بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 23 نوفمبر 2014

صدمة طائر غريب


(1)
صدمة طائر غريب



قلبى ثقيل مثل ماء النهر ،غارق وباهت فى المياه التى لاطعم لها ،الأيام التى مضت تراكمت وأصبح من المستحيل أن أتنفس ،كنا إنساناً واحداً يتداخل ولاينفصل ،وتسممت المياه ،وأصبحت الحياة عبئاً،أعددت نفسى للسير فوق الوهاد والجبال إلى أبعد مكان يمكن أن أصل إليه.

أمضيت يوماً مرهقاً بالحزن والشجن أمس ،حتى الآن لا أشعر أننى مسافر ،متبلد إلى أقصى حدٍ،عندما يصل الإحساس والارهاق إلى منتهاه تصل إلى مرفأ التبلد،وخوفاً من الاحتراق داخل إحساسك تتمسك بالبلادة ،وتعيش داخل قوقعتها. بمجرد أن تحرك القطار مغادراً القاهرة بدأت أشرب ،فى المقعد المجاور لى ضابط بحرى ،تحدثنا عن البحر والحرب والمعركة ،قال أن البحر يضعف المشاعر الجنسية فى الإنسان ،قال أن حياتنا متخلفة وغبية ،حكى عن مطاردة البحرية للزوارق الخمسة الإسرائيلية ،وكيف حماها من ضربنا الأسطول السادس ،ووقف القطار .

ذهبت إلى فندق بالأسكندرية ،استحممت ،خلوت إلى نفسى ،نزلت ،جلست فى المقهى ،انتظرت بلاجدوى.

فى الصباح ذهبت إلى الميناء ،أعددت نفسى ،قالت لى فتاة الجمرك هل هذه أول مرة تسافر ،قلت لها سافرت من قبل ،ضحكت ،لم تفتح حقيبتى ،سخرت من نفسى ،أخذت قرصاً مهدئاً،ازدادت بلادتى ،حملت حقيبتى وصعدت إلى المركب .

استندت على سور المركب من الداخل ،بعد ان اكتشفت زنزانتى ،ووضعت فيها حقيبتى ،سألنى ضابط المركب هل أنت صحفى ،قلت نعم ،قال هاجمنا أحد الصحفيين فى إحدى المجلات،كان الباعة والمودعون كثيرين جداً ولم يودعنى أحد،أنا أفضل ذلك،الرصيف يعج بالحياة والناس والأطفال والباعة ،مللت ،ذهبت إلى زنزانتى ،مر وقت طويل ،أحسست بالهزة ،المركب تتحرك ،صعدت إلى السطح.

نحن نبتعد عن الميناء ،نفارق الأسكندرية ،عشرات المراكب تمر بجوارنا ،تحيينا،تشق الباخرة المياه،تتزايد سرعتها وتبتعد،المياه خضراء وفى لون الزمرد الفاتح،بدأت إذاعة داخلية فى المركب تعمل،كانت الأغنية "يامسهرنى" ،الشوق ،الحب ،المحيط،الليل ،الوداد،الماضى ،الخصام،والوصال ،كنت أقف وأسند وجهى على ذراعى وأدخن وأسمع،تقاسيم الموسيقى تلعب على أوتار بداخلى من الشجن والحب والاحباط واليأس،ولاأشعر أننى أبتعد أو أقترب أو ذاهب أو عائدأو بوجود ما ،أنا غائب وثمل وبليد وقاس ورقيق ومتماسك ومنهار ولاتتحرك مشاعرى لحظة فى اتجاه مايحدث فى الحقيقة ،رافض تماماً ،يائس تماماً،متوقف عن الاستمرار ،ناكص ،وطموحى أن أعود من جديد إلى الرحم الذى خرجت منه ولا أخرج منه أبداً أبداً أبداً...
 
 

(1)
يوم يتذكر الإنسان

فى مكتبتى الضخمة ووسط جدران حوائط أربعة ،تتراص الكتب ،وفى خزائن تقبع كتب ومجلات أخرى أحتفظ بها لندرة طباعتها أو لكونها من كتبى ومجلاتى الأولى فى سنوات الإخضرار .

تشرئب رأسى كى أرى صفوف الكتب القريبة من السقف وأخشى الطلوع على السلم المزدوج ،فتدور بى الدنيا فأسقط .

غاصت يدى فى إحدى الخزائن،وعادت بصيد وفير بعض الكتب والروايات، رواية ورقها متهرئ"صدمة طائر غريب ل" كمال القلش "،أحد كتاب السبعينيات المرموقين مع صنع الله إبراهيم والبساطى ورؤف مسعد والغيطانى والطاهر عبدالله وغيرهم ...

كنت طالباً بكلية الحقوق جامعة القاهرة
،أسعى بين كلياتها وأتقابل مع الأصدقاء والزملاء ،طلبة وطالبات،فى الندوات الأدبية والسياسية "سنوات الجمر التى اصطليت بنارها ونضجت فى لهيبها وشربت منها كؤوساً دهاقاً ،صقلتنى فكرياً وأدبياً وسياسياً،فقلبى ممتلىء باللهفة وعقلى يسعى للحكمة وعمرى يهفو للنضج.

شغلتنى، فى حينها سنة 1975م، هذه الرواية البديعة الرائعة المتميزة التى قرأتها مراراً وتكراراً فى سنوات متعاقبة ،يشهد على ذلك مرات الكتابة للقراءة فى الصفحةالأخيرة منها، فدأبى أن أؤرخ لكل قراءة ، فسرحت معها ،وقرأت الصفحات الأولى منها ،
ونقلت الصفحتين فى بداية الموضوع .

وسأتابع ذكرياتى عنها ،فما أحلى الرجوع إلى هذه السنوات ،سنوات الجمر والثورة والحب


(2)
صدمة طائر غريب


يستمر
كمال القلش فى سرد تفاصيل رحلته، بعد أن ركب الباخرة متوجهاً إلى بيروت :
تغير لون المياه ،فقاعات فضية فوق مياه خضراء داكنة ،غابت الشمس ولكن الضوء مازال سائداً،لون المياه أزرق،المياه تحيط بنا ،الطيور تحلق وتنتظر ،ذهب الجميع ولم يبق غيرى ،مضت ساعات طويلة لم أفتح فمى لأحد،نفذت سجائرى ،اشتريت سجائر ،وزجاجتين من الويسكى ،أشرب من عنق الزجاجة مباشرة ً.

مازالت أم كلثوم تغنى ،طرقات المركب امتلأت بركاب(الأون ديك) السطح،نساء يجلسن فى الطرقات ،مثل فقراء الأحياء البلدية ، فتاة سمراء يبدو انها راقصة من الدرجة العاشرة ،قصيرة ،رفيعة،ترتدى بنطلوناً ،متماسكة، ملامحها مضمومة تسافر على السطح ،تنام فى العراء ،لاتنوى الابتذال مع أحد، تعرف طريقها ،محددة تماماً.
.................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .
لا أشعر للحظة واحدة أننى أنتمى لشىء،أشعر أننى وحيد ،لافائدة حتى من الويسكى ،لم يزلزل حزنى وجمودى وبلادتى فى مواجهة العالم ،فقط ألف وأدور ،أتفرج،ألتقى بالحلم المجهض الذى لايتحقق،فأنا لا أقدم على شىء ولا أحد يقدم نحوى.

منذ خرجت من المعتقل لم أحس بوطأة الحياة مثلما شعرت بها هذا العام ،فى بداية خروجى وأنا أعود إلى العالم كنت متوهجاً ،قوياً قادراً،التحقت بالعمل ،كتبت ،أحببت ،وعندما انفض زملائى وتفرقوا ،وأصبح كل إنسان يقف على حذائه وحيداً مبتعداً لم أشعر بالهول ولابمرارة الوحدة والانغماس ،ومضت الأعوام،وفى هذا العام تراكم الجفاف واليأس والحزن،فقدت قدرتى على الكتابة ،وقدرتى على المقاومة ،وكانت هذه أعظم قدراتى .
 
 
(2)
يوم يتذكر الإنسان


حول ظروف شرائى لرواية صدمة طائر غريب ..أتذكر أننى وفى سنة1975م .
كنت دائب البحث عن المكتبات التى تبيع بأسعار زهيدة ، فأمام المدينةالجامعية للطلاب المغتربين ،بجوار الجامعة، كتب مرصوصة على الأرض ،كتب دراسية وكتب أدبية وثقافية بقروش معدودة ..تستطيع أن تجد بغيتك .
ما عليك إلا أن تقرفص وتمد يدك وترفع الكتاب من على الأرض،وتعطى البائع قرشاً أو قرشين .
وما أتذكره جيداً ..أن ميدان التحرير ،آنذاك، كان مقر تجمع الشباب وخيرة مثقفى مصر ومقهى ريش والبستان وشارع قصر النيل.
ومن ميدان التحرير تستطيع الذهاب إلى شارع القصر العينى لمكتبة دار الشعب ومجلة روز اليوسف ،ثم 32شارع صبرى أبوعلم والتى يقع فى إحدى شقق العمارة "مكتبة دار الثقافةالجديدة ،منارة الفكر التقدمى "
ومنها اشتريت الديمقراطية والناصرية لطارق البشرى ،القرية المصرية بين الإصلاح والثورة لفتحى عبدالفتاح،أصول الفلسفة الماركسية لأفانا سييف،كبار ملاك الأراضى الزراعية ودورهم فى المجتمع المصرى ، الخماسين لغالب هلسا،رسول من قرية تميرة لمحمود دياب ،العدو لجيمس دورت ترجمة صنع الله إبراهيم،منين أجيب ناس لنجيب سرور ،الشمندورة لمحمد خليل قاسم ،صدمة طائر غريب لكمال القلش.
أعظم الكتابات وأعمق الدراسات وأروع الروايات بقروش زهيدة .
بمئات الكتب بل الألوف إمتلأت مكتبتى ،سنوات التكوين التى أعيش عليها حتى اللحظة"نضجت مواهبى وازدهرت معارفى ،وكم لها علىّ من حقوق.
هذه الدار.. كما عرفت آنذاك ..للتيار اليسارى بكافة أطيافه . ..وصاحبها محمد يوسف الجندى اليسارى المصرى المعروف ابن يوسف الجندى أول من استقل بزفتى تبع محافظة الغربية وأعلنها "جمهورية زفتى" أثناء الإحتلال الإنجليزى لمصر .
 
(3)
يوم يتذكر الإنسان


فى سنة 1975م ...وبعد انتصار الجش المصرى فى 6أكتوبر سنة 1973م وعبور خط بارليف أقوى مانع مائى فى التاريخ..ورفع العلم المصرى على أرض سيناء الطاهرة وعبدالصبور يقول فى قصيدته الرائعة "

"تمليناك،حين أهل فوق الشاشة البيضاء ،
وجهك يلثما العلما
وترفعه يداك ،
لكى يحلق فى مدار الشمس ،
حر الوجه مقتحما.."

والسادات يهدر بصوته القوى والسعادة تقفزمن صدره .
عشتُ هذه الأيام مرفوع الرأس ،باسم الوجه،قوى الإيمان عطيم الثقة بجنودناالبواسل الأبطال وجيشنا العظيم.
ثم بدأت الهوجة المدبرة بليلٍ والتى تنتقد الفترة الناصرية ودروها فى هزيمة يونيو1967م ويُصدر نجيب محفوظ روايته القصيرة "الكرنك" ويُصدر الدكتور رشاد رشدى "مجلة الجديد"التى لم تتوقف حتى عددها الأخير عن صب اللعنات على عبدالناصر .
وأكتب عن العقل والتعقل فى الكتابة عن الفترة الناصرية وترفض المجلة النشر لى ،فرشاد رشدى كان المستشار الثقافى أو العلمى أو ....لست أدرى للرئيس السادات،وصاحب بدعة الدكتوراهات الفخرية للمطربين والفنانين .
وفى عهدالسادات حصل عبدالوهلب على رتبة عسكرية اللواءعلاوة على الدكتوراه وأصبح اسمه يُنشر فى الجرائد "اللواء الدكتور موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب"!
ويعلو الصراخ ويشمخ أنور السادات بأنفه فى وجه شعب مصر ،وتبدأ المحاكمة المهينة للعصر الناصرى وتُفتح خزائن الأسرار ويُصدر توفيق الحكيم كتابه"عودة الوعى" وتصب اللعنات على عبدالناصر ورجال ثورة 1952م .

بذكاء لامثيل له ..يدافع السادات عن عبدالناصر وينتقده بقسوة .
.وسأكتب عن هذه الفترة من واقع دفاترى التى كتبتها خلال هذه الفترة .

افتراضي

(3)
صدمة طائر غريب

نزلت إلى زنزانتى لأكتب،لعل الكتابة والحديث الصامت يخفف من كآبتى ووحدتى وحزنى وبلادتى،الساعة الآن الواحدة ظهراً، أحس بالعالم بل بالكون كله..كلما أنظر إلى نهاية ما يمتد إليه البصر ولا أجد شيئاً غير السماء تنطبق على المياه الكحلية اللون ،والشمس محددة وليست صاخبة ،أحس بأننى وكل من سبقونى ومن سيأتون بعدى أسرى لقوانين الكون التى لاتقبل الهزل ولا التطويع وأنها سادرة فى سيرها بلاذرة اهتمام بالإنسان ،وأنها الحقيقة السرمدية منذ الأزل وإلى الأزل ،ونحن تحت هذه القوانين نزحف كالنمل،نظن أننا" نتمرد" ولكن الحقيقة أننا تحت هذه القوانين بلاقدرة ،السماء هائلة ،المياه لانهائية ،الكون لانهائى،القمر والشمس كأوضح مايكون،الأرض لا أرض ولامرفأ،لانجاة،غير أن يغوص الإنسان فى داخله ويكتئب،ويلتقى بعين غامضة تلتقى بعينيه وبشجنه وحزنه ويأسه.
 
 
 

(4)
يوم يتذكر الإنسان

"عبرنا الهزيمة يامصر ياعظيمة "
لكن فرحتنا لم تكتمل ،حدثت ثغرة الدفرسوار ،وتم تطويق الجيش الثانى المصرى فى سيناء ووصلت القوات الإسرائيلية على مشارف السويس ،وقيل أيامها أن امريكا دخلت الحرب بجانب إسرائيل وبدأالتدفق العسكرى الأمريكى إلى أرض سيناء مباشرة ،وأكد السادات أنه لن يحارب أمريكا ،وقبل وقف النار وبدأت الرحلات المكوكية لهنرى كيسنجر ..وعلى إثرها كان فض الاشتباك الأول والمباحثات الثنائية تحت رعاية أمريكية ومظلة الأمم المتحدة ،وبدات مباحثات الكيلو101 لإبعاد القوات عن بعضهما .
وأصبحت جريدة الأهرام لسان حال الحكومة ،آنذاك، تنشر مايدور بين الفريق الجمسى الذى طالب بإبعاد القوات عن بعضهما وإمداد الجيش الثالث بالتموين والمياه.
وأثناء المباحثات مع الجانب الإسرائيلى برياسة الجنرال ياريف رئيس الأركان ،غادر الجمسى الاجتماع كى يخلو بنفسه فى دورة المياه ليمسح دموعه التى لم يملك مقاومتها .
ولن أنسى كاركتير لصلاح جاهين فقد رسم خيمة وكتب تحتها خيمة الأمم المتحدة داخل علامات تنصيص.
فلم يكن جاهين إلا معبراً عن الشعور المصرى العام بخيبة أصابت الروح المصرية ،ولأهمية هذا الرسم احتفظت به مدة طويلة بين أوراقى حتى فقدته ضمن أوراق أخرى ،أثناء النقل لمنزل خاص بنا وترك بيت العائلة .


(5)
يوم يتذكر الإنسان
طلبة وطالبات بجامعة القاهرة ،والحديث عن حرب أكتوبر والتدخل الأمريكى الصارخ والضغط على مصر لقبول أوضاع عسكرية مهينة ومحاولة إلهاء الشعب عن مشاكل حرب أكتوبر وإثارة ماضى ثورة 1952م والنبش فى الأوراق واستدعاء الذاكرة التآمرية وعودة محمد نجيب إلى الحياة السياسية ،وتنامى المد الدينى الجهادى وشكرى مصطفى والحديث عن الخلافة وجاهلية المجتمع وعزو الجلابيب البيضاء واللحى للحرم الجامعى وصعود أمن الدولة إلى القمة ،ونشاة نادى الفكر الناصرى بقيادة الدكتور رفعت المحجوب ،لكن سيطرة السياسة على الحياة الجامعية لم تمنع من توهج مواهب أدبية وشعرية ، بدت كالشهب ، على قنديل
ولد 5/4/1953-ورحل عن دنيانا 17/7/1975إثر حادث مروع إذ صدمته سيارة طائشة ، فى عز الظهيرة ، محققة نبوئته .
فى جامعة القاهرة ، والغليان الطافح فى كل مكان ، وهزيمة يونيو 1967المدوية الساحقة تدق الأبواب وبقسوة ، والطلاب يحلمون بيوم النصر ويستعجلونه ، كانت سيناء مدنسة بالعدو الصهيونى والعالم الحر يتفرج على خيبتنا وهزيمتنا ،ورغم العبور إلا أنه كان منقوصاً.
جامعة القاهرة ،الإسم المدوى والصرح الخالد خلود الأهرام ، نفخر بها ونهيم بأروقتها ، ونكاد لا نفترق عنها إلا لنعود إليها ، وحركة الطلاب لا تنتهى ما بين مجلات الحائط والندوات والمحاضرات ، والأساتذة الدكاترة مع الطلاب لا يفترقون ، إنه الهم الوطنى والقومى ، إنها مصر العروبة ، مصر المحروسة ، مصر الحضارة والتاريخ .
على يوسف قنديل، شاعر كلية الطب ،النابغة الذى حمل مشعل الشعر وهاجا ، وتركه أشد توهجا ، ابن القرية المصرية ، أتى من ساحة الفقراء وبيوتهم وشوارعهم وحواريهم وأزقتها الأشد فقرا ، كأنه الفارس المنتظر ، بعبقريته وتفوقه ونبوغه ينتزع له مكانا ومنزلة وموقعا متميزا فى ساحة الشعر .
كم حسب السنين
أيها المنتظر؟
منذ بدء الظلام
قابع فى المقر
ما الذى ترتجى ؟

أرتجى مشرقا
قادما من سفر

هل شحذ ت العيون
كى ترى طلعته ؟

منذ بدء الظلام
قد فقدت البصر

أنا مهنتى :
إحتضان الأمل
مامعانى الأمل ؟

أن وجه الصباح
سوف ،وما ،يطل


الغريب ..الغريب
أن وجه الصباح
كل يوم يجىء
فاعلن ..فاعلن
فاعلن
فاعلن

كنت أسمع أشعاره ، والبصيرة المستيقظة المستنفرة ، وقصائده المشحونة بالكشف عما سيكون وما تؤول إليه الأمور ، كانت خارج السياق والسباحة السهلة فى نهر الشعارات والأناشيد العاهرة والتراتيل التى تكرس الواقع المزيف ، والنضال الكلامى فى غياب منظومة الفكر الثورى ، نتبادل القصائد بلهفة وشوق ، هذا الشاعر النابغة الذى وددت أن أراه ، وسعيت ورائه ولم يسعفنى وقتى وزمنى ، للسفر من طنطا إلى القاهرة يوميا ، والإرتباط بمواعيد القطارات ، فلم تكن لدينا القدرة على إمتطاء السيارات ، فقد كانت ترفاً وحلماً صعب المنال.
وفؤجئت بمصرعه من الأصدقاء، والحزن يمزق نياط القلب وتهمى الدموع تهدأ من نار الألم المتوحش والضارى .


وفى لحظة التمرد والثورة ، وفى إخضرار أوردتى ،وشهوة الحياة ، ونضارة السؤال ، لماذا يموت على ؟؟؟
ألأنه الشاعر المقتحم مساحات الظلام ؟؟
ألأنه إخترق التواطؤ الصامت على عهر القصيدة ؟
لماذا يموت الشاعر ؟؟؟؟
تفجر فىَ السؤال ،ولم أجد إجابة .
وسنواتى العشرون ، ترهقنى وتزلزل يقينى .
 
 
(4)
صدمة طائر غريب


أبطأت المركب فى السير ،لم تظهر بيروت فى الأفق بعد، المراكب نقطة وسط دائرة كاملة ،بدت بيروت،وظلت تكبر وتكبر ،درنا حولها ،تبدو مدينة مبنية فوق هضاب وتحف بها جبال خضراء ،دخلنا البوغاز،امتدت الحبال من المركب لتربطها برصيف الميناء ،صعدضابط الميناء إلى الباخرة ،قال صحفى قلت نعم قال أهلين ،قال الضابط لمساعده ضع علامة على الكارت الخاص به،انتهت الإجراءات على السفينة ،التقت عيناى بعين صديقى ،كان يقف بعربته الفولفو ،أخذنا الحقائب وؤركبنا العربة،قال صديقى إذا لم نستطع مغادرة بيروت غداً فلنفارقها بعد غد ، قال لدى شقة فاخرة أمضيت فيها عشرين يوماً انا وزوجتى وابنى ولقد ارسلتهما بلأمس غلى القاهرة ،وصلنا ،غسلت وجهى ،فتحت الثلاجة ،أخرجت برقوقاً مثلجاً،اكلت ،استرحت قليلاً ،نزلنا ،سرنا فى شوارع بيروت ،أحسست بالراحة والانطلاق،هذه أول مرة أرى فيها بيروت،أحب أن أرى المدن لأول مرة ! جلسنا ،شربنا ،راقبنا المارة ،تحدث صديقى عن الشهور الأخيرة التى مرت به،قال إن عام 1972م عام بشع ولايحتمل ،فيه ماتت أمه فجاة ،ذهبت للحج وذهب ينتظر عودتها ،فوجىء وهوبالمطار ينتظرها بالخبر ،وبأنها دفنت هناك ولنتعود ،كانت الصدمة موجعة ، كانت الشهور التى مضت من نفس العام مكتظة بالمأساةوالموت والعمل والارهاق العصبى والصراع مع رؤسائه ،سقط من الارهاق،أحس بالموت يقترب منه،ويحاول افتراسه،زحف على الأرض حتى وصل إلى التليفون ،طلب أن ينجده أحد،نقلوه إلى المنزل ، لازم الفراش مريضاً،اقترب من الموت على كافة المستويات وأعدنفسه له،وهولم يبلغ الثالثة والثلاثين ،بدا حياته متمرداً ومستقلاً،ناقض أباه،واصطدم بسطوته وجبروته ،وعندما انتهى من كلية الطب سجل اسمه فى الدراسات العليا ،وسخر منه الجميع ،فلم يعرف عنه ولعه بالعلم ،وازداد إصراره وحصل على الماجستير ،أحب فتاة ،ورغم المعارضة الشديدةأصر وتزوجها،وعندما جاءت الفرصة انطلق إلى قطر ،وأصر على المواصلة ،وحصل على الدكتوراه،وكانت مفاجأة للأوساط العلمية ،واستطاع أن يجعل من عمله معملاً لأبحاثه، ولكن الطريق عاد مرة ثانية إلى الإنسداد،الإحساس بالغربة،التآمر الصغير فى دائرة العمل، وعاش مهدداً بأن يقولوا له كفى عد إلى القاهرة بلدك وابدأ من جديد،هل يواصل طريقه العلمى ، ولكن إلى أين ولمن ولماذا.. هل يظل فى قطر ،وإلى متى، هل يعود إلى وطنه، ولكن ما الذى يستطيع أن يعمله، هل يجهزون له معملاً رائعاً مثل الذى أعده وكونه هناك، أم يعمل داخل مستشفى فى ريف مصر،ويقبض أجراً زهيداً،هل يذهب إلى أوروبا وأمريكا ليواصل دراسته العلمية لكن وبعد، ما الذى يستطيع أن يفعله بعد ذلك، وزوجته التى مضى على زواجه بها أكثر من ثمانى سنوات ،وقد ذهب وهج الحب وتحولت الحياة غلى رتابة وإلى أسلوبين متناقضين فى الحياة،وقدكبر ابنه وأصبح له من العمر سبع سنوات..ولم يعد للجنس طعم،وذهب التوافق والتجانس والعمر فى بدايته،بل إن حياته نفسها تعانى من الضغوط والارهاق التى تهدد بأمراض العصر ،وهو فى حاجة إلى أجازة حقيقية، إلى انطلاق، إلى تجربة يغرق فيها نفسه ويغتسل،ويرى الحياة بأقصى ما تستطيع عيناه وبعدها يعود ليفكر فى كل مفارق الطرق التى يقف أمامها،لعل الحياة تورق وتخضر من جديد وتدب فيها السخونة.
 
 

(6)

يوم يتذكر الإنسان

فى خلال هذه السنوات 1973م إلى 1975م والسلطة تحاول بكل الطرق أن تُلهى الشعب عن ثغرة الدفرسوارالتى أحاطت بالجيش المصرى وتطويقه من جيش للعدو .
وبدأت مباحثات فض الاشتباك ،والفريق سعد الدين الشاذلى الذى ثار على الرئيس السادات وانشق عليه واستمرار المظاهرات الطلابية ،وكالعادة إنقسم المجتمع إلى نصفين ،مؤيد ومعارض ..لكن طول لسان السادات وتمرسه فى القيادة وتماسك الجبهةالداخلية وسطوة الشرطة القوية والإعلام الموجه ،لم تعط الفرصة لأى تحدٍ يطل برأسه.
وأعيش مع نفسى وأكتب فى كراسى
" لا أدرى ماهذا الذى يجعلنى أغتم ..
وأكتئب دونما سبب يبين لى ..
حقاً إن حياتى لهباء وفناء وما أنا إلا قطرة من محيط ،وما أناإلاكبقية الخلق أجمعين يأتون ويذهبون وهم أجهل الجاهلين ..أعمى ..أصم ..بكم ..
يامن تحاولون إسعاد الإنسان فى كل مكان .
أنا آتيكم من ليالى الغربة وأيام الضباب .
آتيكم وفى يدى جهلى وعماى ..
آتيكم وأنا كلى غموض وإبهام ..
آتيكم وأنا ضائع فى وسط السحاب..
يامن تحاولون إسعاد العالم وكل التعساء.
يامن تنشرون أريج الخير فى كل مكان ..وتبعثون أطهر الأمال إلى نفوس صدئة وقلوب حزينة وعيون محترقة وأيادٍ مشلولة وعقول جامدة وحياة خربة .
أنتم ..فى أى مكان..أود رؤيتكم..وأشتم عبيركم ..أمسك بتلابيبكم ..أهفو نحوكم..إننى أكتب إليكم بدموعى ودمى ..أكتب وأنا أبكى والله.. أبكى ..الدموع تملأ المآقى ..والحروف على الشفاه تموت.. والأمانى مقتولة فى الصدور ، والضياع طريقى وحياتى ..
أنتم ..فى أى مكان ..أحب كلامكم وأشتهى همسكم ..وأنتم تتعبون فى اختراع ترياق يشفى الثكالى ..الحزانى ..الضائعين ..الغارقين فى جمع الوهم وجنى الهموم ..الذين يسافرون وبهم أشجان الليل وأحزان النهار ..الذين يضيعون مع الرياح ويقبلون العذاب ويحضنون السراب .
أنتم يامن تبحثون عن السعادة فى أجواف الحوت وأكباد القمر ..وتبللون بالسلام جبهات الشقوة والآلام ..وتمطرون اللأحزان بالهيام والوله.
أنتم يا من ضلت قدماى وتاهت خطواتى وتعثرت أفكارى وتشتت دموعى فى البحث عنكم فى مسارب الأرض وأنحاء السماء ..
أنتم نجوم بعيدة المنال ..براقة ..لكن من يحصل عليهم.. أنتم جنة الله ..ولكن من يدخل فيها!
ثقوا فىّ ..أنا ألهث وراءكم وأريد الوصول إلى محطة وقوفكم وإقامتكم
..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق