(1)
سمعتُ الكثير عن (مىّ ) الكاتبة اللبنانية الرائعة ،عاشقة جبران خليل جبران صاحب المواكب والنبى ورمل وزبد والكثير الكثير من روائعه المكتوبة بالإنجليزية و التى قام على ترجمتها إلى اللغة العربية الدكتور /ثروت عكاشة ، صاحب الموسوعة الرائدة فى تاريخ الفن عبر عصوره المختلفة(العين تسمع والأذن ترى) ،والذى آمل أن أتحدث عن هذه الموسوعة ،يوماً ما ،فهى بجميع أجزائها أكثر من تسعة عشر جزءا تُنير مكتبتى إلى جوار الدرر والجواهر والذخائر العربية الخالدة بصفحاتها المشرقة زاداًوفيرا وخيرا عميما لأجيال العروبة فى أصقاع المعمورة .
مارى زيادة ....اسم مشرقٌ ومتلألأٌ وخالدٌُ فى صفحات تراثنا الأدبى والفكرى ،كم سررتُ وأنا فى صباى الباكر ،أقرأ بعض مقالاتها الرفيعة المستوى والعميقة الفكر ،وصالونها الأدبى الذى تجمع فيه رواد الأدب والفكر والثقافة، فى بداية نهضتنا الأدبية والفكرية والوطنية فى مطلع القرن العشرين .
بالطبع ولحداثة سنى وبهجة روحى ،حفظتُ مقالاً لها عن طنطا ، وأردد مقاطعاً منه بلذةٍ وسرور .
مىّ زارت طنطا ...............مبهوراً وسعيداً كنتُ، وكأن طنطا بزيارة مىّ وكتابتها عنها قد أدخلتها التاريخ من أوسع الأبواب .
وكعادتى الدؤوبة ،أجهدتُ نفسى فى الحصول على أعمالها ،والقراءة المتأنية لما أجده لهاوأتمتع به وألتذ لذة حقيقة ببيانها الرائق ولغتها المتوجهة وفكرها الناضج .
وبكيت بكاءً مراً لما أصابها من مشاكل عويصة وما نسب إليها من مرض عقلى أو نفسى ،لكن عودتها لمصر المحروسة أثلجت صدرى وأطفأت نيران حزنى الشديد عليها ،وموتها بمصر المحروسة ودفنها بثراها الطيب ، ربما كانت من الأسباب التى فرحت بها صغيراً وكبيراًا.
ألم تزر طنطا وتكتب عنها ؟
هذا يكفينى وزيادة .
(2)
((( ولدت ماري زيادة (ميّ) في مدينة الناصرة بفلسطين العام 1886 م ،ابنةً وحيدةً لأب من لبنان وأم سورية الأصل فلسطينية المولد.
تلقت دراستها الابتدائية في الناصرة, والثانوية في عينطورة بلبنان.
وفي العام 1907, انتقلت ميّ مع أسرتها للإقامة في القاهرة. وعملت بتدريس اللغتين الفرنسية والإنكليزية,وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوقت ذاته, عكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها.وفيما بعد, تلقت ميّ دراسات في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة. وخالطت ميّ الكتاب والصحفيين, وأخذ نجمها يتألق كاتبة مقال اجتماعي وأدبي ونقدي, وباحثة وخطيبة. وأسست ميّ ندوة أسبوعية عرفت باسم (ندوة الثلاثاء), جمعت فيها - لعشرين عامًا - صفوة المثقفين والرواد الكبار,كان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد, مصطفى عبدالرازق, عباس العقاد, طه حسين, شبلي شميل, يعقوب صروف, أنطون الجميل, مصطفى صادق الرافعي, خليل مطران, إسماعيل صبري, وأحمد شوقي.
وقد أحبّ أغلب هؤلاء الأعلام (ميّ )حبًّا روحيًّا ألهم بعضهم روائع من كتاباته.أما قلب ميّ, فقد ظل مأخوذًا طوال حياتها بجبران خليل جبران وحده, رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة. ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا: من 1911 وحتى وفاة جبران بنيويورك عام 1931م ،ولست أدرى هل هذه المراسلات موجودة أم فُقدت ??
فهى ثروة أدبية وفكرية لاتُقدر .
نشرت ميّ مقالات وأبحاثا في كبريات الصحف والمجلات المصرية: (المقطم), (الأهرام), (الزهور), (المحروسة), (الهلال), و(المقتطف). أما الكتب, فقد كان باكورة إنتاجها العام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية, ثم صدرت لها ثلاث روايات نقلتها إلى العربية من اللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية.
وفيما بعد صدر لها:
(باحثة البادية) (1920)
(كلمات وإشارات) (1922)
(المساواة) (1923)
(ظلمات وأشعة) (1923)
( بين الجزر والمد ) ( 1924)
و(الصحائف) (1924).
وفى أعقاب رحيل والديها ووفاة جبران تعرضت ميّ لمحنة عام 1938, إذ حيكت ضدها مؤامرة دنيئة,وأوقعت إحدى المحاكم عليها الحجْر, وأودعت مصحة الأمراض العقلية ببيروت. وهبّ المفكر اللبناني أمين الريحاني وشخصيات عربية مرموقة إلى إنقاذها, ورفع الحجْر عنها.
وعادت ميّ إلى مصر ،وفى 19نوفمبر 1954.صعدت روحها إلى بارئها ،ويضمها ثرى مصر المحروسة ،طيّب اللهُ ثراها ))
ومنذ مدة لاأدريها ،قرأتُ خبراً غريباً أن هناك من اللبنانيين من يريد نقل رفات مىّ زيادة إلى لبنان ،لكن هناك ثمة عراقيل ،فلم تنجح المحاولة ،وتظل مصر المحروسة تضم مىّ بين جنباتها حية ً وميتةً.
(3)
فى طنطا
مىّ زيادة
أيها السادة والسيدات, لنا على الماضي امتيازات كثيرة. إننا لا نستطيع أكل المعارف في نصف تفاحة كما فعل آباؤنا الأولون. ولكنا نمتاز على الأقدمين بأمور جوهرية كثيرة. إننا نعرف الآن قيمة العلم, وإن المعرفة صلة الإنسان بالأشياء والسلك الكهربائي الجامع بين ذكاء الفرد وبين المعنَى الحيوى المبعثر في أجزاء الوجود; وإنّ على هذا السلك العجيب تفيض معاني الإنسانية العظمى ألا وهي الإعجاب والحبُّ والعمل. نعلم أنّ الجاهل سجين نفسه, أسير أنانيته, مستقل بإدراكه المحدود, مكتف بدعواه, لا يستقبل جديدًا إلاّ بالطرد, ولا يذكر حديثًا إلاّ بالتهكم وسوء الظن, ولئن تألمنا من احتكاكنا المحتم به فإنا نشفق عليه لضيق الدائرة الحيوية التي رضي بها, كأنّ كل ما لدينا من الجمال والصلاح والثروة المعنوية لم يخلق له, بل هو كائن لسواه!
إنما امتياز عصرنا الأعظم هو فكرة التقدم, والاندفاع في سبيل الارتقاء, وتوافُر المعارف وسهولة نيلها لمن طمح إليها, بعد أنْ كانت محصورة في أفراد معدودين. لستُ من القائلين إن عصرنا هو العصر الذهبي الذي يحقق الآمال, غير أنه عصر عظيم وابن عصور عظيمة بتفكيرها وجهادها; عصر مملوء خيرًا لطالب الخير, وفيه من أسباب الراحة وسهولة المعيشة ما يجعل اللذات المادية والمسرات المعنوية, واقتباس العلم متوافرًا لدى الفقير توافره لدى الغنى. لقد اتسعت العلوم وتعددت فروعها, فاتسعت بذلك سطوة الإنسان على الطبيعة, وتعددت سبل العمل أمامه.
الفلسفة تنبش أعمال العقول, والشِّعر يلمس أسرار النفوس, والموسيقى توقّع همس الوجدان, والتصوير ينسج العواطف نسجًا ويرسم أدق خطوطها, فاليوم تتحقق أمنية الحكيم القائل: أيها الإنسان اعرف نفسك! لقد ارتقت الأخلاق, ولطفت الشعائر, ودقت الملاحظة, وأفسحت فكرة الحرية المجال, فتيسر لكلٍّ أنْ يهذب شخصيتهُ كما يريد بعد أنْ كان مكرهًا على سبكها في قالب جيرانه ومعارفه. كان وأْد النساء حلالاً, وقتل الأبناء جائزًا, وفن الاستعطاء مقدّسًا, أمّا الآن فسلطة الأب والزوج محدودة, والنفوس عزيزة عاملة تنال ما تنال بالكدّ والسهر.
بالأمس كان الناس اثنين: سيّدًا مستبدًّا, وعبدًا ذليلاً يباعُ ويشرى كالأنعام على غير علم منه, أمّا اليوم فمبدأ العدل يُضعف قيود العبودية, وصوت الحرية ينادي بالإخاء والمساواة. لقد اتسعت دوائر التجارة وارتقت الصنائع, وتبودلت منافع الاقتصاد, فحلَّ السلام والأمان - مبدئيًا! - إِذْ لا غزو يفاخر به ولا اغتصاب يسامح عليه. والسياسة تحاول تسكين الخواطر والإقلال من الحروب ما استطاعت, فما أبعد أيام نيرون وماركس أوريليس والإسكندر والحروب الصليبية! حتى أيامك يا نابوليون, حتى أيامك القريبة بعيدةٌ عن هذا العصر الذي يمنع الإنسان إيلام الحيوان ويعلمه الإشفاق عليه.
يدعي الماديون أنّ العلوم وحدها سبب التقدم وعنوان الحضارة; فمتى كانت الكيمياء والهندسة أساس المدنية؟! ولماذا لا نعتبر الصين أعظم بلاد العالم على الإطلاق لأنها مكتشفة البوصلة ومخترعة آلة الطباعة والبارود؟!
ليس في استطاعة العلم إلاّ تحسين أحوالنا المادية. إنه يعلم الإنسان استخدام الطبيعة, وينمي ذكاءه نموّا شديدًا, ولكن لا سطوة له على الأخلاق. وأنتم تعلمون أنّ العلم نصف الارتقاء, والأخلاق النصف الآخر, وأنّ شرف المرء قائم بحسن أخلاقه وسمو مداركه أكثر منه بتعدد علومه وكثرة أطماعه.
أيها السادة والسيدات,
إن معنى المدنية عظيم مطلق, آت من أقاصي الأجيال متنقلاً بين أشور وبابل وفينيقيا والصين والهند ومصر وأثينا وروما. إنه مجموعة العناصر العلمية والأخلاقية والحسية والعملية, كذا يجب أنْ يكون الإنسان فيجمع في شخصه معاني الإنسانية بأسرها. ليست الإنسانية عالمة أو طبيبة أو محامية أو تاجرة فقط, بل هي فاضلة مهذبة, مجاهدة فرحة, حزينة فيلسوفة, أديبة شاعرة, باحثة فنية.
هي قيثارة ذات ألوف الأوتار توقع عليها أصابع الحياة الألحان الرائعة من تشبيب وتأوه وتهليل ونوح وهتاف.
لذلك نرى دوامًا في النوابغ ذوى الشخصيات الغنية مزيجًا من عناصر الإنسانية جميعاً. نرى الفيلسوف شاعرًا أحيانًا, وقد نجد عند الفني والشاعر من الحكمة وإِصابة الرأي ما لا نجده عند الحكماء أنفسهم; ذلك لأن الشِّعر والعِلم والفلسفة والأدب والعمل ليست أمورًا منفردة في ذاتها, بل هي تتلامس وتتجاذب لأنها أساليب مختلفة تعبر بها النفس عن أحوالها المتتابعة. عناصر عظيمة كلُّها كامن في عقولنا, مترجرج بين ثنايا مشاعرنا, متدفِّق في أحلامنا وآمالنا, مكوّن ثروتنا الحيوية التي تفيض ساكبة حولنا نورًا وسناءً.
قال لا يبنتز: إنّ النفس مرآة يجب أنْ تنعكس على مياهها الصافية صُوَرُ الإنسانية الراقية ومعانيها لتكون صورة مصغرة لها في الجمال والغاية. لقد عرفنا جمال الإنسانية فما هي غايتها؟ هي أنْ ترمي إلى مثلٍ أعلى يلمع هنالك في أقاصي الأيام والأماني, مثلٍ أعلى ترى كل عسير في سبيله هينًا, وينهارُ في طريقها إليه كلُّ حاجز. غاية الإنسانية المثل الأعلى الذي يعطي الحياة معنى لذيذًا, ويكسبها رونقًا جديدًا, ويضرم في النفس ناراً تحرق الفاسد من ميولها, ويؤهلها لأنْ تكون هيكل الأفكار السامية والمقاصد الشريفة.
إذن فالحياة الإنسانية خطوات ثلاث: خطوة من الجهل إلى المعرفة. وخطوة من المعرفة إلى الارتقاء. وخطوة إلى ذاك اللامع هنالك في أقاصي الأيام والآمال, إلى المثل الأعلى الذي نجهله ويحيينا جميعًا .
من كتاب "كلمات واشارات "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق