات عن فلان الذى نسى اليوم وشرب ماءًا وارتوى ثم سأل الشيخ فلان الذى له أفتى له بصحة صيامه ..
ويصعد المؤذن مئذنة الجامع العالية لينتظر من سيبلغه إذا حان وقت الآذان لصلاة العشاء ..
فالساعات لم تكن انتشرت وهى غالية الثمن بما لايقدر على شرائها سوى الأثرياء من أهلنا .
ومابين الآذان والإقامة يمتلأ الجامع بالمصلين شيوخاً وشباباً وأطفالاً .

ويبدأ التكبير لإقامة الصلاة ..وتتراص الصفوف الشيوخ ثم الشباب ثم الأطفال .
وصفوف الأطفال يحدث بها هرج ومرج ولغط وضحك وأصوات صاخبة .

كنت أطلب من بعض أقاربى الكبار أن يتوزع الأطفال بين صفوف الشباب حتى يلتزموا بالصمت والخشوع ،إلا أنهم يتأملون كلامى ولا يصنعون شيئاً . 
وتنتهى صلاة العشاء وتبدأ صلاة التروايح ..ويبدأ العد التنازلى فى خلو الجامع من المصلين ،وربما فى آخر ركعتين لاترى سوى الصف الأولى فقط ،أما باقى الصفوف فقد انصرفت تباعاً أثناء الصلاة .

وأعود إلى بيتنا وتتلقانى جدتى وتضمنى لصدرها وتدعو لى بالنجاح والتوفيق وأن يغمرنى الله بفضله ويهدى ابن عم والدى وأخى الصغير الذين خرجا للصلاة ولم يدخلا الجامع بل مع شلة من ذويهما ولايعودان إلا بعد ساعات .
 
 
(8)

وأهرع مستأذناً فى اللحاق بالمسجد لأصلى المغرب وأنتظر لصلاة العشاء والتراويح.
فكل الأصدقاء أجمعوا جمعهم على الصلاة بمسجد سيدى خلف . 
فهو مسجد ضخم بدون مئذنة وعتيق وكبير وأمامه أرض فضاء نجتمع فيها .
مفروش بالحصير وفيه منبر خشبى رائع وبه عدد من الكلوبات التى لاتنيره بالقدر الكافى والإضاءة فيه ضعيفة، والحمامات قديمة والميضة بهاحنفيات تدور حول خزان بيضاوى على شكل قبة من الطوب الأحمر ،يتم ملئه ليلاً من ماسورة مياه خاصة ،فالمياه العمومية لم تكن قد انتشرت فى القرية ككل القرى فى مصر ..
أحياناً توجد حنفية كبيرة فى أول القرية ،تذهب إليها النساء ليملأن الجرار "الزلع " ..
وأتوضأ ثم أصلى جماعة صلاة المغرب .
ويأتى الأصدقاء ويتصل بيننا حبل الكلام حتى يؤذن لصلاة العشاء .
وما نكاد نفرغ من صلاة العشاء والتراويح ..فتنسحب منا مجموعة للعب .

وأجدنى عائداً إلى البيت لأطمئن جدتى ثم أخرج لسماع عمى بيومى الذى يقص علينا حكايات من السيرة الهلالية ،ثم ينتهى بعد ساعة أو ساعتين .

لكن الليل طويل طويل والبيوت كلها مفتوحة والناس صاحية والنوم لن يأتى الآن ،وهناك بعض الأولاد يطوفون الشوارع والحارات بفوانيسهم الملونة ويصدحون بالغناء ..ويتفرق الأصدقاء .
وأرجع إلى بيتنا ،لأجد أمى وجدتى يصنعون صينية الكنافة ويعدون الفول المدمس الوجبة الدائمة فى السحور،"مسمار البطن " كما يزعمون والذى له القدرة على الصمود فى المعدة فترة طويلة ،فلاتشعر بالجوع أثناء النهار .

وأسأل أين أبى ؟ 
فأسمع الرد" راح عند جدك العمدة لقضاء سهرة رمضان " 
فالعادة جرت ،ومنذ زمن بعيد، وفى شهر رمضان, خاصةً ,أن يجتمع رجالات العائلة وبعض رجالات العائلات الأخرى فى دوار العمدة لقراءة القرآن والمسامرة والحديث عما يجرى فى مصر وكيف تجرى الأمور ؟ 
ويتطرق الحديث ،كما حكى أبى لجدتى وأمى،إلى اللواء مصطفى النويهى "وكيل وزارة الداخلية "وهو شقيق العمدة وأحد أعمدة رجال الداخلية فى عهد عبدالناصر .
وهو فخر العائلة .
وهوالمشرف على المشروع القومى لعمل البطاقات العائلية والشخصية للشعب المصرى .
وهو أول من ذهب إلى جمال عبدالناصر، لكى يسلمه أول بطاقة عائلية وظهرت صورته فى الجرائد "الأهرام والجمهورية والأخبار"مع الرئيس جمال عبدالناصر .
وتحتفظ بعض الأسر بهذه الصورة ،مبروّزة فى إطار فضى ومعلقة فى صدر غرفة الجلوس .
 
 
(9)


ولدتُ وتربيتُ وترعرعتُ فى أسرة كبيرة وعائلة ذات سطوة وسلطان ،وعشت بين جيران مسلمين ومسيحيين .
فالأسرة المسيحية أسرة كبيرة العدد ،ورب الأسرة رجلٌ ولا كل الرجال .
ننتظره صغاراً وهويعود ليلاً من عمله ،فيوزع علينا العسلية والطوفى .
نقابله بحب وود وتقدير ويقابلنا بابتسامة عريضة وبشاشة وجه وبكلام حلو جميل .
أولاده الذكور أكبر منا بعدة سنوات وأصغرهم يطارحنا فى العمر . 
نلعب معه ويشاركنا هوايتنا من لعب الكوتشينة أو السيجة ..
وأولاد ابنتيه يعيشون معنا،منهم بنتٌ جميلة فاتنةٌ نخاف عليها كأخت لنا ونحرسها من أى غادر ،وياويل من يعاكسها من أولاد الشوارع الأخرى .
وأيضاً صبىٌ أخٌ لنا ومعنا فى المدرسة وأمه وخالته ،خالات لنا نبجلهما كأمهاتنا نخشاهما ونحترمهما .
يعيشون بيننا فى ألفة وتماسك وحب وجيرة ،ويساعدان أمى فى أشغال البيت من خبيز أو حصاد القمح أو الأذرة أو الأرز ..
وزميلنا يعيش بين أهله وذويه وأصدقائه ،وخاله _القريب من عمرنا _وبجوار منزلهم يضع عدة فوانيس ويفرش لنا حصيراً ونجتمع عنده فى شهر رمضان كى نخرج مجتمعين "أولاد الشارع " ويشاركنا بطعام من عندهم ويأكل معنا ،فكل واحد منا يأتى بطعام لإفطار جماعى ..

سعادة مابعدها سعادة ،وجمعٌ متآلف لافرق فيه بين مسلم ومسيحى . 
كانت هذه الأسرة من رجال وشباب ونساء وبنات يصومون معنا شهررمضان ،يحرصون على مشاعرنا ،فلا تمتد أيديهم إلى الطعام إلا عندما نفطر ولانشاهد منهم أحداً يأكل أو يشرب جهاراً . 
والدى يحبهم ويحترم جداً رب أسرتهم ,وما أكثر جلوسه عندهم وتناول طعامهم وشرب الشاى والقهوة معه.
وللتقارب الشديد بين أبى ورب هذه الأسرة الكريمة ،فقد كان لهم الأخ الذى يشاركهم مشاكلهم واليد التى تمتد وقت الحاجة والمدافع عنهم إذا تطاول عليهم أحد الجيران.
وعلى نهجه ومسيرته.. صرت أنا وأشقائى "صبياناً وبناتاً" فلم أذكر يوماً أن حدثت منا مايعكر صفو هذه العلاقة الإنسانية الرائعة .
والدى من حفظة القرآن الكريم ومن رجال الدين المشهود لهم بالحكمة والموعظة الحسنة واللسان العف واللغة الراقية والحديث الخلاب والنكتة البارعة والثقافة الرفيعة .
دائماً وأبداً، أبى، يوصى جدتى وأمى بهم خيراً فلاتنسوهم"ياجماعة" من خيرات البيت ،فهم الأهل والجيران والأصدقاء.
 
(10)


اَللّهُمَّ قَرِّبْني فيهِ اِلى مَرضاتِكَ ، وَجَنِّبْني فيهِ مِن سَخَطِكَ وَنَقِماتِكَ ، وَ وَفِّقني فيهِ لِقِراءَةِ آياتِِكَ ، بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرّاحمينَ .
اَللّهُمَّ ارْزُقني فيهِ الذِّهنَ وَالتَّنْبيهِ ، وَباعِدْني فيهِ مِنَ السَّفاهَةِ وَالتَّمْويهِ ، وَ اجْعَل لي نَصيباً مِن كُلِّ خَيْرٍ تُنْزِلُ فيهِ ، بِجودِكَ يا اَجوَدَ الأجْوَدينَ .

اَللّهُمَّ قَوِّني فيهِ عَلى اِقامَةِ اَمرِكَ ، وَ اَذِقني فيهِ حَلاوَةِ ذِكْرِكَ ، وَ اَوْزِعْني فيهِ أداءَ شُكْرِكَ بِكَرَمِكَ ، وَاحْفَظْني فيهِ بِحِفظِكَ و َسَتْرِكَ يا اَبصَرَ النّاظِرينَ.


اَللّهُمَّ اجعَلني فيهِ مِنَ المُستَغْفِرينَ ، وَ اجعَلني فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ ، وَ اجعَلني فيهِ مِن اَوْليائِكَ المُقَرَّبينَ ، بِرَأفَتِكَ يا اَرحَمَ الرّاحمينَ .

اَللّهُمَّ لا تَخْذُلني فيهِ لِتَعَرُّضِ مَعصِيَتِكَ ، وَلاتَضرِبني بِسِياطِ نَقِمَتِكَ ، وَ زَحْزِحني فيهِ مِن موُجِبات سَخَطِكَ بِمَنِّكَ وَ اَياديكَ يا مُنتَهى رَغْبَةِ الرّاغِبينَ .


اَللّهُمَّ اَعِنّي فيهِ عَلى صِيامِهِ وَ قِيامِهِ ، وَ جَنِّبني فيهِ مِن هَفَواتِهِ وَاثامِهِ، وَ ارْزُقني فيهِ ذِكْرَكَ بِدَوامِهِ،بِتَوْفيقِكَ يا هادِيَ المُضِّلينَ.

اَللّهُمَّ ارْزُقْني فيهِ رَحمَةَ الأَيْتامِ وَ اِطعامَ الطَّعامِ وَاِفْشاءَ السلام وَصُحْبَةَ الكِرامِ بِطَوْلِكَ يا مَلْجَأَ الآمِلينَ.

اَللّهُمَّ اجْعَل لي فيهِ نَصيباً مِن رَحمَتِكَ الواسِعَةِ، وَ اهْدِني فيهِ لِبَراهينِكَ السّاطِعَةِ، وَ خُذْ بِناصِيَتي إلى مَرْضاتِكَ الجامِعَةِ بِمَحَبَّتِكَ يا اَمَلَ المُشتاقينَ.

اَللّهُمَّ اجْعَلني فيهِ مِنَ المُتَوَكِلينَ عَلَيْكَ، وَ اجْعَلني فيهِ مِنَ الفائِزينَ لَدَيْكَ، وَ اجعَلني فيه مِنَ المُقَرَّبينَ اِليكَ بِاِحْسانِكَ يا غايَةَ الطّالبينَ.

.اَللّهُمَّ حَبِّبْ اِلَيَّ فيهِ الْإحسانَ، وَ كَرِّهْ فيهِ الْفُسُوقَ وَ العِصيانَ وَ حَرِّمْ عَلَيَّ فيهِ السَخَطَ وَ النّيرانَ بعَوْنِكَ ياغياثَ المُستَغيثينَ

اَللّهُمَّ زَيِّنِّي فيهِ بالسِّترِ وَ الْعَفافِ، وَاسْتُرني فيهِ بِلِِِباسِ الْقُنُوعِ وَالكَفافِ، وَ احْمِلني فيهِ عَلَى الْعَدْلِ وَ الْإنصافِ، وَ آمنِّي فيهِ مِنْ كُلِّ ما اَخافُ بِعِصْمَتِكَ ياعصمَةَ الْخائفينَ.


اَللّهُمَّ طَهِّرْني فيهِ مِنَ الدَّنسِ وَ الْأقْذارِ، وَ صَبِّرْني فيهِ عَلى كائِناتِ الْأَقدارِ، وَ وَفِّقْني فيهِ لِلتُّقى وَ صُحْبَةِ الْأبرارِ بِعَوْنِكَ ياقُرَّةَ عَيْن الْمَساكينِ.


(11)


من أغرب ماعشته فى شهررمضان،مظاهر التقوى والتدين والورع والطيبة التى تتجلى فى سلوكيات الناس ..
وأزعم أن هذه المظاهر كانت الشغل الشاغل ، لى ،أحاول رصدها فى بعض الناس وأجتهد فى متابعتها بعد إنقضاء شهر رمضان .
وأذكر أحد رجال العائلة ،وهو من أسرة تتمتع بالطيبة والسلوك الحسن ،ينفجر شراسة وقسوة وناراً حارقة وألفاظاً حادة، إذا ماشاهد مجموعة من الصبية تلعب أمام بيته ..
يخرج شاهراً كرباجه السودانى ومفرقعاً فى الهواء، وياويل من تقترب ذؤابة الكرباج من جسده أو لو أمسك بصبى ؟؟!!
ويعلو صوته بالشتائم والسباب ، فيهرب الصبية تاركين لعبهم اياً كانت ويولون الأدبار .
فيأتى على هذه اللعب بالتقطيع للكرة أو التكسير لألعاب خشبية.

كنت أتحاشاه وأبتعد عنه ولا أتعامل معه إلا فى أضيق الحدود والضرورات الملحة ،رغم أن علاقة بناته معى ومع الآخرين تمتاز بالسلوك الحسن والوجه البشوش والكلمة الراقية . 
كان يخشى أبى كل الخشية ولا يصدر منه وخاصة لى أى تصرفات من تصرفاته العنيفة، بل يحاول أن يتجنبنى ،فلم أكن من الصبية الذين عرفوا مكمن غضبه فيفعلون ما يغيظه ويثير ثائرته.
ومما أذكره أنه ما إن يرى كلباً إلا ويتوعده بالقتل دون سابق معرفة أو مشاهدة. 
حالة نفسية قاهرة وكراهية شديدة لامبرر لها .

صياد الكلاب ..
كنت اُسميه. ويترصد للكلب ويراقبه ثم فجأة يُطلق عليه النار من مسدسه الذى لايفارق جيب الصديرى،سواء وجده فى الغيط أو الشارع أو الحارة أو أمام بيت صاحبه، ،غير مهتم بوجود أطفال أونساء أو صاحب الكلب أو نشر الذعر والخوف ..
فمقصده الأول والأخير ألا يفلت منه الكلب،مما أثار حوله عدوات لاتعد ولاتُحصى .

لكن ولكونه من العائلة القوية المسيطرة لم يتعد عليه من العائلات الأخرى ،وإنما سرت همهمات وأحاديث أنه يرتكن على العمدة ويستقوى به، وربما غض العمدة النظر عن هذه العنف وهو يعلم به.
ونقلت هذه الأحاديث وتذمر الناس ،إلى أبى الذى بدوره نقلها ،وذهاب بعض رجال العائلات الأخرى للشكوى من هذه التصرفات الغريبة والمؤذية .
وأظن أن أبى عاتبه فى ذلك إلا أنه لم يأخذ عتاب أبى مأخذ الجد ،مما دعا بعض العائلات إلى التحرش به والنيل منه وتسليط الأم الذى أهين ابنها أن تسبه وتلعنه ويكون تطاوله عليها ذريعة للإنقضاض عليه.
الأمر الذى يدعو العائلة إلى التدخل وفرض الحصار على تصرفات الشائنة التى تفتقد للرحمة والسلوك الحسن .

وها نحن فى شهر رمضان ..أراه مقبلاً علىّ أنا وأصدقائى مطلقاً السلام ومردفاً ب رمضان كريم ..فنرد أو يرد أحدنا .متعجبين من أمره وتغيّر تصرفاته والابتسامة التى تملأ وجهه وحرصه الدائم على الصلاة فى المسجد "الوقت بوقته "طوال السنة .
وما إن ينتهى رمضان وتنقضى أيام العيد إلا وتعود ريمة إلى أحوالها القديمة .
وكأن تصرفاته 
فى شهر رمضان نسمة عليلة فى قيظ باقى شهور السنة 
.
 
 
(12)


جدتى أم أمى من عائلة منسّبة إلى أسرة سيدنا على رضى الله عنه ،هكذا سمعت من والد جدتى .
فقد كانت لهم طريقة صوفية تنتهى إلى الطريقة الشاذلية .
وأثناء شهر رمضان تقام حلقات الذكر أمام البيت تحت شجرة التوت ،أذهب بصحبة جدتى كى أرى والد جدتى.
قطب من الأقطاب،مشرقٌ وجهه بالنور، جالس فى صدر المجلس، فى حجرة كبيرة يلتف حوله المريدون والزوار وتدور عليهم صينية مرصوص عليها أكواب القرفة الحريفة الطعم ورائحة البخور تملأ الحجرة وتنتشر فى حجرات البيت.
ولايدخل عليه أحد المريدين أو الزوار إلا وانحنى على يده مقبلاً إياها بسكينة وتوقير .
البيت مزدحم بالمريدين والمريدات والزائرات والزوار وأمام البيت تفرش الأبسطة الصوفية ويتراص عليها الرجال والشباب فى صفوف متقابلة .
بعد لحظات يخرج عليهم الشيخ الكبير ،فتعلو أصواتهم بذكر الله .
ويبدأ المنشد فى ترديد مقطع
من قصيدة الإمام البوصيرى البردة .
مولاي صلــــي وسلــــم دائمـــاً أبــــدا علـــى حبيبــــك خيــر الخلق كلهـم
محمد سيد الكونين والثقليـ ـن والفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ أبر في قولِ لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وواقفون لديه عند حدهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فهوالذي تم معناه وصورته ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسم
منزهٌ عن شريكٍ في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسم
دع ما ادعثه النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ماشئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفم
مولاي صلــــي وسلــــم دائمـــاً أبــــدا علـــى حبيبــــك خيــر الخلق كلهـم
وأردد وراء المنشد هذه الأبيات محاولاً حفظها والتغنى بها .
وبعد أن ينتهى المنشد من إلقائه الجميل الرائع ..يهم الشيخ الكبيرواقفاً ويتبعه المريدون والزوار ،كى تبدأ حلقة الذكر ويرددون "الله حى .الله حى "

كنت وأصدقائى صغاراً لانقدر على الانضمام فى هذه الصفوف ،فنجلس على الأرض بعيداً عنهم نراقبهم وهم يتطوحون ، حتى تأخذ أحدهم الجلالة ،فنراه وكأنه يطير فلايدرى بما حوله ويردد بقوة "الله حى" .
وفجأة يقع على الأرض مما يستدعى تهدئة حلقة الذكر قليلاً ،فقد لحق به آخرون وتساقطوا على الأرض وهم يرددون :"الله حى "
.
 
 
(13)

جريدة الأهرام ..لايخلومنها البيت يومياً ،فهى الثوابت التى لايمكن التخلى عنها .
فيحضرها أحد باعة الجرائد يومياً ،وتظل تُقرأ طوال النهار تنتقل بين الأيدى المتعلمة للاطلاع على مايجرى فى مصروالعالم . 
فجمال عبدالنصر ملء العين والبصر ،ملأ الدنيا وشغل الناس" وثورة يوليو أم الثورات فى أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية .
مقالة "بصراحة" لمحمد حسنين هيكل من أهم المقالات على الاطلاق ،يقرأها أبى مرة بعد مرة .فإذا جلس مجلساً تنهال الكلمات من فمه مدحاً فيما كتبه هيكل، ويؤكد كلامه أن جريدة الأهرام هى الجريدة الشبه رسمية لقرب هيكل من جمال عبدالناصر .
كان محباً لعبدالناصر مناصراً له مناهضاً لمن يذم ثورته أو ينال منها .

أبى يمتلك مكتبة زاخرة بالكتب والمجلات الأدبية وكتب التراث ،انتقلت إليه من جده ثم زاد عليها بما اشتراه من كتب أخرى ،ومن كتب التراث التى حافظت عليها حتى الآن :

كتاب"نور الأبصار فى مناقب آل بيت النبى المختار "للعالم الفاضل الشبلنجى المدعو بمؤمن رحمه الله آمين. وبهامشه كتاب اسعاف الراغبين فى سيرة المصطفى وفضائل أهل بيته الطاهرين تأليف علامة زمانه الأستاذ الشيخ محمد الصبان عليه الرحمة والرضوان ،محل مبيعه بمكتبة ملتزمه حضرة الشيخ محمد على المليجى الكتبى ،قريباً من الجامع الازهر ،الطبعة الثالثة سنة 1322هجرية. وهذا الكتاب من القطع الكبيرعدد صفحاته218.
الكتاب الثانى: "الجزء الثانى من الحاشية المسماة بالفتوحات الالهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية" تأليف العالم النحرير والمحقق الشهيرالعلامة الشيخ سليمان الجمل ،وعلى هامشه تفسير ابن عباس،الطبعة الأولى ،المطبعة الأزهرية المصرية سنة1318هجرية عدد صفحاته 680 من القطع الكبير .
الكتاب الثالث "حاشية الأستاذ العالم العلامةالعمدة الفهامة فقيه زمانه ووحيد عصره وأوانه شيخ الإسلام والمسلمين عمدة المحققين برهان الدين الشيخ إبراهيم البرماوى الشافعى على شرح الغاية للعلامة ابن قاسم الغزى رحمهما الله.طبعة1298هجرية عدد صفحاته 366والفهرس 4صفحات ومختوم بعدة أختام وأسماء من تملكوا هذا الكتاب.
وفى شهر رمضان ..يبدأ أبى تلاوة القرآن الكريم " جزء يومياً " ويعاود القراءة فى الكتب التى ذكرتها وكتب أخرى ،تهرأت أوراقها ولم استطع تجليدها أو وقايتها من القرضة . 
ولن أنسى أول صدامى معه ،عندما قرأت كتاب الشبلنجى ونلت من المؤلف ومن القصص الوارد به وطال الحديث بيننا وزادت حدة النقاش ،مما استدعى تدخل أمى التى علا صوتها :إيه إحنا فى رمضان وصوتكم عالى والناس تفتكر إن فيه خناقة عندنا.
 
 
(14)
لاتظلموا الموتى وإن طال المدى ***إنى أخاف عليكمو أن تلتقوا

بيت من الشعر يردده والدى كثيراً ،كلما ذُكر أمامه أحد الأموات وطال اللسان بالذم أو اللوم على مواقفه وتصرفاته حال حياته ،ممن يتحدثون عنه.
وجرت العادة التى حرص عليها أعمامى الذين اتخذوا بيوتاً لهم فى أطراف القرية،أن يجتمعوا فى بيت العيلة ،بعض ليالى رمضان للزيارة والسهر وتناول الكنافة والدردشة فيما كان وماسيكون .
كان البيت يزدحم بصورة ملحوظة جداً ..فالأعمام وزوجاتهم وأولادهم وأنا وأخوتى وأبى وأمى، وجدتى ،سيدة الجميع ،نلتف حولها ،وهناك من يقدم القهوة والشاى والسحلب وأطباق الكنافة .
ليلة رمضانية مشهودة ..قلّ أن يجتمع فيها هذا العدد الغفير"الأولاد والزوجات والأحفاد"، وأحياناً يشاركنا السهر بعض الأقارب وأولادهم ..
وتبدأ الحكايات المشحونة بعبق الماضى الآخاذ وروعة الذكريات وجمالها عن الجدود والأقارب والأهل .
وماذا كان يفعلون رحمة الله عليهم ،فى شهر رمضان ؟ 

ثم أتى ذكر أحد أعمام والدى والمشهور بخفة دمه والمقالب المضحكة التى يفعلها فى فلان وعلان ..واليوم الذى هاجت القرية وماجت ..لما
أخفى ملابس الشيخ فلان كبير عائلة ...أثناء وجوده بالغيط، ولم يستطع الشيخ الحضور للإفطار وانشغل عليه الجميع ولم يفطر أحد إلابعد العثور على ملابسه بجوار مدار الساقية البعيدة عن الغيط بحوالى 100م.
وتبين بعد ذلك.. أن عم والدى هوالذى تسلل بين المزروعات ثم أخذ الملابس ثم أخفاها بجوار مدارالساقية 
ولم يسكت كبير العائلة فطالب العمدة بقعدة رجالة حتى يأخذ حقه وإلا حدثت مشاكل .

وكنا نسمع بفرحة ونتضاحك بقوة بل ونتمايل بعضنا على البعض من استغراقنا فى الضحك ونطلب الإعادة ونهيب بالحاكى أن يُكمل الحكاية .
ولا أنسى أن هذه السهرة كان الحظ الأوفر فيهالتذكر الأموات من العائلة نساءً أو رجالاً .
فتتذكر جدتى ،باسمة ومبتسمة ً،"زوجها " جدى.. عندما ذهبت فى أحد أيام رمضان لزيارة أهلها ومعها أعمامى وعمتى "أطفالاً" و عادت قبل الإفطار ،لم تجد زوجها ولم تجد ما طبخته .
فقد قام جدى بتوزيع الأكل على بعض السائلين ،ثم راح يفطر عند أحد أعمامه ،واضعاً فى حسبانه أن زوجته وأولاده سيفطرون عند أهلها .
وبسرعة سألها أحد أحفادها : وبعدين ياجدتى عملتى إيه؟
يضحك وجهها وتقول :
أعمل إيه فطرنا قشدة وجبنة ولبن رايب وعسل نحل وعسل إسودوعيش خاص،لإن جدكم إتربى على الخير وعمره مامنع إيده تدى للمحتاج .
وكان أبوه بيسموه أبو الفقرا وبيته كأنه تكية مفتوحة للأقارب المحتاجين والغرّابة الغلابة .
ويتدخل أحد أعمامى ضاحكاً :من يومها كنت أقول لأمى بلاش الزيارة لأى حد إلا بعد مانفطر .

ويأتى صوت والدى مرتفعاً"اذكروا محاسن مواتكم "ثم يردد هذا البيت . 
فأسأله من قال هذا البيت ؟ فيرد :أبو العلاء المعرى ..
ومن يومها أصبح أبو العلاء من أصدقائى الحميمين .
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق