إلى ..عيون بياتريس
(1)
فى هذا الزمن الردىء والمتردى فى الحضيض ، و مصر مهد الحضارات ومنبت العلوم وقدس أقداس الفلسفة ومنارة علوم الرياضات والهندسة - شاهدة الأهرام والمعابد على ذلك- و الديانة اليونانية دين السواد الأعظم من الشعب وإختلاطها بالعقائد المصرية آنذاك ،جرت أبشع موتة فى التاريخ.ويخبرنا التاريخ ، أن المصريين يتمسكون بدياناتهم وطقوسها وشعائرها، وهو تقليدٌ قديمٌ قدم الأهرام وأبى الهول ، وذوبان أى ديانة وافدة فى بحر الشخصية المصرية ،والحفاظ على تراث الأجداد واجبٌ مقدس.
فى هذا الزمن والصراع قائمٌ ،بين الديانة الجديدة المسيحية والديانات الموجودة ، على أشده من التطاحن والتنافر والتقاتل ، والعداء بين سدنة الدين الجديد والفلاسفة وسعيره متأجج أواره .فالمسيحيون الأوائل ينظرون إلى العلم والفلسفة على أنهما يتحدان مع الوثنية فى هوية واحدة .
فلاعلم ولا ثقافة إلا ما جاءت بها آيات الكتاب المقدس،ولا حقيقة ولاباطل إلا ما أكده الكتاب المقدس ، ولاقانون ولا تشريع إلا ماورد بالكتاب المقدس، وأن كل ما هو خارج سلطان النصوص المقدسة، هو كفر وإلحاد وزندقة وهرطقة .
وجزاءاً وفاقاً لمخالف النصوص المقدسة ومنكرها وتاركها والمناقش لها والمستفهم عن صحتها،الشنق والقتل والسحق والمحق والطرد من رحمة الرب .
فلا رأى إلا رأى النصوص، حتى وإن خالفت المنطق وداست العقل ، فالنقل فوق العقل،وتقديس النصوص أمرمفروض والحفظة والكهان بالمرصاد .
وأشد الجرائم وأقذرها وأبشعها ترتكب بإسم الحفاظ على المقدسات،والقتل والتنكيل لمن يطعن فى الدين ، قتلاً وتمزيقاً وتشهيراً وسحقاً ،سواء فى الحياة أو فى الممات .
فلا حرية إلا للكهان ، ولا بحث ولافحص إلا لحفظة النصوص،ولاتبجيل ولا إحترام إلا لأصحاب اللحى ،ولاتقدير إلا لأرباب القداسات والفضيلة .
ولكل عصر كهانه ولكل عصر ضحاياه من الفلاسفة والعلماء والشعراء.
وباسم الإله يتم الإغتيال والتصفية الجسدية والتشريد والنفى ورفع رايات الردة ودق طبول الكفر والإلحاد وعقد المحاكمات وصدورالأحكام بالقتل ..وإعلان التوبة مرفوض .هيباشيا ..فيلسوفة الأسكندرية ،نبوغ مبكر وعبقرية فذة ،وقليل مايجود الزمان بالنوابغ،إذ أن النوابغ أمل الإنسانية الأوحد فى أن تستطيع أن تخرج يوماً بها من خضم مشكلاتها، وحروبها وأزمتها ومصائبها وأوجاعها وعنفها المتصاعد فى شتى بقاع العالم ،وقيادتها، فى أمن وأمان ، إلى مرفأ الحياة السعيدة الموفورة والخلاص النهائى .
وتأكد يقيناً، ومن صفحات التاريخ ، وبتوالى القرون وتعاقب الدهور وكرور الأيام ، أنه وبظهور العباقرة الأفذاذ ولإمكانياتهم الخارقة وجهودهم العملاقة والخلاقة فى التأثير فى حياة الناس، يسود الأمن ويعم الصفاء النفوس الملتاعة والشقية واللاهثة وراء بارقة الأمل المرتقب والمأمول .
(2)
أول مارس سنة 415م، أيام الصوم الكبيروالطريق مظلم أشد الإظلام ، الصحراء المصرية بالقرب من صحراء النطرون ، عربة يجرها حصانان رشيقان وينهبان الأرض نهباً ، ويظهر ضوء شحيح ، يبدد سواد الليل الكثيف ، يعترض العربة جمع من الرهبان المنتظرين على الطريق منذ فترة طويلة ويخفيهم ظلام الليل وملابسهم السوداء ، وفجأة يهجمون على العربة وبقسوة ووحشية يفتحون بابها ، ويجذبون إمرأة بارعة الجمال ، رشيقة القوام ،ذكية العينين ، ساحرة الوجه ،ويجرونها جراً ً ويذهبون إلى كنيسة قيصرون ، حيث تقدمت مجموعة منهم وقاموا بنزع ثيابها واحداً واحداً حتى تجردت تماماً من ملابسها وتصبح عارية كما ولدتها أمها، ثم تقدم أحد الرهبان ، بطرس قارىء الصلوات ، وبمساعدة بعض الرهبان الذين أمسكوا الجسد العارى تماماً وشلوا حركته ، وبسكين حاد النصل وبيد لاترتعش ذبحها بطرس ذبح الشاة ، ولم يكتف الرهبان بذلك ، بل عكفوا على مهمة بالغة الغرابة، وغير مسبوقة ،بتقطيع الجسد إلى أشلاء مستمتعين ومنتشين بما يفعلون ، ثم أمسكت كل مجموعة شلواً بعد شلو،وراحت تكشط اللحم عن العظم بمحار حاد الأطراف .
وفى شارع سينارون،أوقدوا ناراً متأججة وقذفوا بأعضاء جسدها ، وهى ترتعش بالحياة .
إنهاالفليسوفة المصرية"هيباشياابنة ثيون"أستاذ الرياضيات فى متحف الأسكندرية ،وآخر عظيم من عظمائها ، سجل أسمه بلوحة الخالدين.
جاء بدائرةالمعارف البريطانية"فيلسوفة مصرية وعالمة فى الرياضيات ولدت بالأسكندرية عام 370 م وماتت بها فى مارس 415 م.
كانت المرأة الأولى التى لمعت في ميدان الرياضيات والفلسفة ، وأول عالمة بها "
أولى شهيدات الحكمة والفلسفة على مدى العصور والدهور، وأبشع موتةلم يسبق لها مثيل ، ولكنها كانت الموتة الأشهر التى أصبحت فيما بعد المثال الذى يحتذى والأنموذج المقتدى ، للتخلص من أرباب الحكمة والفلسفة ، والعبرة لمن تسول له نفسه أن يعترض أو يناقش أويهمس ببنت شفة ، أو يقف على قارعة الطريق كى يشرح ويوضح ويفهم للتلاميذ ماهية العدل ونهايات الظلم وأسباب السعادة ووسائل الرقى والتقدم وحرية الفكر والعقيدة.
هيباشيا تلقى محاضراتها فى متحف الأسكندرية ، وفاقت أهل زمانها من الفلاسفة والعلماء ،عندما عينت أستاذة للفلسفة بالأسكندرية ، وهرع لسماع محاضراتها عدد كبير من الناس ومن شتى الأقطارالنائية ،والطلاب يتزاحمون ويحتشدون أفواجاً إليها ومن كل مكان ،ولقبت فى الخطابات المرسلة لها بالفيلسوفة ، فإذا قامت بشرح فلسفة أرسطو أو أفلاطون اكتظت القاعات برجالات العلم وأثرياء الأسكندرية وأكابرها .
كانوا يترددون على مجالسها ويحرصون عليها ، سيما وهى تعالج الكثير من المواضيع الشائكة و تثير الأسئلة المعقدة ، من أنا ?
ومن نكون ?
وما الخير ?
وما هو الشر ?
وما المصير ?
وما طبيعة الإله ? ......إلخ
وفى خطاب متبادل بين طالبين من قورينا( برقة حالياً بليبيا ) ، يقول لصديقه:
"لقد سافر الشباب من قورينا إلى الأسكندرية ليدرسوا على شخصية معروفة تماماً ، ويبدو أن شهرتها كانت تفوق الوصف ، لقد رأيناها وسمعناها بأنفسنا ، بعد أن سمعنا عن تلك المرأة التى تتربع ، بشرف ، على قمة الأسرار الفلسفية".
(3)
ساطعة فى سماء حياتنا سطوعا سرمديا ، هذه الشموس السوداء ، القمع ، القهر ، الكبت ،السحق ، الحرق ، الخنق ، الشنق ، تلك سباعية شهيرة ومشهورة ، يعلمها القاصى والدانى على حد سواء ، وضحاياها كثر.
ومهما تبدلت الأحوال ،وقامت ثورات واهتزت عروش ،فالحال هو الحال بلازيادة أو نقصان.
ومن تاريخنا المخجل بعض الشىء ، توجد صفحات خالدة ، كتبت بأحرف من نور وهاج ، تلح علينا أن المستحيل مرفوض ،و أن الحرية عروس مهرها الروح ، وعلى طالبها التقدم بلا أدنى شك فى نفاستها وطهارتها وعظمتها .
ويحكى أن الحكيم والناثر والفليسوف والأديب صاحب العمل الفذ الخالد خلود الدهر ، كليلة ودمنة ، والأدب الكبير ،ابن المقفع ، وكان مقيما بالبصرة ، وقت أن كان سفيان بن معاوية نائب الخليفة المنصور ،حاكماً لها ، وكانت هناك مناوشات ومغايظ بينهما
ويقال أن أنف نائب الخليفة كان ضخماً بشكل ملحوظ، فإذا دخل على مجلسه ،ابن المقفع ووجد وحده ، قال: السلام عليكما ، قاصداً بذلك نائب الخليفة وأنفه باعتبارها شخصاً آخر .ولكن السلطة والقوة فى مواجهة القلم والورقة ، وشتان بين قوتين ، الأولى ساحقة وماحقة للثانية .
ولكن النائب لم يكن بالساذج بيّت النية للنيل من هذا الحكيم الذى جعله مضحكة
فابن المقفع قد كتب رسالة موجزة سماها رسالة الصحابة ، أرسلها إلى الخليفة المنصور يوصيه فيها بحسن معاملة الرعية واختيار الولاة العدول وبالطبع بما يمكن أن يكون متعلقا بالسياسة وإدارة الحكم .
كان ،هذا التصرف من ابن المقفع وفى عرف الطغاة، تصرفاً أحمقاً وسفيهاً واعتداءً على حضرة الشاهنشاهية الذى لارد لقضائه وحكمه .
كيف لهذا الصعلوك أن يتجرأ بل حتى يفكر فى كتابة آرائه ؟
كيف لهذا الصعلوك أن يرسل كتابه هذا ??
كيف ?
وكيف ????
حرية التعبير والحض على العدل وحسن الرعاية للرعية والسياسة والنظام ، كلمات لامعتى لها ولاقيمة .ياأيها الصعلوك مالك ومال الملوك، ما أنت إلا من عبيد الأمة ، وقطع اللسان أجدر بك وأحق ، والخرس مثواك ومأواك ويليق بك.
ولبث النائب سفيان ابن معاوية يدس لابن المقفع لدى الخليفة المنصور ببغداد ، ويرفع له كل نقيصة ويزور ويلفق والخسة تدفعه دفعا للإنتفام ، حتى حصل على أمر من الخليفة بالتخلص من ابن المقفع وقتله .
لكن هل يقتل كما يقتل المجرمون ????
لا وألف لا ، لابد من موتة غير مسبوقة وفريدة فى نوعها ، وتفتق الذهن الشيطانى عن موتة بشعة ، فلقد أحمى سفيان لفريسته تنوراً ، وجعل يقطع من جسم ابن المقفع ،شريحة بعد شريحة-وهو حى-ويلقى بالشريحة فى التنور ، ليرى المسكين أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، قبل أن تحرق بقيته دفعة واحدة آخر الأمر.وكأن ماحدث لهيباشيا ..لعنة توارثها الطغاة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق