بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 نوفمبر 2014

غواية العشق ووهم الوصال (الفصل الأخير)

نمـــوت لتستمـــر الحيــاة

الفصل الأخير
فلاح بوهيميا يصلي

34

الموت زائر ليس غريباً عن ديارنا .. يأتينا على غفلة و يرحل دائماً مصطحباً حبيباً لنا ، و دائماً يترك في صدورنا جرحاً ليلكياً و في قلوبنا نزيفاً لا يطيب .......

"إن بَلْبَـلَ المـوت عينـيكم بمطـرة ... و إن أثقـل عليـكم بغمـرة... يبقـى العـزاء شهـادة إيمـان ، فـي المـوت أَبَـتْ أن تُقْهَـرَ" ....


هكذا نرى فلاح بوهيميا يعود ليفتح الباب لإيمانه مرحباً ، رافعاً وجهه نحو الخالق في تضرعاته لهيب الجراح و بَرَد الإيمان ...... و يصلي :


يارقيبا لا تغفل عيناه, يارب الآرباب, ياصانع المعجزات وصاحب السيادة فوق كل السادة, ياروحا أقوى من كل الأرواح, ياأمير كل الإمارات,
أنت البئر الفياض بكل خير,
أنت أقدس القديسين,
أنت المتوج والتاج,
أنت المجزى والجزاء,
أنت أمير الأمراء وصفوة النبلاء, بقبضة يدك كل دواء: فهنيئا لمن ترضى عنه ويتشرف اليك بالانتماء.
أنت بهجة الملائكة الأبرار, وسعادة الأطهار, ياخالق أعظم الصيغ والأشكال, من كهول وأطفال: اللهم أستجب لى.
يانورا غير مستمد من نور أخر,
أنت النور الذى تتضاءل أمام اشعاعاته كل الأضواء الأخرى,
أنت الضوء الذى تخفت أمامه كل الاضواء, وتتلاشى لتصير ظلمة قاتمة,
أنت النور الذى يضيىء ظلال الأنوار

أنت النور الذى نطق فى البداية قائلا:" فلتنر الدنيا....".

أنت اللهب الدائم الاشتعال

أنت البداية و أنت النهاية ، اللهم أستجب لى.

ياخيرا فوق كل خير، وسعادة لا تدانيها سعادة

أنت الصراط المؤدى الى الحياة الآبدية دون متاهات

أنت أفضل من الآفضل

أنت الحياة لكل حى ، والحق الذى يعلو كل حقيقة ، والحكمة الفياضة على كل حكمة

أنت القادر على كل قدرة، الرقيب على كل يد عادلة أو ظالمة، الشافى من كل عاهة أو عيب

أنت شبع المحتاجين والبلسم الشافى للمرضى

أنت خاتم الجلالة العليا,أنت حافظ الانسجام فى السماء والعارف الوحيد بأفكار العبيد

أنت المصمم البارع لمختلف الوجوه البشرية

أنت أقوى من كل الكواكب, وصاحب كل نفوذ على الأفلاك السائرة

أنت أقوى وأمتع رئيس لديوان السموات
أنت القانون الذى تثبت أمامه النظم السماوية الخالدة

أنت الشمس الساطعة اللهم فاستجب لى.

أنت المصباح الخالد والنور الأبدى, وخير قبطان يوجه دفة السفينة ورافع الراية التى ينتصر من استظل بظلها . خلقت الجنة والنار وبنيت الكرة الأرضية ( رافع السموات والأرض)

أنت مقيم السدود فى وجه تيار البحر وخالط الرياح المتغيرة ومقوى لهيب النيران وخالق كل العناصر من رعد وبرق وسحاب ورذاذ وجليد ومطر وقوس قزح وندى وريح وصقيع

وأنت الموجه الوحيد لها جميعا ولفاعليتها .

أنت الدوق (المشير) القوى للجيش السماوى

أنت القيصر المطاع والخالق السمح القوى الرحيم . رحماك بى اللهم وأستجب لى.

أنت الكنز الذى تنبثق عنه جميع الكنوز والمنبع الذى تنساب منه الينابيع النقية الطاهرة

أنت المرشد الذى لايضلل أحدا فى أى طريق

أنت المغيث من كل ضائقة . تجتذب اليك كل الأشياء الطيبة كما تجتذب الوردة النحلة

أنت الأصل لكل الأشياء ، اللهم استجب لى.

أنت الطبيب الشافى من كل داء ووباء ، أنت خبير الخبراء و رب الأرض والسماء ، العليم بكل نهاية وكل طريق ، حارس المخلوقات من بطون أمهاتهم حتى أعماق قبورهم

أنت المصمم لكل الصور والأشكال و أنت الأساس المتين لصالح الأعمال

أنت المحب لكل طهارة وبراءة و المبغض للنجاسة والدناءة و المجزى على كل عمل صالح

أنت وحدك أعدل القضاة ، أنت الواحد الأحد ، المهيمن على كل شىء الى الأبد ، اللهم فأستجب دعائى.

أنت المعين فى كل الأزمات والمخاوف

أنت رباط متين لايقوى على فكه أحد من العالمين

أنت الذات العليا الكاملة فوق كل كمال

أنت العليم حقا ببواطن الأمور وظواهرها

أنت الوهاب للسعادة الآبدية ومحطم المتع الدنيوية
أنت أهل لكل الصالحين ورب بيتهم . و أنت الصياد الذى لايخفى عليه أى أثر والمصب الدقيق لكل الحواس ومركز الدائرة فى كل قياس

أنت السميع المجيب لكل من ناداك فاللهم استجب دعائى.

ياأقرب عون للمحتاجين ومفرج كرب من هم عليك معتمدون وفيك أملون أنت مشبع الجائعين
أنت وحدك القادر على خلق الأشياء من العدم وتحويلها الى العدم

أنت المحيى والمبقى والمميت لكل سبب ودوام وتوقيت.

لايستطيع أحد أن يفهم كينونتك وجوهرك أو يراك أو يرسمك ويحدد معالمك.
تقبل برحمتك روح زوجتى العزيزة... اللهم أمنحها الراحة الأبدية. وأنعشها بقطرات من ندى رحمتك وأظلها بظلك.

أمنحها يارب خير كفاية ، حيث تكفى صغار الناس وكبارهم

أسكنها يا الهى فى عرشك_ من حيث أتت _ بين الأرواح الصالحة الخالدة.

إن قلبى يتألم لفراق مارجريتا زوجتى المختارة.

أمنحها ياغنيا الرحمة بقوة ألوهيتك الأبدية ، مرآة ترى فيها نفسها إلى الأبد وتنظر فيها وتبتهج حيث تجد كل الملائكة الأطهار تشع منهم الأنوار.

فليساعدنى كل من يستظل بظل الرحمن من إنس وجان على أن أنطق من الأعماق بكل إخلاص وأقول: آميـن.










تذييل لابد منه

فلاح بوهيميا و محاكمة الموت :

من الرقم 1 إلى الرقم 5:

عرض القضية ويتبين منها أن المجنى عليه فلاح بوهيميا يتعرض للموت ويلقى عليه أشد اللوم وسبب الإدعاء هو موت زوجته وأن المتهم هو الموت الذى سلبها حياتها وأنه قاتل شرس لارحمة فى قلبه ولارأفة ، وتستبين من الحوار أن فلاح بوهيميا ثائر ثورة عنيفة لموت زوجته لكن الموت بغطرسته يتعامل معه وكأنه اليد العليا التى لارد لها ويستهزأ بفلاح بوهيمي بل يتعجب (اسمعوا اسمعوا فلتسمعوا العجب العجاب شكاوى ثائرة ضدنا وأصوات ظالمة تطعن فينا) صيغة الجمع والسخرية على فلاح بوهيميا وإصدار الحكم بأن حديثه شكاوى ظالمة .


من الرقم 6 الى الرقم 12

يبدأ المتهم فى تبرير فعلته بل يصف كل من يبكى على الأموات بالحم وببطلان شكواه ويصف فلاح بوهيميا (بأنه جرو صغير ساذج وأهوج)وينتقد فلاح بوهيميا أقوال الموت ويقول ( أيها السفاح الذى لايعرف الحياء ،فيك تستتر الرذيلة فى أخبث رداء)


من الرقم 13 الى الرقم 18

فلاح بوهيميا يطالب بالقصاص من الموت ويطالب بالعدالة ويحكى ويقص ويلوذ العدل يلتمس الحكم الرادع للموت ويطلب محوه من الوجود والانقام منه والعذاب له. ويدافع الموت عن نفسه ساخراً من فلاح بوهيميا ويقول له:إنك حقا حمار ذكر حكيم !!!

من الرقم 19 الى الرقم 23

فلاح بوهيميا مصمم على الدفاع عن الحياة لكن الموت يهزأ به ومنه ويصفه
ببطء الفهم وقلة الدراية


من الرقم 24 الى الرقم 32

تهدأ حدة الحوار والتراشق الكلامى بين فلاح بوهيميا والموت ونلاحظ أن
فلاح بوهيميا بدأ يتنازل عن بعض ما يعتوره من آلام وأحزان ،فقد استطاع
الموت بمنطقية وسلاسة أن يؤكد أن الموت والحياة لاينفصلان ولايمكن أن يبقى
واحد دون الآخر فهما متلازمان .
الموت ساخر إلى أقصى درجات السخرية يصرخ فى وجه فلاح بوهيميا (أيها
الفتى الحكيم من قرية الحمير !!)
ويرد عليه فلاح بوهيميا (خسئت يامنبع العار والشنار) وبعد الصراع الدامى بين الموت وفلاح بوهيميا نجد أن الموت يقول فى استكانة واحترام (الآن نقف معك بين يدى الله ،الخالد،الكبير، ذى القوة المتين)


رقم 33

وبكلمات معدودة حكم الواحد القهار وبحكم قاطع نافذ لامرد له ليشيد بالمجنى عليه وبالموت ، فلقد أحسن كل منهما فى دفاعه عن وجهة نظره ..
ولهذا يحكم الواحد الأحد بالشرف والكرامة للشاكى (فلاح بوهيميا) و (للموت)بالغلبة والنصر .

ويأتى الحكم القاطع (فقد كتب على كل إنسان أن يدفع حياته للموت وأن يعطى جسده للأرض ويسلم روحه إلينا).

"وهنا تتولانى رعدة تهزنى هزاً وتنهمر على روحى ونفسى آيات الذكر الحكيم
(يا أيتها النفس المطمئنة إرجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وأدخلى جناتى ) صدق الله العظيم"

رقم 34

صلاة فلاح بوهيميا على روح زوجته ،وأشهد الله وأشهدكم أن هذا الدعاء من أروع وأعمق وأرق الكلمات .

فلنقرأ هذا الحوار الرائع ولنترحم على أمواتنا وعلى أنفسنا وندعو الله جل جلاله أن يشملنا بعفوه وغفرانه إنه نعم المولى ونعم النصير.




خاتمة

لايسعنى إلا التقدم بالشكر ،للشمسين اللتين غمر نورهما ،هذا الكتاب (غواية العشق ووهم الوصال).

أختى العزيزة سلوى فريمان ،لما تفضلت به من المراجعة الدقيقة والتنسيق والتعديل .

وابنتى الجميلة بسمة ،التى قامت بالكتابة والمراجعة والتصحيح .

لهما منى عظيم الشكر والتقدير.
عبدالرؤوف النويهى
المحامى بالنقض
__________________________________________________ 


نشر هذا الكتاب فى موقع الوراق فى يناير 2010م


غواية العشق ووهم الوصال (الفصل الرابع)

الفصل الرابع

فلاح بوهيميا و محاكمة الموت

26- الموت

مهما زاد العتاب واللعن والسباب, أو حتى التمنى والرجاء, فأنهم لايملآون كيسا ولو كان صغيرا. يضاف الى ذلك : أن الجدال مع كثيرى الكلام لاينفع. فلنبدأ برأيك القائل بأن الانسان مزود بكل أنواع المعرفة والجمال والكرامة. رغم ذلك لابد من وقوعه فى شباكنا ولامفر له من خيوطها. ان علم النحو_ وهو أساس كل حديث بليغ_ لايساعدة بكل مافيه من حسن البيان ودقة التعبير_ وعلم البلاغة وهو النبع الفياض لكل أحاديث التملق_ لايساعده أيضا بتعبيراته الوردية ذات الألوان الجذابة. وعلم المنطق_ وهو أعدل سيف يفصل بين الحقيقة والزيف_ لاينفع أيضا رغم أسلوبه الملتوى وطرقه المعوجة فى التضليل عن الحقيقة. والهندسة_ وهى التى تكشف معالم الأرض وتقدرها وتقيسها_ لاتجدى هى الأخرى بقياسها السليم وتقديرها القويم وعلوم الرياضة بتنظيمها الدقيق للآعداد, لاتنفع رغم حساباتها وعدها وحصرها ورموزها.وعلم الفلك_ المسيطر على الكواكب_ لاينفع أيضا فى مثل هذا الوضع, ورغم قوة نجومه وتأثير كواكبه السيارة. والموسيقى_ وهى الذراع الأيمن للصوت والمغنى_ لاتجدى رغم حلاوة أنغامها ورقة أصواتها. والفلسفة_ وهى حقل الحكمة الخصيب, الذى حرث طولا وعرضا وغرست فيه أنواع المعرفة لتثمر أطيب العادات _ لافائدة عندئذ فيها, رغم كمال نباتاتها. كذلك لاتجدى: الطبيعة رغم مشروباتها المفيدة فى حالات عديدة, والتنجيم الذى يجيب بمهارة على كثير من التساؤلات الدنيوية بمساعدة تحديد مسار الكواكب وعلامات النجوم فى القبة السماوية, وكشف الطالع الذى يزيح الستار عن المستقبل عن طريق استطلاعه فى المياه, والفلك هو المفسر للأحداث الدنيوية بمساعدة الظواهر السماوية, وقراءة الكف ومعرفة أسرار اليد من تقاسيم سطحها الداخلى, والسحر بتحضيره لأرواح الموتى وطلاسمه المبهمة, والتعزيم والشعوذة بطلاسيمها وترانيمها وتوسلاتها الفعالة, والكاهن المتفهم للغة الطيور وبذلك يتنبأ فعلا بمستقبل الأمور, وعراف المستقبل عن طريق ذبائح القربان, والسحر بأمعاء الأطفال وأحشاء الطيور البرية, ورجل القانون_ ذلك المتدين المنعدم الضمير_ لايجدى هو الآخر رغم قلبه لأوضاع الحق والباطل ورغم أحكامه المعوجة.
كل هذة الفنون ومايتصل بها لاتنفع فعلا: لابد أن نحصد كل إنسان, ونطحنه فى ماجورنا, ثم نصفيه وننقيه فى برميلنا..... صدقنى, أيها الفلاح المتغطرس
.




27- أكرمان

لايصح أن يقبل المرء الاساءة بالاساءة , بل ينبغى أن يتحلى الانسان بالصبر ويتحرى تعاليم الفضيلة. وأريد أن أشق هذا الطريق, فربما تقلع عن ثورتك وتتوخى الصبر وطول البال.
وكما فهمت من حديثك, فأنت تدعى أنك تخلص لى النصيحة. واذا كنت فعلا تعرف الاخلاص, فأرجو أن تنصحنى بإخلاص, كما لو كنت قد قطعت على نفسك عهدا بذلك: كيف أخطط الآن لحياتى؟ عشت سابقا فى ظل الحياة الزوجية البهيجة,فأى وجهة أتجه الأن؟ هل أسلك سبيل الدنيويين من بنى الانسان أم أختار طريق الرهبان؟ فالطريقان أمامى مفتوحان. لقد فكرت فى حياة بعض الناس, ووزنتها وقيمتها بمنتهى العناية والاحتراس: فوجدتها كلها غير كاملة, على الانهيار مقبلة, وفى الخطايا نازلة. اننى فى حيرة من أمرى, فالى أين أتوجة, لاأدرى...... أن الانسان فى أى وضع ومكان, مكتوب عليه الهوان. أيها الموت, عليك بالنصيحة, فهذا وقتها. اننى أجد , بل وأظن وأعتقد, أنه لن يعود لى فعلا مثل ماافتقدت من بيت طاهر وانسان بحب الله ظافر. أقسم لك بروحى:لو كنت أدرى أننى سأوفق فى الحياة الزوجية كما كنت , لما ترددت أن أعيش فى كنفها مهما امتد بى العمر. فالرجل الذى رزق بزوجة صالحة, هو رجل متمتع سعيد, منشرح الصدر, معتدل المزاج, أينما كان وحيثما وجد. مثل ذلك الرجل يجد متعة فى السعى وراء لقمة العيش, وفى الطموح الى المجد والشرف , كما أنه يشعر بالسعادة فى أن يدفع الشرف بالشرف, ويقابل الاخلاص بالاخلاص, ويجازى الحسنة بالحسنة. انه ليس فى حاجة أن يحرس زوجته, لأن أحسن حراسة ورعاية هى التى تمارسها السيدة الفاضلة بنفسها. فمن لايصدق زوجته ويثق فيها, دامت الهموم له صديقا والمنغصات رفيقا.
يا إله السموات العلى, ويامن بيده مقاليد السعادة الروحية, هنيئا لمن أنعمت عليه بزوجة فى مثل ذلك الطهر والنقاء..... عليه أن يتجه بقلبه الى السماء, رافعا يديه لك دائما بالشكر والثناء.
أما أنت أيها الموت_ ياصاحب النفوذ الواسع, فافعل خير ماتستطيع.
28- الموت

تعود كثير من الناس على المغالاة فى المدح أو المبالغة فى القدح, عندما يريدون تنفيذ أمر من الآمور_ لكن يجب أن يعرف المدح أو القدح حد الاعتدال, ليطابق مقتضى الحال.
فأنت تمتدح الحياة الزوجية مدحا يفوق كل حد. لكننا نريد أن نحدثك عنها. وبغض النظر عن النساء الطاهرات نرى أنه بمجرد أن يتزوج الرجل, فقد دخل هو وزوجته السجن لدينا. عليه عندئذ واجبات ومسئوليات وتبعات, كأنه يجر زلاقة, وفى رقبته طوق وزناق, تثقل كاهله الأعباء والمشاق, التى لايستطيع التخلص منها طبقا للقانون, طالما لم نمنحه رضانا( أى نتوفاه). لايخلو بيت المتزوج كل يوم من الرعد والعواصف الثلجية, والذئاب والثعابين. فالمرأة تطمع دائما أن تكون هى رجل البيت ( لها اليد العليا): اذا أراد النهوض, فضلت القعود, واذا أراد هذا, أرادت ذلك, واذا أراد شرقا, أرادت غربا. وكل يوم تتكرر هذه المأساة, فيشعر فيها بغلبه وأساه, ان المرأة تستطيع فى لحظه واحدة أن تخدع وتمكر وتتملق وتهذى وتلاطف وتزمجر وتضحك ثم تبكى, فكل ذلك فى دمها. هى فى ساعة العمل سقيمة, وفى أوقات المتعة سليمة, ثم وديعة أو متوحشة حسب ظروفها. هى فى غنى عن أى مساعدة, اذا أرادات المعارضة..... اذا أمرت بشىء تركته, واذا نهيت عن شىء فعلته. فلا يعجبها العجب: اذ تجد شيئا شديدا فى حلاوته, وآخر زائدا فى مرارته, هذا أكثر من اللازم, وذاك أقل من اللازم, هذا قبل الأوان, وذاك بعد فوات الأوان. وهكذا تعيب على كل الأمور..... فاذا حدث وامتدحت شيئا, فانها تعيد فيه وتزيد . حتى المدح والثناء لايخلو من السخرية والهجاء. أما الزوج فلا ينفعه أى حل وسط: فان كان طيبا مسالما, أو قاسيا صارما, فهو فى كلا الحالتين ملام. حتى اذا مزج الطيبة بالشدة, فليس هناك من حل وسط, لآن الأمر ينتهى به دائما الى سوء الجزاء. فى كل يوم طلب جديد, أو خناقات وتهديد, فى كل أسبوع عناد أو عكننة , فى كل شهر سيئات وبدع أو رعب وفزع, فى كل عام ملابس جديدة أو مشاحنات يومية_ كل ذلك يواجهه الرجل المتزوج, مهما فعل. ولنسكت عن مآسيه فى لياليه, فنحن نستحى لكبر سننا. ولولا حرصنا على الترفق والرحمة بالسيدات المحصنات لكنا نضيف الكثير ونحكى الوفير عن غير الفاضلات. عليك اذن أن تنتبه وتعرف ماذا تمدح..... فأنت لاتستطيع أن تميز بين الذهب والرصاص.

29- أكرمان

" فاضحو النساء لابد وأن يفضحوا"_ هكذا يقول الحكماء العارفون. فلماذا دهاك اذن أيها الموت؟ ان مسبتك الهوجاء للنساء, حتى ولو كانت بعد استئذانهن, هى فى الحقيقة عار عليك, واهانة لهن.
نجد فى مؤلفات بعض الحكماء أن المرأة اذا لم تأخذ بزمام الآمور وتوجه دفة السفينة, فلا يمكن أن أن يصل الزوج الى بر الآمان, أو يشعر بالسعادة والاطمئنان. فالزوجة والأطفال هم جزء غير يسير من السعادة فى الدنيا. وعلى ضوء هذه الحقيقة فاضت الفلسفة الحكيمة بالسلام على روح حكيم المواساة الفيلسوف الرومانى بوتيوس. وشاهدى على ذلك هو كل عاقل حكيم ومفكر عظيم: لاوجود لرجل عفيف طاهر الا فى كنف سيدة طاهرة عفيفة. وليتقول القائلون كما يريدون. فالمرأة المؤدبة الجميلة صاحبة الصون والعفة أفضل من أى سعادة دنيوية أخرى.
ليس هناك رجل ذو رجولة حقة, دون أن يكون وراءه امرأة. وكلما اجتمع عليه القوم فى أى مناسبة_ فى كل ميدان وكل بلاط وكل سباق وكل تحركات الجيش_ فأن المرأة تبلى أحسن البلاء. أن من يقوم على خدمة النساء( يتغنى بهن مثل الشعراء) لابد وأن يكون طاهر السريرة, مبتعدا عن كل إثم وجريرة.
فالفاضلات لهن مدرسة يغرسن فيها الشرف والتربية القويمة. والنساء تمتلكن زمام السعادة الدنيوية: هن حريصات على شرفهن , كما أن مجرد اشارة تهديد من إصبع امرأة طاهرة, يعتبر تربية للرجل وعقابا أمضى من أى سلاح. وبالاختصار ودون محسنات : ان المحصنات من النساء هن سر بقاء الدنيا وتكاثرها وثباتها.
ومع ذلك فلابد من وجود الرصاص الى جانب الذهب, والزمير الى جانب القمح, والعملات المزيفة الى جانب الحقيقية, والفاجرات الى جانب المحصنات. الا أنه لايصح أن نجازى الصالح بذنب الطالح. صدقنى فى ذلك, ياوحش الجبل!!!

30- الموت

أحمق هو من يعتبر كوز الذرة كتلة ذهب, والعظم ياقوتا أصفر, والزلط ياقوتا أحمر, ومغفل مخبول هو من يعتبر الحطب حصنا, ونهر الدانوب بحرا, والصقر بازا. وها أنت تمتدح مايفتن العيون, دون أن تفكر فى المسببات, ذلك لآنك لاتدرى أن كل شىء فى هذا الكون عبارة عن شهوة الجسد أو شبق العيون وطمعها, أو زهوة الدنيا وخيلائها. فأما شهوة الجسد فهى تبتغى المتعة واللذة, وأما شبق العين وطمعها فهو يشتهى التملك والثراء, وأما زهوة الدنيا وخيلاؤها فهى تطمع فى المجد والشرف. ثم ان الامتلاك يجلب الجشع والطمع, واللذة تذهب بالحياء, والمجد يصاحبه الغرور والخيلاء. أما النتيجة الحتمية للثراء فهى الجشع والفزع, كما أن عاقبة اللذة هى الشر والخطيئة, والمجد والشهرة يأتيان بالزهو والكبرياء. فلو كان بامكانك ادراك ذلك, لكنت تلاحظ مابالدنيا كلها من غرور وخيلاء. وعندئذ تتحمل راضيا ماقد يصيبك من أفراح وأحزان وتكف عن لومنا وعتابنا.
الا أنه لو كان الحمار يجيد اللعب على القيثارة, لاستطعت أنت أيضا أن تدرك الحقيقة. ولذلك فنحن فى قلق عليك شديد. اننا عندما فرقنا بين الفتى بيراموس ومحبوبته تيسبى , وكانا عبارة عن قلب واحد وروح واحدة, وعندما انتزعنا من الاسكندر سيطرته وسلطانه الواسع, وعندما حطمنا باريس أمير طروادة, ومعبودته هيلينا اليونانية_ عندما فعلنا كل ذلك , لم نصادف من اللوم مثل مانلنا على يديك الأن. بل لم يصبنا الكثير من المتاعب والمضايقات, عندما قبضنا على روح القيصر كارل, والشريف فيلهيم ( وليام),ديتريش فون بيرن, بوب المتين, سيجفريد الحصين. ومع أن كثيرا من الناس تنعى حتى اليوم موت أرستطاليس وابن سينا, فلم يتعكر لنا صفو. بل انه عندما توفى الملك القاهر داود, وتوفى سليمان الحكيم, فقد حصدنا من الشكر مايزيد عن اللعنات. لقد مات كل من سبقهم من السلف, وسيموت كل من جاء بعدهم من الخلف, كما أنك وكل من يعيش اليوم أو مستقبلا, لابد وإنكم بهم لاحقون, وعلى دربهم سائرون. أما نحن_ الموت_ فنظل السيد السائد فى الكون.

31- أكرمان

كثيرا مايوقع الحديث صاحبه فى الشرك, خصوصا اذا أدلى المتحدث الآن بأقوال تخالف أقواله بعد قليل. سبق أن قلت إنك شىء وفى نفس الوقت لاشىء, وإنك لست روحا, ولكنك نهاية الحياة, وان البشر جميعا تحت وصايتك. أما الآن فأنت تقول: لابد وأن نفنى جميعا, الاأنت أيها الموت, فستبقى السيد السائد. هذان قولان متعارضان, ولايمكن أن تثبت صحتهما فى أن واحد. إن صح أننا جميعا نفارق الدنيا, وان كان للحياة الدنيا لابد من نهاية, وأنت تمثل _ على حد قولك_ تلك النهاية, فإننى ألفت النظر الى الملحوظة الآتية: اذا لم تكن هناك حياة, فلن يوجد اطلاقا موت أو وفاة, فإلى أين تذهب اذن أيها السيد الموت؟ أنت لاتستطيع أن تقيم فى الجنة, فهى مكتوبة للأرواح الطاهرة الصالحة, وأنت لست روحا كما تقول بنفسك. فعندما تنتهى مهمتك على الأرض, ثم تفنى الأرض , لابد اذن أن تشق طريقك مباشرة الى النار, وبداخلها لابد وأن تتعذب بلا نهاية. وفى ذلك انتقام للأحياء والأموات منك. ان حديثك المتغير لايمكن أن يهتدى به أحد.
هل يعقل أن تكون كل الأشياء الدنيوية قد خلقت شريرة, بائسة يائسة, عاطلة باطلة؟ ان الخالق الخالد ماكان ليسمح بذلك أبدا. فمنذ بدء الخليقة للآن يحب الله الفضيلة, ويكره الشر والرذيلة, ويغفر الخطايا أو يعاقب عليها. وأنا أعتقد أنه مازال يفعل ذلك دائما وأبدا. اننى منذ صباى وأنا أستمع لما يقرأ, ثم تعلمت أن الله هو خالق كل شىء فى الدنيا, وأنت تقول بأن الحياة والكينونة لابد وأن تفنى وتزول. بينما يقول أفلاطون وغيره من الحكماء ان فناء شىء يشتمل على مولد شىء أخر, وأن كل الأشياء قامت على أساس البعث من جديد, وأن أحداث الآرض والسماء متجاوبة الأصداء, وتؤثر أحداها فى الأخرى باستمرار. لقد أردت بحديثك المزعزع المتقلب_ الذى لايمكن أن يعتمد عليه أحد_ أن تفزعنى لأتراجع عن شكواى. ولذلك أحتكم معك الى الله, فهو ملاذى, أيها الموت المهلك المضلل, فليصب الله عليك غضبه.



32- الموت

فى كثير من الأحيان لايستطيع الانسان أن يكف عن حديث بدأ فيه, الا اذا قاطعه غيره. وتنطبق عليك هذه القاعدة. لقد سبق أن قلنا, ومازلنا نقول حتى تصل بالحديث الى نهاية:إن سنة الحياة الدنيا بكل مافيها هى الفناء والزوال. وفى وقتنا هذا تغيرت معايير الدنيا, وانقلبت الأمور وأوضاعها: فصارت المؤخرة فى الأآمام, والمقدمة فى الوراء, وانخفض الجبل, وارتفع الوادى, وأصبح الباطل حقا لدى أغلبية الشعب, لقد رميت بالجنس البشرى كله الى نار جهنم الموقدة. أصبح من شبه المستحيل فى هذه الدنيا أن يعيش المرء على بصيص من النور يهتدى به, أو يجد صديقا صدوقا دائم الاخلاص. أصبح الناس جميعا أكثر ميلا الى الشر منه الى الخير. فاذا عمل أحدهم اليوم عملا طيبا, فإنما يفعله خوفا منا. أصبح الناس جميعا مغرورين بأعمالهم. إن أجسادهم وزوجاتهم وأطفالهم وأمجادهم وممتلكاتهم وكل ثرواتهم_ هذه كلها الى زوال: ففى لحظة واحدة تفنى وتزول, تذروها الرياح, فلا يبقى أثر فى المظهر أو المخبر.ألا فلتلاحظ وتدرك, وترى وتتحقق من نوايا أبناء آدم اليوم: فهم يعيثون فى الأرض, ينقبون فى الوادى والجبل,فى الخشب والصخر, فى الحقول والبرارى والغابات, فى قاع البحر وبطن الأرض_ بحثا وراء متاع الدنيا. وهم يملآون جوف الأرض بالأنفاق والخنادق ويقطعون أوصال الأرض وعروقها, باحثين عن التربة البراقة(الذهب) التى يحبونها لندرتها أكثر من أى شىء. وهم يقطعون الأخشاب ليقيموا منها الحوائط والمخازن والبيوت, كما تفعل العصافير. وهم يزرعون الحدائق ويطعمون أشجارها, ويفلحون الحقول, ويغرسون الكروم, ويبنون المطاحن, ويرفعون العوائد والضرائب , ويمارسون الصيد فى البر والبحر والجو, ويسوقون قطعان الماشية, ويمتلكون كثيرا من الخدم والجوارى, ويمتطون صهوات الجياد, ويختزنون ويكنزون صناديق الدهب والفضة والأحجار الكريمة والثياب الفخمة, ويحافظون على الشهوات والملذات ويسعون وراءها ليلا ونهارا. فماذا يعنى كل ذلك؟ كله غرور وخيلاء يصدر عن نفوس مريضة. كل شىء زائل زوال نهار أمس, وهم يحصلون على ذلك كله عن طريق الحرب والسرقة والنهب , فكلما زادت الامتلاكات, دل ذلك على كثرة السرقات. ثم هم يتركونها وراءهم لتسبب النزاع والعراك والخلاف والشقاق. أواه, أن بنى الانسان يعيشون دائما فى مخاوف وكدر,فى أحزان وهموم, فى خوف وفزع, فى فترات ألم, وأيام مرض, فى حزن ونكد, فى تعاسة وشقاء, وكرب وبلاء, وفى مختلف المكاره والشدائد. وكلما زادت عقارات الانسان, كثرت لديه الآحزان . يضاف الى ذلك أمر من أخطر الآمور, وهو أن الانسان لايدرى متى وأين وكيف ننقض فجأة علية ونزج به فى طريق الأموات. وهذا الهم لابد وأن يقع تحت طائله السيد والمسود, الذكر والأنثى, الغنى والفقير, الطيب والشرير, حديث السن والطاعن فيه_ واأسفاه , كم يجهل الأغبياء ذلك, وبعد فوات الآوان, يريدون جميعا الصلاح والايمان. وكل ذلك خيلاء فوق خيلاء, وتحميل للنفس بالأعباء.
ولذلك فلنترك الشكوى, وتنضم لأى طبقة تهوى, فسوف تجد فى كل منها العيب والغرور. ومع ذلك فعليك أن تربأ بنفسك عن المساوىء والشرور, وتفعل الخير وتنشد الهدوء والسلام, وتتمسك به على الدوام, ولتحب نقاء الضمير وصفاءه أكثر من حبك لكل متاع الدنيا. لقد أخلصنا لك النصيحة, والآن نقف معك بين يدى الله, الخالد, الكبير, ذى القوة المتين.
صوت الحق في حق الموت

33

الربيع والصيف والخريف والشتاء_ وهم قوام السنة ومحيوها الأربعة_ اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا أمرهم. أخذ كل منهم يتباهى بحسن نواياه, ويبرر حالات المطر والرياح والرعد والرذاذ, وكل مظهر من مظاهر سوء الأحوال الجوية, كما أراد كل منهم أن يبز الآخرين فيما يفعل.

فقال الربيع انه يبعث الحياة فى كل الثمار, ويجعلها كثيرة وفيرة. وقال الصيف انه ينضج الثمار حتى يحين قطافها.
وقال الخريف انه موسم الحصاد والتخزين, ففيه تمتلىء الشون والمخازن والبيوت بالثمار.

أما الشتاء فقال انه يلتهم الثمار ويستهلكها, ويطارد كل الديدان السامة.

أخذ الأربعة يتباهون بصنيعهم ويتنازعون أمرهم. لكنهم نسوا أنهم بذلك إنما يفاخرون بقوتهم الشخصية, ويمتدحون سلطتهم الذاتية.

وهكذا تفعلان. إذ يبكى الشاكى فقيدته, وكأنها كانت ملكاً له, ولم يخطر له على بال , أنها كانت وديعة أودعناها لديه. أما الموت فهو يفخر بسلطته ويتباهى بسلطانه, ذلك السلطان الذى لم يعره إياه سوانا.

ذاك يشكو من فقدان شىء لايملكه, وهذا يتباهى بسلطة استمدها من غيره. ومع ذلك فليست أسباب النزاع واهية, بل لها وجاهتها: لقد أحسن كل منكما فى دفاعه عن وجهة نظره, ذاك تدفعه آلامه إلى الشكوى, وهذا يضطره هجوم الشاكى إلى قول الحقيقة.

لهذا نحكم لك بالشرف والكرامة أيها الشاكى, ولك بالغلبة والنصر أيها الموت.... فقد كُتِب على كل إنسان أن يدفع حياته للموت. ويعطى جسده للأرض , ويسلم روحه إلينا.
























غواية العشق ووهم الوصال(الفصل الثالث)

الفصـل الثالـث


فلاح بوهيميا و محاكمة الموت

هل هو الخوف من الموت يسيرنا أم هو فراق الاحبة نتركهم وراءنا أو يسبقون رحلينا ، ما يرعبنا حقاً ؟؟؟

لنتابع "أكرمان" في محاكمته للموت الذي سلبه رفيقة العمر و انيسة الدرب.

15- أكرمان

لاينمق حديثه سوى المذنب. وهكذا أنت فاعل. إنك تعودت أن تثبت لمن تنوى خدعتهم بأنك تجمع فى شخصك بين الحلاوة والمرارة, بين اللين والجمود, بين الطيبة والقسوة, وقد وضح ذلك فى حالتى. فمهما دبجت حديثك ونمقته, فأنا واثق تماما أن قسوتك الصارمة كتبت على الأسى وفقدان الشريفة الفاتنة
كما أعلم علم اليقين أنه لم يؤت أحد من العالمين مثل مالله ولك من بطش وجبروت. ولكن الله لم يعذبنى مثل هذا العذاب: لأننى لو كنت خالفت الله_ الأمر الذى يحدث للأسف كثيرا_ لكان قد انتقم منى, أو لكانت الطاهرة قد ردتنى الى صوابى وهدتنى.
اذن فأنت الآثم الجانى: لذلك أود أن اعرف من أنت, وماهى وظيفتك, وأين أنت, ومن أين تأتى (ماهو أصلك وفصلك). وماذا تفعل حتى استجمعت كل هذه السلطة الواسعة التى جعلتك تتحدانى وتؤذينى دون سابق انذار, وتتسبب فى خراب روضتى وهدم قوتى وتقويض دعائم قلعتى؟
أواه ياربى, ياعزاء كل القلوب الحزينة! هبنى العزاء والصبر وعوضنى ( فى مصيبتى), فأنا عبد بائس حزين, وحيد مسكين.
اللهم أنزل بالموت الفظيع عذابك وانتقامك,واضرب اللهم عليه بالقيود, وامحه من الوجود , فهو لك ولنا جميعا العدو اللدود.... يارب ليس فى خلقك أفظع ولاأشنع, ولاأفضح وأبشع , ولاأظلم وأقذع من الموت. انه يعكر صفو عرشك فى الدنيا ويخربه,فهو يتوفى الصالح قبل الطالح, ولايترك غالبا فى الدنيا إالا كل مضر ومسن وسقيم ومالافائدة فيه. أما الصالحون والنافعون فهو يحصد أرواحهم. فاقض يا أعدل القضاة على هذا القاضى الذى لايقضى بالعدل.

16- الموت


إن أحمق الناس هو من يسمى الشر خيرا, والخير شرا , وهذا هو شأنك. تتهمنا بالظلم وبذلك تجور علينا. وسوف نثبت لك ذلك...أنت تسأل عمن نكون, ونقول لك : نحن آلة الله , نحن صاحب السيادة الموت , أى المحشة ( الحاصدة) الفعالة, التى تمضى فى طريقها, فتحصد الأبيض والأسود, الأحمر والبنى, الأخضروالأزرق, الرمادى والأصفر, وكل الأنواع من زهور زينة وحشائش, بصرف النظر عن جمالها أو قوتها أو فضائلها ومميزاتها, فلا يشفع لزهرة البنفسج لونها الجميل ولاعبيرها الفواح ولارحيقها ذو المذاق الطيب. تنبه, هذه هى العدالة... لقد اعترف لنا بهذا الحق كل من الرومان والشعراء, لأنهم عرفونا أحسن من معرفتك لنا.
أنت تسأل عن كنهنا وجوهرنا. والاجابة أننا لسنا بشىء ولكننا مع ذلك بشىء: لسنا بشىء لانه ليست لنا حياة, وليس لنا كيان أو هيكل, ولسنا روحا كما لانرى أو نلمس. ولكننا شىء, لأننا نهاية الحياة, نهاية الكينونة, بداية العدم والفناء, نحن أمر وسط بينهما. نحن حدث تخضع له رقاب الناس جميعا. كل مارد جبار أمامنا ينهار. نحن نقضى على كل كائن تدب فيه الحياة. نحن متهمون بذنب عظيم.

أنت تسأل عن مكان وجودنا, ونحن لايمكن تحديدنا (بزمان أو مكان), ورغم ذلك فقد عثر على صورة لنا مرسومة على حائط أحد المعابد فى روما, ونبدو فيها كرجل امتطى ظهر ثور معصوب العينين, أما الرجل فهو يقبض بيده اليمنى على مغرفة, ويمسك باليسرى جاروفا, وبهما يبارز من فوق الثور, بينما أخذ حشد كبير من مختلف طبقات الشعب يواجهه ويخانقه ويضربه, ومنهم من يحارب بآلته اليدويه, وتظهر بين الجموع راهبة تحمل كتاب الترانيم, كانوا جميعا يقذفون بأسلحتهم ومعداتهم فى وجه ذلك الرجل الذى يمثلنا وهو فوق الثور. ولكن الموت غالبهم وغلبهم وواراهم جميعا التراب.
أما فيثاغورث فهو يقارننا بهيكل رجل له عينان بارزتان قاتلتان, تحملقان فى كل أركان الدنيا وتكيل الموت لكل كائن حى.
أنت تسأل : من أين نأتى . نحن من جنة الله فى أرضه, خلقنا الله ونادانا بإسمنا الحقيقى حيث قال فى اليوم الذى تأكلون فيه من هذه الفاكهة فسوف يدهمكم الموت وتهلكون). لذلك فنحن نلقب أنفسنا دائما بالآتى نحن الموت, السيد المهيمن على الأرض والجو والبحر).
أنت تسأل عن معنى وظيفتنا, وقد سمعت بعاليه أننا ننفع الدنيا بأكثر مما نضرها, وتشكرنا لما أصابك من خير على يدنا.


17-أكرمان
يحكى المسن قصصا جديدة, والمتعلم قصصا فريدة, أما من جاب بقاع الأرض, فلا يستطيع أحد أن يقارعه أو يعارضة. وربما قيل أنها قصص مكذوبة, لاعقاب على حاكيها, وذلك لجهل سامعها بها.
فأذا كنت مسنا, فلا حرج عليك من التأليف والتحريف. ورغم أنك تدعى بأنك خلقت فى الجنة لتقبض أرواح الناس, بالعدل والقسطاس, فإن محشتك غير عادلة فى حصدها, فهى تطيح بالورود فى قسوة وجحود,بينما تترك الأشواك فى الوجود, محشتك تترك الضار من الأعشاب, أما النافع منها فتلحق به الدمار والخراب. أنت تدعى أنها تقضى بالعدل, فكيف يتأتى أنها تبقى على أشواك أكثر من الورود, وعلى أعشاب ضارة أكثر من النافعة, وعلى أشرار أكثر من الأخيار؟ أرنى أين المجتهدون المحترمون الأن, ممن كانوا فى غابر الأزمان؟ أعتقد أنك حصدتهم حصدا مثل محبوبتى, ولم يبق منهم جميعا سوى ذرات من رماد.أين ذهب أولئك الذين عاشوا على الأرض, وناجوا الرب, وطلبوا منه اللطف والشفقة والرحمة؟ أين أولئك الذين أتخذوا من الأرض مستقر لهم, وتعاملوا مع النجوم, وحددوا مسار الكواكب والأفلاك؟ أين ذهب الحكماء والخبراء والعادلون والصناديد الذين تحكى كتب التاريخ الكثير عنهم؟ _ لقد اغتلتهم جميعا وبينهم محبوبتى الرقيقة, بينما مازال التافهون الحقراء على قيد الحياة. من الجانى اذن؟ فلو واتتك الشجاعة لتقول الحقيقة_ أيها السيد الموت_ فسوف تعترف بأنك أنت وحدك الجانى. أنك تؤكد فى ادعائك, بأنك عادل فى قضائك, فلا تعفى أحدا, بل أن ضربات محشتك تسقط العباد واحدا تلو الأخر. ولقد رأيت بعينى كيف أن جحافل جيشين عظيمين , يربو عدد كل منهما على ثلاثة ألاف رجل, التحمت مع بعضها, واتخذت من المروج الخضراء ميدانا للقتال, ورأيت كيف خاضوا حتى الركب فى الدماء. وفى تلك الأثناء كنت تصول وتجول فى كل الأرجاء. فقتلت بعض رجال الجيش بينما أبقيت على البعض الآخر. لقد لاحظت أن أغلب القتلى من السادة وليس من العبيد. لقد انتقيتهم واحدا واحدا من بين الجموع, كما ينتقى المرء مانضج من حبات الكمثرى. فهل حصدت بالعدل؟ وهل هذا حكم فصل؟ وهل تعدل المحشة فى القتل؟.
تعالوا يا أعزائى الأطفال .... تعالوا .... لنأتى جميعا راكبين من كل فج مهللين مادحين وللموت مكرمين معظمين, فهو يدعى أنه أعدل العادلين وكأن حكمه يمتاز عن حكم الله فى العدل والمساواة .



18- الموت
من لايفهم الأمور فهو يجهلها ولايستطيع التحدث عنها. وهذا ماحدث لنا. فلم نكن نعرف أنك رجل بارع الى هذا الحد. لقد عرفناك مدة طويلة ولكننا نسيناك. كنا حاضرين ساعة وهبتك الآلهة( سبيلا) أسباب الحكمة, وعندما سلمك سليمان مقاليد حكمته وهو على فراش الموت, وعندما منحك الله ماكان لموسى من سلطان على أرض الكنانة, وعندما أمسكت أسدا من رجليه ونفضته فى الحائط, لقد رأيناك تعد النجوم وتحصى رمال البحر وأسماكه وتقيس قطرات المطر.
رأينا بكل شغف ذلك السباق الذى شاركت فيه مع الأرنب. ورأيناك فى بابل أمام الملك سلطان تقدم له الطعام والشراب بكل تفخيم وتعظيم. ورأيناك وفرحنا لك وغبطناك الشرف عندما كنت تحمل الراية وتتقدم موكب الملك الاسكندر, تلك الراية التى أخضع بها الدنيا تحت لوائه . وغمرتنا السعادة عندما رأيناك فى أكاديمية (أفلاطون) وفى أثينا مع فطاحل العلم وجهابذته, الذين أبدعوا الحديث عن الرب وأظهروا معلوماتهم الغزيرة, وأخذت أنت تناقشهم وتتفوق عليهم بحديثك الحكيم. وأنصتنا إليك معجبين, عندما كنت تعلم القيصر نيرون كيف يفعل الخير ويتحلى بالصبر. وقد عجبنا عندما نقلت القيصر يوليوس فى قارب من القش عبر البحر الهائج ورغم كل الزوابع. ورأيناك فى ورشتك تصنع زيا وجيها من قوس قزح, ازدان برسوم الملائكة والطيور والحيوانات وجميع أنواع الأسماك, ثم نسجت فيه صورة البومة والقرد. وقد ضحكنا كثيرا وامتدحناك, عندما تربعت فوق عجلة الحظ فى باريس , ورقصت فوق ظهر الثور, ومارست السحر وحبست الشياطين فى زجاجة عجيبة. وتحققنا تماما من حكمتك البالغة عندما دعاك الإله للمشورة بشأن خطيئة حواء.
فلو كنا عرفناك من قبل حق المعرفة لاتبعناك, ولتركنا زوجتك وكل الناس يعيشون إلى الأبد. نعم, لو عرفناك سابقا لفعلنا كل ذلك من أجلك, لأنك حقا حمار ذكر حكيم.
19- أكرمان
كتب على الناس أن يتحملوا السخرية وسوء المعاملة, إن أرادوا التوصل للحقيقة. وهذا هو مايدور معى الآن: فأنت تمتدحنى وتنسب الى المستحيل من الأمور, وأنت الذى تأتى بأعمال الفجور, وليس لك سوى القوة والعنفوان من دستور. لقد أسأت معاملتى وأهنتنى وجرحتنى. فإذا ماحدثتك عن ذلك, فإنك تسلط على لسانك , وتصب على غضبك وامتهانك. إن من يزرع الشر ويتكبر ويتعالى. ولايريد الخضوع والامتثال للجزاء, بل ويفعل كل شىء فى زهو وخيلاء فإن عليه أن يتنبه ويحترس حتى لايحصد العداوة ويجنى البغضاء.
ولتعتبر بحالتى... فمهما طال امتهانك لى أو قصر, ومهما أسأت معاملتى وظلمتنى, فستجدنى صابرا, أتحمل ولاأنتقم, رغم أن لى حق الانتقام. أننى أريد اليوم أيضا أن أكون أفضل منك: فأذا كنت قد أرتكبت فى حقك إثما أو رميتك بما لايليق,فنبهنى إاليه ودلنى عليه, فأنا على استعداد للتكفير عنه, أما اذا لم يكن ذلك كذلك. فعوضنى إذن عن خسارتى, أو دلنى على كيفية التخلص من حزنى وحسرتى..... حقا أن أحدا لم يصبه مثل ماأصابنى, ورغم ذلك كله فعليك أن تضع تأدبى وأعتدالى موضع الاعتبار: فأما أن تعوضنى عما ارتكبته فى حق حاميتى من الأحزان وفى حقى وحق أطفالى, وأما أن تذهب وتحتكم الى الله, فهو أعدل القضاة وخير حاكم عليك وعلى الناس أجمعين. كان باستطاعتك أن تستسمحنى, اننى أردت أن أترك لك أمر ذلك, فقد كنت واثقا من أنك ستهتدى بنفسك الى العدالة وتعوضنى عما فجعتنى فيه.
فلتعد الى رشدك, وتحكم بالعقل, وإلا فلتصطدم المطرقة بالسندان, فالشر بالشر, والقسوة بالقسوة, وليكن مايكون.
20-الموت

تأسر الكلمات الطيبة نفوس الناس وتهدىء من روعهم, كما يؤدى بهم الفهم والادراك الى الاعتدال واللطف, ويصل بهم الصبر والتأنى الى مراتب المجد والشرف, والنفس الثأئرة لاتستطيع أن تدرك الحقيقة.
فلو حدثتنا فى بادىء الأمر حديثا وديا, لكنا علمناك عن طيب خاطر, انه لايصح أن تشكو موت زوجتك أو تبكيها. ألم تسمع عن ذلك الحكيم الذى أراد أن يموت فى الحمام؟ ألم تقرأ مؤلفاته التى قال فيها انه لاينبغى لأحد أن يشكو موت أحد من الآنام؟ ان لم تكن تعرف ذلك, فقد حان الوقت لتعرفه: ان الانسان بمجرد أن يولد , فقد تجرع كأس الموت ( وكأنه ولد ليموت) فالنهاية شقيقة البداية, ومن خرج لابد وأن يعود , ولاينبغى لآحد أن يعترض على الأمر المحتوم والقضاء المكتوب. كما لايصح أن يعارض الفرد فيما كتب على الجماعة وقدر, ولابد أن يرد الانسان مااستعار.
ان البشر جميعا ضيوف أغراب فى هذه الدنيا. وهم جميعا سائرون من الوجود الى العدم. فحياة البشر تجرى بخطى سريعة واسعة نحو النهاية. ومن يعش الأن, قد يمت مابين غمضة عين وانتباهتها.
وبأختصار وايجاز: الموت مكتوب على جبين كل إنسان. فهو وراثة الخلف من السلف. فاذا كنت تبكى شباب زوجتك, فلست على حق, لأنه بمجرد أن يعيش الانسان (مدة), فقد أصبح عرضه للموت. ربما تظن أن الكبر(الشيخوخة) حرز أمين أو حصن حصين(ضد الموت). كلا, انه سقيم,ملىء بالمتاعب قبيح, قاس , تزدريه نفوس الناس جميعا. انه لافائدة فيه ولاطائل من ورائة. فالتفاح الناضج يتساقط وحده فى الأوحال, كما تسقط الكمثرى البالغة النضج فى الماء الآسن.
واذا كنت تبكى جمالها , فهذا تصرف صبيانى: فالجمال سريع الزوال, تحطمه الشيخوخة ويفنية الموت.
عندئذ تفقد الشفة الوردية لونها وتذبل, والخدود الحمراء تصبح شاحبة ممتقعة, وكل العيون المشرقة الساطعة لابد وأن تفقد نورها وتظلم. ألم تقرأ من تعاليم هيرميس الحكيم عن رجل أراد أن يحمى نفسه من خطر النساء الفاتنات, فأخذ يقول: من الصعب الاحتفاظ بما هو جميل , فالناس جميعا تشتهيه. لكن من السهل المحافظة على القبيح, فهو ينفر الناس.
دعك من شكواك.... لاتبك على خسارة أو ضياع, فأنت لاتستطيع له أى إعادة أو إرجاع.



21- أكرمان

إسمع عن الحكماء قولهم: ( عاقل هو من يقبل الجزاء الوفاق دون عراك أو شقاق , ومن يقبل الخسارة العادلة دون مجاملة باطلة), وما أصابتنى به يمكن تحمله وقبوله, ولكن إذا كان لزاما على المجازى العادل أن يكون معلما ومرشدا, فأنصحنى وعلمنى كيف أتغلب على حزنى البالغ, وغمى الشديد, وحسرتى الزائدة عن الحدود, علمنى كيف أستأصلهم من القلب, وأطردهم من المزاج, وأمسح آثارهم من الحواس.
فوالله لقد أصابنى الغم والأسى, عندما انتزعت كرامة بيتى ورمز الطهر والاخلاص فيه, انتزعت فى لمح البصر, ماتت, وأصبحت أرملا وأولادى يتامى بلا أم.
أه أيها الموت, الدنيا كلها تشكو منك , وأنا أيضا, وقد يخف بلاؤك وشرك, اذا كان فيك جانب طيب وهو النصح والمساعدة والارشاد , فساعدنى ودلنى كيف أتخلص من ألمى وكمدى وأطردهما من القلب, علمنى كيف يستعيض أطفالى عن مثل أمهم الطاهرة, والا فسأبقى دائما كسيرا وهم حزانى.
وعندئذ لايصح أن تؤاخذنى لاننى ألاحظ أن الحيوانات التى لاتعقل تحزن بالفطرة على فقد رفيقها.
أنك مدين لى بالمساعدة والنصيحة والتعويض, لأنك تسببت فى ضررى وخسارتى. فلو لم يحدث ذلك,لكان تعجيزا وتحديا لانتقام القوى القاهر. لآبد على أى حال من القصاص والانتقام, حتى لو أدى الأمر الى استعمال البلطة والمجراف مرة أخرى( وليكن بعد ذلك الطوفان)

22- الموت

تقوقىء الأوزة كما يحلو لها, مهما وعظها الانسان وهذا هو حالك.... لقد سبق أن شرحنا لك بأن الموت لايصح الطعن فيه. لنفرض أننا أحد محصلى الضرائب يدفع له الناس ضرائب عن حياتهم, فلماذا تعترض أنت وتعارض؟ الواقع هو أن من يريد خداعنا فأنما يخدع نفسه.
تعقل الأمر, وتذكر جيدا: أن الحياة خلقت من أجل الممات, ولو لم توجد الحياة, لما كنا نحن (الموت) وماكانت لنا وظيفة وعندئذ تخلو الدنيا من النظام.
فأما أنك فعلا شربت كأس الحزن حتى الثمالة, أو أن الجنون صفة من صفاتك, فإذا كنت مجنونا,. فأطلب من الله ينعم عليك بنعمة العقل. أما اذا كنت مليئا بالأحزان , ففض حزنك, وفرج من كربك, واعلم أن حياة البشر فى هذه الدنيا ماهى الا نسمة ريح فقط.
أنت تطلب نصيحة تخلصك من آلامك وتبعد عنك أحزانك, وقد سبق أن علمك أرسطو بأن الفرح والحزن والخوف والأمل_ هذه العوامل الأربعة _ تجلب الهموم للدنيا بأسرها, وبالذات لآولئك الذين لايحترسون منها. الفرح والخوف لايدومان طويلا,بينما تطول فترة الألم والأمل. فمن لايطرد الأربعة من وجدانه, فهو يعيش طول حياته غارقا فى أحزانه. أن سنة الحياة الدنيا هى أن الأفراح تعقبها الأحزان, والحب يخلفه الألم والحرمان. فالفرح والألم حليفان متعاقبان. ونهاية أحدهما هى بداية الأخر. وليس مثل الألم والفرح الا كمثل إنسان رسم شيئا فى نفسه ولايريد أن يتنازل عنه, تماما كما هو الحال مع القناعة والطمع: فالقانع لايشعر بالفقر, والطماع لايشعر بالغنى, ذلك لأن الاكتفاء والعوز, أى القناعة والطمع, لاتتوقفان على مقدار الملكية ولاعلى غيرها من الأمور,ولكنهما شعور فى أعماق الصدور. فمن لايريد أن يمحو أثار الحب من أعماق فؤاده فعليه أن يتحمل مابه من ألام. عليك اذن أن تطرد من قلبك ومن فكرك ومن مزاجك كل مايذكرك بالحب, وعندئذ سوف تنمحى الأحزان, وتزول الألام. وبمجرد أن تفقد شيئا لاتستطيع استرجاعه, فعليك أن تتصرف كما لو لم تمتلكه أبدا. أنذاك تتركك الهموم وتذهب عنك الأحزان.
فأن لم تفعل ذلك, فالهم الكثير فى انتظارك: ذلك لآنة عن وفاة أى طفل, يصيب الحزن قلبك. وعند وفاتك, يصاب أولادك بالفجيعة. أى أن الحزن يصيبكم بمقدار كبير, عندما يودع أحدكما الأخر الوداع الأخير. أنت تريد أن تعوضهم عن أمهم , أنك لو أستطعت أن تسترد ماسلف من أعوام, وتحكى ماوقع من حديث وكلام, وتستعيد للاناث بكارتهن, فأنك قد تعيد لأطفالك أمهم ثانية. وقد نصحتك الآن بما فيه الكفاية, فهل يمكنك فهم ذلك_ يابطيىء الفهم وقليل الدراية؟.
23- أكرمان

مع مرور الوقت تتضح للمرء الحقيقة: من تعلم الكثير, أجاد التعبير. أن أقوالك حلوة معسولة, أستسيغ بعضها الآن بسهولة. الا أنه لو كان لابد من محو الفرح والحب واللذة والمتعة من الدنيا, لكانت الدنيا حينئذ على أسوأ حال. اننى أستند فى رأيى هذا الى الرومان, فقد جربوا بأنفسهم وعلموا أطفالهم أن يحافظوا على السعادة والسرور, وأن يتباروا ويتبارزوا ويتسابقوا فى الجرى والقفز. وأن يمارسوا مختلف الفنون التربوية الراقية فى أوقات فراغهم, وذلك بقصد أن يتجنبوا السوء ويبتعدوا عن الشرور, حيث ان العقل الانسانى لايستطيع أن يقف مشلولا, فقد أخذ على النسيج طول الوقت, اما خيرا أو شرا, فهو لايكف حتى فى النوم عن عمله ونشاطه. فلو جردناه من الأفكار الطيبة, فسوف تتزاحم عليه الأفكار السيئة: خروج الصالح يعنى دخول الطالح, والعكس بالعكس. ولابد أن يستمر هذا التغيير حتى نهاية الدنيا. فمنذ أن خلت الدنيا من السرور والعفة والطهارة والحياء والحشمة وغيرهم من الفضائل والمحامد,_ منذ ذلك امتلآت الدنيا بمزيد من الخبث والفضائح والغدر والخيانة والسخرية, وهذا ماتراه كل يوم.
فاذا استلزم الأمر أن أطارد ذكرى محبوبتى الغالية من رأسى وعقلى, فسوف تعود اليه أفكار السوء, وذلك هو مايزيد من تشبثى الى الأبد بذكراها . اذا تحول الحب الكبير الى حزن عميق, فمن ذا الذى يستطيع أن ينسى ذلك بمثل هذه السرعة؟ لايفعل ذلك الا الفاسدون. أما الأصدقاء المخلصون فهم دائما يفكرون فى بعضهم. ومهما بعدت المسافات, وطالت السنوات, فهى لاتفرق بين الأرواح المؤتلفات, واذا كانت زوجتى قد ماتت بالجسد, فأنها تعيش فى ذاكرتى الى الأبد.
فيا أيها الموت: لابد أن تخلص فى نصحك, اذا أردت أن تؤتى نصيحتك ثمارها, والا فأناصبك العداء والخصام, فأنت طائر الخراب والظلام.



24- الموت


عاقل كل من لايبالغ فى فرحه عند الربح, ولايتمادى فى حزنه عند الخسارة. وهذا مالاتفعله أنت. من يطلب النصيحة ولاينتصح فلا داعى لنصحه, وليس لنصيحتنا الصادقة أثر لديك. وسواء تألمت أم سعدت, فأننا نريد أن نصارحك بالحقيقة, وليسمعها كل من أراد.
أنت تريد بعقلك الحائر, واحساسك القاصر, وقلبك الشاغر, أن تجعل من الانسان أكثر مما هو عليه قادر. اعتبر الانسان كما تشاء أن تعتبره, انه لايستطيع أن يكون بأكثر مما أقوله لك_ مع احترامى لكل السيدات الطاهرات: الانسان وليد خطيئة, يغذى فى بطن أمه بقاذورات غير طاهرة, ثم يولد عاريا ملوثا مثل خلية ( سلة) النحل, فهو عبارة عن كومة حثالة, وبرميل زبالة, وطعام للديدان, وموطن للآعفان, وطشت غسيل مقرف, وجيفة نتنة, وصندوق عفن, وزكيبة دون قاع, وحقيبة ذات ثقوب, وكور منفوخ, ومزرد طماع, ومبولة كريهة الرائحة, وسطل تفوح منه المكاره, وضوء دمية خداع, ومنزل من الطين يسكنه اللصوص, ووعاء أطفال لايقنع, وخيال مرسوم. ألا فليعلم, من أراد أن يعلم: أن للإنسان كامل النشأة تسع فتحات فى جسده, وتنساب منها جميعا أقذار كريهة نجسة, تفوق فى نجاستها كل شىء. انك لاتستطيع أن ترى انسانا كامل الجمال. فلو كانت لديك عيون الفهد الثاقبة واستطعت أن تبصر داخل الانسان, فسوف تشمئز نفسك ويقشعر بدنك, واذا كشفت عن أجمل سيدة حجابها, ونزعت عنها طلاءها, فسوف ترى دمية حقيرة, وزهرة سرعان ماتذبل, وبريقا لايدوم, وكتلة طينية سرعان ماتتفكك وتذوب. واذا أمكنك أن تذكر لى عدة جميلات من بين الحسناوات اللاتى عشن منذ مائة سنة_ باستثناء المرسومات فى لوحات_ فإنك تفوز منى بتاج القيصر. فلا تعبأ بشىء, وانس الحب والأسى, دع نهر الراين يجرى كالأنهار الآخرى, أيها الفتى الحكيم من قرية الحمير.!!



25- أكرمان

خسئت يامنبع العار والشنار. كيف يتأتى لك أن تحطم الانسان, وتسىء معاملته, وتجردة من الشرف , وهو المخلوق النبيل, بل وأحب مخلوقات الله اليه؟ انك بذلك تطعن فى الخالق. لقد أدركت الآن_ والآن فقط_ إنك كذاب أشر, ولم تخلق فى الجنة كما تدعى. فلو كنت من أهل الجنة, لعرفت أن الله أحسن خلق الانسان وكل الأشياء, ثم رفع الانسان فوق كل شىء قدرا, ومنحة السيادة عليها جميعا, وجعلها تخضع له وتنقاد. ومن ثم يسيطر الانسان فعلا على الحيوانات فى البر, والسمك فى البحر, والطيور فى الجو, والفواكه والثمار على كل الأشجار. فلو صح قولك بأن الانسان حقير, نجس , شرير_ فمعنى ذلك أن الله لم يحسن الخلق والتدبير. ولو صح قولك بأن يد العلى القدير قد خلقت الانسان دنسا نجسا_ كما تدعى_ لكان خالقا مهينا. وعليه فلا يتناسب ذلك مع القول بأن الله أحسن خلق الاشياء كلها, ثم فضل الانسان عليها جميعا.
أيها الموت, دعك من هرائك الذى لايسمن ولايغنى من جوع. أنك تفضح ألطف مخلوقات الله. فالملائكة والشياطين وعفاريت الغابة وطيور الموتى_ كلها أرواح نفاها الله, أما الانسان فهو أنبل خلق الله, وأمهرهم, بل وأكثرهم حرية. أحسن الله تكوينه ليكون شبيها به, على حد تعبيره سبحانه وتعالى يوم خلق الدنيا.
فأنى لنا من صانع أجاد صنعه وخلق عملا يتميز بهذه الدقة وتعدد الجوانب؟ أو صنع كرة صغيرة تضاهى فى فنها رأس الانسان؟ ان ذلك الرأس يحتوى على قوى فنية عجيبة, تعجز كل الأرواح عن فهمها وادراكها.
ففى مقلة العين نجد الابصار, وهو أهم شاهد ودليل, وقد ركب تركيبا فنيا على طريقة المرأة, ويصل فى مداه حتى عنان السماء. وفى الأذنين تكمن حاسة السمع التى تصل الى أمد بعيد, وهى بديعة الخلق وتحميها جلدة رقيقة وهى تستقبل وتميز بين الأنغام الخلابة الساحرة. والأنف يحتوى على حاسة الشم, وله فتحتان لدخول الروائح وخروجها, وهو مزود بالاحساس اللازم للتمتع بالروائح الطيبة العطرة.
وفى الفم نجد الأسنان, وهى تطحن كل يوم غذاء الآبدان, ثم نجد اللسان, وهو صحيفة رقيقة, تفصح للانسان عن رأى غيره من الخليقة. وهناك أيضا حاسة التذوق لمختلف الأطعمة. أضف الى ذلك أن الرأس هو أيضا متلقى الأفكار الواردة من أعماق القلب, والتى يصل بها المرء بسرعة الى حيث يريد, ويحلق بها فى السماء, بل ويصعد الى مابعدها. ثم تميز الانسان دون غيره بالعقل وهو كنز الكنوز. والانسان هو وحده المخلوق الذى لايقدر على خلقه سوى الله, هو آية الله فى خلقه, أحكم تركيبه بمهارة وفن واجادة. كفى هذرا, أيها الموت. إنك عدو الانسان , ومن ثم فأنت لاتذكره بخير.






















غواية العشق ووهم الوصال (الفصل الثانى)

الفصل الثانى
فلاح بوهيميا / محاكمة الموت




بعد قراءة أعمال الشاعر المصري الكبير "صلاح عبد الصبور"، وجدت نفسي مأخوذاً بما كتبه و مشغولاً بما جاء في أدبياته .
بعد قراءة "موت فلاح" و "زرنا موتانا في يوم العيد" و "شنق زهران" قمت بكتابة دراسة قيمة عن رؤية الشاعر للموت و الحب و القصائد التي تصور الإنسان ما بعد موت أحبته كانت وفيرة و مثيرة..

أتذكر الفاروق عمر بن الخطاب ،عندما سمع بموت الرسول الكريم، لم يتوان فى الإنكار ومهاجمة من أذاع هذا الخبر المُفزِع،ويرفع السيف فى وجه كل من يقابله .

كلما هجست لى نفسي أتساءل و أضع الموت في قفص الإتهام أستجوبه صارخاً:
لماذا "قمـر" لماذا قمر و هناك الملايين أمامك من البشر ، الذين تضيق بهم الحياة و تتمنى زوالهم !!؟؟
ألست_ أنا _بشراً أيضاً؟؟؟؟؟

و بثبات المؤمن أجد نفسي تثوب راضية و أعود الى نفسي قائلاً : لكل أجلٍ كتاب . 

8- الموت

لقد كتب الله الجنة للأطهار, وجهنم للأشرار وأورثنا نحن (الموت) الأرض والديار. وخص الجنة بالسلام والثواب لما فيها من فضائل, كما اختص النار بالشقاء والعقاب لما فيها من بحار,فقد كلفنا بها القوى القهار, وأمرنا بأن نقتلع منها الزائد ونجتث الفائض.

تخيل _ أيها الأحمق_ تريث وأمعن الفكر وحكم العقل, فلعلك تفهم مايلى: لو أننا منذ عصور البشرية الأولى تركنا الأعداد تتزايد من بنى الانسان ومن الحيوان ومن الديدان فى الصحارى وفى لغابات الكثيفة, ثم تركنا الماء بما فيه من الأسماك, ذات الحراشف منها والثعابين, ولم نستأصل منها الزائد والفائض, لما استطاع أحد اليوم أن يقاوم البعوض , وماجرؤ أحد على الخروج خوفا من الذئاب, كما أن الانسان قد يفترس أخاه الانسان, ويفترس الحيوان بنى جنسه,ويقضى كل كائن حى على غيره , ذلك لأن الغذاء سوف ينقصهم وتضيق عليهم وبهم الأرض بما رحبت.
أحمق هو كل يبكى على الأموات .... دعك من هذا وخفف عن نفسك. دع الأحياء يعيشون , والموتى فى قبورهم , فتلك سنة الحياة للآن, يحسن بك أيها المأفون أن تفكر فيما هو بالشكوى جدير.
9- أكرمان

لقد فقدت أغلى الكنوز الى الأبد_ أفلا يصح أن أحزن وأغتم, خصوصا وأننى سأقضى بقية عمرى محروما من كل المباهج؟ أسأل الله اللطيف القدير أن ينتقم لقلبى الكسير من كل الملذات والنعم, وسرقت منى أحلى ايام, وحرمتنى كبير الشرف والمقام. كنت أزهو عندما كانت الطيبة العفيفة الطاهرة تلعب كالملاك مع أطفالنا المولودين فى عشنا الطاهر. ماتت الدجاجة التى دأبت على تربية هؤلاء الكتاكيت..... ياالهى, ياقوى, كم كنت منشرحا مسرورا كلما رأيتها تخطو فى حياء واحتشام, لدرجة جعلت الناس يتابعونها بأنظارهم فى حب واعجاب ويقولون لتلك الرقيقة الشكر والثناء والشرف, بارك الله فيها وفى فلذات كبدها, وأنعم عليها وعلى طيورها بالخير والبركة).
_ لو كنت أعرف كيف أقدم لله خالص الشكر على ذلك لما ترددت أبدا. هل هناك من رجل فقير من الله عليه بمثل ماوهبنى؟ _ وقد تختلف الآراء والمفاهيم, لكنى أعتقد أن من يهبه الله زوجة طاهرة فاضلة جميلة, فقد أنعم عليه بنعمة تعلو على كل نعم الدنيا. يا الهى ياقوى ياقهار....... ماأسعد من وهبته زوجة طاهرة لم يمسسها بشر......
فلتفرح يامن شرفك الله بزوجة طاهرة. ومتعكما الله سويا بالسعادة.... ماذا يعلم أى أحمق عن ذلك, طالما وأنه لم ينهل من ماء البئر الطاهر؟ _ورغم ما أصابنى من ظلم وفجيعة, فأننى أشكر الله من الأعماق على أن جعل الكاملة الطاهرة من نصيبى.
فليمقتك الله الى الأبد , أيها الموت الخبيث, ياعدو البشرية!

10- الموت

يبدو من حديثك أنك لم تشرب من ينبوع الحكمة, ولم تمعن الفكر فى أمور الطبيعة وأثارها, ولم تتبصر أمور الدنيا وتدرك التغيير الدائر بها. انك جرو ساذج وأهوج..... أفلا تلاحظ كيف أن الورود الجميلة, والزنابق الشذية الفياحة بالحديقة, وأعشاب العقاقير الفعالة, والزهور التى تشرح الصدر فى البساتين, وكيف أن الأحجار الراسخة والأشجار الباسقة فى الغابات, وكيف أن الدببة القوية والأسود الجبارة فى البرارى الموحشة, وكيف أن الأبطال المغاوير, وذوى المهارات والموهوبين, والأحبار العالمين, وذوى الكفاءات الحرفية المختلفة, وكيف أن مخلوقات الدنيا جميعا_ مهما كانوا أذكياء, ظرفاء, أقوياء, ومهما عاشوا وعمروا , ومهما طالت ممارستهم لأعمالهم_ فأنهم مقضى عليهم بالفناء ومصيرهم الى الزوال؟ _ فاذا كانت جميع أجناس البشر, السابقون منهم واللاحقون, يسيرون إلى زوال, وينتقلون من الحياة الى العدم, فكيف يصح لمنشودتك التى تبكيها أن تتمتع, وألايصيبها مايصيب الأخرين,أو كيف يمكن ألا يحدث للآخرين ماحدث لها ؟ _ أنت بنفسك لن تفلت منا , مهما قل توقعك الآن لهذا الأمر. لابد وأن يقول كل منكم اننا جميعا على هذا الباب واردون, شكواك اذن لامعنى لها ولاطائل وراءها, فهى لن تساعدك فى شىء, لأنها تصدر عن بلادة ذهن ( وقلة احساس).

11- أكرمان

أعهد بأمرى إلى قاهرى وقاهرك, إلى القوى فوق عباده, فهو سوف يحمينى وينتقم لى منك أشد الانتقام لقاء ما ارتكبت فى حقى . ان ماتتحدث به الآن أمامى, لهو ضرب من ضروب المغالطة والشعوذة, اذ تخلط فيه دائما بين الزيف والحقيقة, وتريد أن تقضى على الألم البالغ المعتمل فى نفسي وعقلى ووجدانى , تريد أن تصرف عنه عينى وحواسى وأعماق نفسى. عبثا تحاول, فلن يكون لك ماتريد, ذلك لأن خسارتى الفادحة_ والتى لن أستطيع أبدا تعويضها _ تؤلمنى وتحز فى نفسى, فقد كانت ( الفقيدة) دائما بلسمى الشافى من كل ألم وضيق, كانت العبدة المطيعة لربها, المستجيبة لزوجها, الحارسة على بدنى, الساهرة ليلا ونهارا على شرفى وشرفها. كانت تنفذ كل ماتؤمر به, وتؤديه على خير الوجوه, كاملا غير منقوص بل وتزيد عليه غالبا . لقد أقام فى منزلها كل من الاعتدال والحرص والعناية والتعقل والحكمة دائما. كما رفعت الحشمة مرأة الشرف دائما أمام عينيها. كان الله خير حماتها, كما كان كريما رحيما معى من أجل خاطرها. حباها الله بكل ماتستحق, ونالت منه كل ماتبتغى: الحياء والعفاف وهما شرف البيت الطاهر, اللهم فأجزها خير الجزاء, ياخير من يجزل العطاء, يامثيب الأوفياء, ويا أغنى الأغنياء..... كن رحيما بها بأكثر مما أتمنى لها!
آه آه ثم آه, أيها الموت, أيها السفاح الذى لايعرف الحياء, فيك تستتر الرذيلة فى أخبث رداء.... فليحكم عليك الشديد العقاب, ويكتب عليك العذاب وكلما ترجوه غفرانا يزيدك من العذاب ألوانا !!!!!


12- الموت
لو كنت تستطيع أن تحسن القياس والتقدير, أو الحساب والتفكير, لما تفتق رأسك الأجوف عن مثل هذا الحديث المعجرف. انك تصب اللعنات وتطالب بالانتقام دون فهم أو مدعاة . فماذا يعود عليك من هذة الحماقة؟ سبق أن قلنا بعاليه: أن كل كائن مهما كان غنيا بالأفكار والحيل نبيلا, فاضلا, جريئا, نشيطا, وكل ماهو حى لابد وأن ينتهى على يدنا. ومع ذلك فأنت تنبح وتولول قائلا بأن كل سعادتك كانت مجسمة فى زوجتك الطاهرة الماهرة, فاذا كان من رأيك أن السعادة لاتتوفر إلا فى النساء , فأننا نريد أن نخلص إليك النصيحة بأن تداوم على السعادة, ولكن حذار أن تنقلب السعادة إلى تعاسة.
أخبرنا: هل وجدت زوجتك ماهرة شاطرة عند زواجك منها, أم أنك علمتها المهارة والنشاط؟ اذا كنت وجدتها كذلك, فعليك البحث ( عن غيرها) بشىء من التعقل والروية.... انك تجد فى الدنيا كثيرا غيرها من النساء الطاهرات, ممن ترضى بك احداهن زوجا ... أما اذا كنت علمتها الهمة والنشاط, فأبشر.. فمازلت أنت المعلم على ظهر الحياة وتستطيع أن تتخذ زوجة تربيها وتعلمها.
ولكن دعنى أقول لك شيئا أخر: كلما زاد حبك, زاد بعد ذلك ألمك. فلو كنت تحفظت فى الحب , لما كنت تشعر الآن بفداحة الكرب. فكلما زادت فرحة المرء بحبه, كلما زاد أساه عند الحرمان من الحب.
فالنساء والبنون, والكنوز وكل عقار دنيوى_ هى جميعا تجلب بعض السرور فى البداية, وتأتى بمزيد من الغم فى النهاية. ولابد أن ينقلب كل حب دنيوى إلى كرب قوى. فالكرب هو نهاية الحب, كما أن الحزن نهاية الفرح, والتعا سة تعقب السعادة, ونهاية المزاج هى تعكير المزاج, وهذه هى نهاية الشوط الذى تسعى اليه كل الكائنات الحية . افهم وتعلم, يامن تدعى النباهة والذكاء.

13- أكرمان

بعد الخسارة تأتى الشماتة_ هذا مايشعر به المحزونون. وهذا مايحدث منك لى وأنا المصاب المحزون. لقد حرمتنى من الحب, وأنزلت بى الأسى, وعلى أن أتحمل ذلك الى ماشاء الله. ولكن مهما كنت متبلد الحس, ومهماكان تحصيلى من الحكمة على أيدى أربابها الأحبار تحصيلا قليلا,فأننى أعلم علم اليقين أنك أنت اللص الذى سلبنى مبعث شرفى,أنت سارق أفراحى, وخاطف أجمل أيام حياتى, ومبيد ملذاتى, ومدمر كل شىء من شأنه تدبير وضمان حياة هانئة لى. فعلام أفرح وأستبشر؟ أين أبحث عن السلوى والعزاء؟ أين أجد الملجأ والملاذ؟ أين أعثر على دار للشفاء؟ بل أنى لىبنصيحة تقوم على صدق ووفاء؟_ ماضاع ضاع, وقضى الأمر. لقد هجرنى السرور قبل الأوان, وأصبحت أفراحى فى خبر كان, وبسرعة البرق انتزعت منى المخلصة الوفية , وجعلتنى أرملا وأطفالى يتامى بلا رحمة ولاشفقة. وها أنذا أقف وحيدا تعيسا, مشحونا بالألام لاأستطيع منك القصاص , وأنت لاتريد مواساتى أو تعويض خسارتى, نعم لم تعوضنى عن أفراحى أو تضمد جراحى, رغم جريمتك الكبرى فى حقى. فما هو الوضع أيها الموت, يامفرق الأزواج؟ لايستطيع أحد أن يحصد من ورائك خيرا, فأنت لاتريد تعويض أحد عن ضرر ألحقته به,ولاتريد أن تمسح دموع من تبكيهم. اننى أعلن هنا أن الرحمة ليس لها فى قلبك سبيل, وأنك لم تتعود إلا على اللعنة, فأنت عديم الرأفة حيث أتيت. أبتهل الى من بيده مقاليد الأمور, من موت وحياة, أن يرسل عليك مثل ماتؤديه للبشرية من خدمات, ومثل ماتمنحهم من بركات, أو تعطيهم من جزاءات, وأن ينزل عليك نفس النهاية التى تفرق بها الجماعات. يارب الملائكة الأبرار, عوضنى عما لحق بى من خسارة وأضرار.عوضنى عن ألمى البالغ أما هذا التحدى الصارخ. ثم انتقم لى من المجرم الغادر_ وهو الموت_ يا الهى يامنتقم ياقادر!

14- الموت

حديث لاجدوى منه, والصمت أبلغ منه, لأن الرجل المرتبك لايجنى من حديثه الأحمق سوى الخلاف, والخلاف يولد العداء, وبعد العداء الاعتداء , وبعد الاعتداء التجريح , وبعد التجريح الألم وأخيرا الندم. إنك تعلن الخلاف علينا, وتشكو بأننا فجعناك فى زوجتك العزيزة جدا عليك. إنه لم يحدث لها سوى الخير والبركة: فقد ضممناها تحت لوائنا, دون المساس بشرفها وهى فى ريعان الشباب, وجميل القوام, وأبهج الأيام, وأفضل احترام واجب, وأحسن وقت مناسب . ذلك هو ماامتدحه وابتغاه كل الحكماء حيث قالوا ماأحلى الموت عندما تحلو الحياة)... فلم يمت خير موتة ذلك الذى يشتهى الموت ويتمناه, ولابد أن من يدعونا لقبض روحه, قد زهق طول حياته. ياحسرة على كل من بلغ بة العمر أرذله, فهو فعلا مسكين فقير, مهما كان لديه من المال الوفير.فى ذلك العام,وبعد عيد الصعود, وعند عملية ولادتها, تركنا الأم الشهيدة تودع الدار الفانية ببؤسها وخداعها البراق. وكان هدفنا أن تلحق بالرفيق الأعلى فى سعادة أبدية وحياة متصلة باقية, وأن تخلد لراحة لانهائية هى أهل لها. ورغم كرهك الشديد لنا فأننا نتمنى لك أن تصمد روحك وتلتقى بروحها هناك فى أعلى عليين, وأن يبقى جسدك بجوار جثمانها فى مقابر الدار الدنيا. أردنا أن نكون شفعاء لك, نضمن لك التمتع بحسن صنيعها. صه اذن وكف عن الحديث..... انك لو استطعت أن تنتزع من الشمس ضوءها, ومن القمر برودته, ومن النار جذوتها, ومن الماء سيولته, فأنك لن تستطيع أن تجردنا من سلطتنا.




الموت توأم الحياة


كان كتاب الشاعر الهندى "طاغور" (قربان الأغانى *) السفينة التى مخرت به عباب المحيط العاتى ليحصد فى آخر المطاف جائزة نوبل للآداب سنة 1913م.
كنت معجباً به وباسمه (ربندرانات طاغور) إسم كان لحروفه عند سماعه رنين السحر و نغم الموسيقى الحالمة .
كم طال وقوفى عند نظرته الإيجابية المتفائلة للموت ، ورؤيته الراسخة بأن الموت ليس سوى الوجه الآخر للحياه ......

(كل أبياتى المعبرة عن البهجة
تمتزج بآخر أغنياتى
تلك البهجة التى تجعل التوءمين
الحياة والموت
يرقصان عبر العالم )

لقد كان يرحب بالموت بذات الحرارة التي نرحب بها ولادة الحياة فلا نرى رجفة التردد في كلماته و لا تهيب الخائف في سرده . و تأتي أشعاره لتؤكد لنا بيقين لايخالجه شك أنه كما كُلِّف بالحياة فهو أيضاً كلف بالموت ...

(عندما يحين الموت
فإن المجهول سينحسر أمامى
كأننى أعرفه منذ الأزل
ولأننى مكلف بالحياة
فسأكلف بالموت أيضا)

كلما وقعت عينى على الكلمات التسع التالية أشعر برعدة تتنشلنى من ظنون الخلود وتهتف بى أن الرحيل قريب.

( قد انطفأ المصباح
وقد بلغنى النداء
وإنى مستعد للرحيل)

وأقف مندهشاً لهذا الثبات والشجاعة التى تشى بها السطور اللاحقة من الرضاء والخشوع والاستسلام لما هو مقدر ومكتوب .
الموت في نظره هو إنجاز آخر لا يختلف عن إنجازات النجاح بل هو آخر إنجازات الإنسان ، و لابد أن يلقاه بسعة صدر وبقلب مطمئن وابتسامة مضيئة وروح تذوب شوقاً ولهفة إلى لقاء الموت.......

(أيها الموت
ياموتى
آخر انجازات حياتى
تعال وتحدث إلى همساً
لقد انتظرتك يوماً بعد يوم
وتحملت من أجلك أفراح الحياة وأتراحها
نظرة أخيرة من عينيك
ستجعل حياتى كلها لك)


و يستفيض "طاغور" ليكتب أنشودة تفيض رقةً وعذوبةً وشجناً مؤثراً فى العقل والوجدان عن ألم الفراق وحضور الموت فجأةً لاستلاب أرواح الأحبة .....

(هو ألم الفراق
ينبسط فى كل أرجاء الكون
ويولد فى السماء الرحيبة أشكالاً عديدة
إن حزن الفراق
يحدق فى صمت
طوال الليل وينتقل ببصره من نجمة إلى أخرى
ثم يصبح أغنية بين حفيف الأوراق
هذا الشقاء الذى يعزو كل شىء
ينصهر فى مشاعر حب
ورغبات
وأفراح وأتراح
فى مسكن البشر )

منسجماً مع نفسه و مع إيمانه بتوأمية الموت و الحياة ، يتواصل طاغور مع حقائق الوجود ويضحك ويهمس فى صدق وجلال وصراحة بالغة ويقين مؤكد ......

(إن الزمن لقصير
فلتأت إذا ياليالىّ الممطرة
بخطوات سريعة صغيرة
ولتضحك ياخريفى الذهبى
ولتأت يانيسان الخالى البال
يا أحبائى إنكم تعلمون أننا فانون)







وأعيش مع العظيم فيكتور هوجو (1802_1885م)فى ديوانه الأخير( التأملات) وفى قصيدته الإيمانية ( ما الموت؟ أو(هذا هو الموت)
أُقدم بعضاً منها:

(لاتقولوا نموت ،قولوا نولد
ترى ما أراه .......وماترونه
نحن الرجل الخاطىء ..هو أنت ،وهو أنتم
ننغمس فى الملذات فى الزوابع فى الاحتفالات
نحاول أن نتناسى الباطن،النهاية والصخور
بالمساواة المظلمة للشر والتابوت
التى تساوى الأصغر بالأغنى .

إنهم نفس الدمعة وسيصبحون نفس العين
نحيا مضيعين أيامنا فى الإمتلاء غرورا
نسير ،نهرع ،نحلم،نعانى ،نتمنى فنسقط
نصعد فما هذا الفجر ؟؟إنه القبر
أين أنا وسط الموت ،آه!
ريح مجهولة تلقى بنا عند عتبة السماوات
نرتجف ،نرى أنفسنا عراة
ملوثين مستبعدين معقدين بألف عقدة حزينة
من أخطائنا من عارنا المظلم.
فجأة نسمع هاتفا يأتى من الأبدية
ونجد أنفسنا مباركين بالحب
دون أن نرى اليد التى تسقطه على أرواحنا المدنسة
نعود بشرا....
ونحيا ومن النشوة من الأفق نمتلىء )

هذا الإيمان الذى تمتلىء به نفس الشاعر، وتحليقه فى سماوات العلا ،مؤمناً شديد الإيمان بأخطائه، معترفاً بها ،ذاكراً إياها ،لكنه آملُ فى الخلاص وأن الموت تتبعه حياة أكثر جمالا ،وأفضل سعادة ،وأرق ريحاً، وأعذب نشوة وأرقى إنتشاءً.
إنها الفردوس والغد المأمول.وأن رحمة الله فوق كل شىء،هذه اليد الحانية التى تنشر فى قلوبنا الحب وتبارك أرواحنا باليقين والنشوة والحياة.



   

الشعر الفرنسى .... أحب قراءته بلغته أو مترجماً ،توقفت كثيراً عند الفريد دو فينى(1797_1863م)،هذا الشاعر/ المفكر والذى يعد وبلا منازع من أعظم شعراء الفرنسية وقصيدته ((( الأقدار))).
أقدم سطوراً منها:


تقول بنات الأقدار:نحن _ يارب _الأقدار الباردة
نحكم بين أصابعنا الأيام والسنين
أن نسوق هذه القطعان الضعيفة المستسلمة
من البشر ! الذين يعيشون لحظتهم
والمحكوم عليهم بالموت_
إلى نهايتهم التى نحددها نحن لهم.
وعم صمت كأن الأرض قد توقفت
ثم ملأ الأعماق
صوت منبعث من الأعالى:
عودوا باسمى _أنا القدر_ أيتها الملكات
فالانسان سيظل دائما
سباحا تائها فى أمواج الزمان
الذى يقاس ويمضى.
ستلمسن جبهته يابنات الأقدار
بينما ذراعه تتخبط فى المياه .
باحثا عن مكانه مخمنا لنهايته
ستزداد مقاومته معتقدا أنه سيدحر
فى صراعه معكن _ذلك النزال الخاسر_
الذى أحفظ توازنه أنا فى الأعالى
ومتى ينبع زفيره وقوته وإلى الأبد
أحدد مصيره وفقا لقانون أبدى .
أن يفعل ما أريد ليصل إلى حيث أعرف.

هذه الأقدار المهيمنة والمسيطرة والتى يقف حيالها البشر مسلوبى الإرادة،لاحول لهم ولاقوة ،فهى القوة الساحقة والماحقة ،ورغماً عن ذلك فالاستسلام للقدر هو ما تؤكده أشعار دو فينى ،هذه اللمحة الإيمانية الصادقة أن بعد الموت حياة ،وأن الإله الخالد سيكلأنا برعايته ويشملنا بعطفه. فهو الذى يرسم لنا الخطى ويحدد لنا المصير.(أن يفعل ما أريد ليصل إلى حيث أعرف).















غواية العشق ووهم الوصال (الفصل الأول)

الفصـل الأول





فلاح بوهيميا

حوار مع الموت وعزاء عنه
كتب هذا الحوار الأدبى الرصين يوحانيس فون تيل ،المولود سنة 1378م ومات فى سنة 1413م وترجمه من الألمانية الوسيطة وقدم له الدكتور /كمال رضوان ،ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1984م .

وتبدأ المعركة بين أكرمان والموت:-

1- أكرمان (الشاكى) :

أيها القاتل الفاجر, حاصد الأرواح,هادم اللذات, مفرق الجماعات, مشتت الكائنات, مغتال المخلوقات-أنت أيها الموت,عليك اللعنة.. فليمقتك الله- خالقى وخالقك – ولتنزل عليك النقمة, وتصيبك التعاسة والغمة, وفضح أمرك الى الأبد..
فليلازمك الخوف والعوز والبؤس والنحيب حيثما سرت, وليرافقك الألم والغم والهم أينما حللت, وليطاردك فى كل مكان العداء الجارح والاحتقار الفاضح والكره الصارخ. فلتبغضك بل وتصب عليك اللعنات الى أبد الآبدين كل من السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم, والبحار والمحيطات, والجبال والحقول, والوديان والمروج والسهول, بل وهاوية الجحيم, وكل ماهو كائن يتمتع بالحياة. فلتغرق فى الخبث والشرور , وليقض عليك البؤس المؤلم, ولتبق دائما منبوذا طريدا, دون غفران لك من الله أو عفو من الناس والمخلوقات أجمعين....أيها الشرير الحقير, دامت عليك أفكارك السيئة, ولازمك الخوف والفزع حيثما توجهت وأينما حللت .....
أشكوك أنا وكل الآنام صائحين مولولين, رافعين أيدينا متضرعين.


2- الموت(المشتكى عليه ) :

اسمعوا, اسمعوا, فلتسمعوا العجب العجاب..

شكاوى ثائرة ضدنا وأصوات ظالمة تطعن فينا , ولسنا ندرى شرفا من هو الشاكى, حقا لم ينل منا للآن أى تهديد أو وعيد, لعنات أو صيحات واستغاثات, ومختلف أنواع التهجمات ومع ذلك: فمن أنت يابنى؟ قدم نفسك, وأعلن عما ارتكبناه فى حقك أو فجعناك فيه, وما من أجلة تعاملنا معاملة لاتليق بنا ولم نألفها من أحد للآن, مع أننا حصدنا فعلا أرواح الكثيرين, من متعلمين ونبلاء, ووجهاء وأقوياء, مما سبب الكوارث الجمة للأرامل واليتامى وللناس وممتلكاتهم.
يبدو أنك جاد فى شكواك, وكأن ضيقا يكتم أنفاسك , أو مصيبة قد حلت بك. شكواك تخلو من القافية والمحسنات, مما يدعونا للأخذ بأنك مهتم بالمعنى أكثر من المبنى, وتركز على مضمون الشكوى, دون أن تأبه بالقوافى ورنين الألفاظ.
فاذا كنت فاقدا لوعيك, أو على بصرك غشاوة, أو أصابك مس أفقدك الصواب,فعلى رسلك ولاتتسرع وتقسو فى السباب, وذلك حتى لاتعض على أصابعك ندما بعد فوات الأوان... لاتظن أنك قد تستطيع بأى حال أن تنال من جبروتنا الرائع أو تضعف من سلطاننا الواسع.. _ ومع ذلك فأعلن عن نفسك, ولاتكتم أمر ما أصابك منا من ظلم صارخ, وسوف نسوق أمامك مبرراتنا, فالتبرير هو أسلوبنا. أننا لاندرى حقا سبب دعواك الجريئة ضدنا.
3- أكرمان :
اسمى أكرمان, محراثى من لباس (ريش) الطير, أقيم فى اقليم بوهيميا, وسوف أظل إلى الأبد أكرهك وأمقتك وأحتج عليك, حيث إنك انتزعت منى الحرف الثانى عشر من حروف الأبجدية , وكان ملاذ سعادتى. لقد اقتطفت من بستان نعيمى الوردة المضيئة الفياحة, واقتلعتها من أعماق فؤادى, لقد سلبتنى بدهائك سند سعادتى, وحمامتى الوديعة المختارة. لقد ارتكبت فى حقى جريمة سلب لاتعوض. وعليك أن تزن الأمر بنفسك, لترى هل أنا على حق فى أن أغضب منك وأثور عليك وأتقدم بشكواى ضدك: فجعتنى وسلبت منى حياتى السعيدة, حرمت على يديك من جميل الأيام, وضاع منى مصدر السعادة والإلهام. كنت قبل ذلك فرحاً مسروراً, تمر بى الليالى والأيام قصيرة ممتعة مليئة بالسعادة والوئام, وتتوالى على الأعوام وكلها خير وبركة وسلام أما الآن فأسمع صوتا ينادينى قائلا: فلتمت كمداً.... داوم على أفكارك الحزينة, وابق على عودك السقيم,كئيبا ذابلا تنتحب بلا هوادة أو توقف.._ وهكذا تذرونى الرياح, وأعوم وسط فيضان البحر العارم, تتقاذفنى الأمواج الهائجة, فلا أجد لمرساتى برا.. لكل هذا أود أن أصرخ بكل قواى وأصيح قائلا: أيها الموت, عليك اللعنة!.

4- الموت :


إننا ندهش لمثل هذا التهجم الغاشم الذى لم يسبق أن تعرضنا له قط. وبما أنك فلاح من بوهيميا, فانه يبدو لنا أنك تتجنى علينا تجنيا صارخا, ذلك لأننا لم نمارس مهامنا هناك منذ وقت طويل, باستثناء ماحدث منذ قريب فى مدينة جميلة حصينة, تقع فوق جبل, ويتكون اسمها من الحروف رقم18-1-3-و23من حروف الأبجدية. وهناك شملنا برحمتنا امرأة شريفة عفيفة(أى قبضنا روحها).وكان اسمها يبدأ فعلا بالحرف الثانى عشر( وهو الميم).لقد كانت حقا نشيطة طاهرة,خالية من كل عيب أو دنس: فقد رأيناها يوم ولادتها, حيث وهبتها آلهة الشرف معطفا وتاج شرف. وقد حافظت طوال حياتها على المعطف والتاج, الى أن وافتها المنية, فأخذت تلك الهدية معها الى القبر كاملة غير منقوصة. شاهدنا وشاهدها على ذلك هو العليم الخبير. لقد كانت نقية السريرة, حية الضمير, ماهرة حاذقة, مخلصة صادقة, كريمة بارة بكل الناس. ندر فعلا أن وقعت أيدينا على واحدة فى مثل وداعتها واستقامتها. وربما كانت هى تلك التى تعنيها, فنحن لانعرف سواها.

5- أكرمان :

أجل ياسيد, أنها هى حبيبتى وأنا معبودها وحاميها. لقد انتزعتها منى وهى جفون عينى الفياضة بالسعادة, ماتت وهى درع الأمان لى من كل مكروه, ضاعت منى عصاى السحرية التى كانت تحقق لى كل أمنية, ذهبت وولت, وها أنذا أقف وحيدا. اختفى نجمى الساطع من كبد السماء, غابت شمس سلامتى ولن تشرق ثانية أبدا, لن يسطع لى نجم الصباح المتألق, لقد أفل وغاب ضياؤه, ولم أعد أملك مايفرج كربتى, وأظلمت الدنيا أمام عينى وصارت ليلا حالكا. اننى لاأعتقد أن ثمة شيئا من بعدها يمكن أن يدخل البهجة والسرور على نفسى, ذلك لأن الراية المرفرفة على نعيمى وسعادتى قد نكست, ويؤلمنى تنكيسها. اننى أصيح من أعماق الفؤاد: ياللعنة, ياللظلم.. واحسرتاه على العام الكئيب واليوم المشئوم والساعة الأليمة التى انكسرت فيها جوهرتى الصلبةالأصيلة,تلك الساعة التى انتزع فيها متكأى( عكازى) من يدى بعد أن كان يهدينى فى سيرى, تلك الساعة التى سدت فيها أمامى الطريق المؤدية الى البئر الصغير حيث أنهل مايجدد سلامى وأمنى. فلتنزل بك الحسرة بلا انتهاء, والألم والبلاء, والسقوط والشقاء, ولتحرم من رحمة السماء..فلتمت مدنسا بالرذائل, غارقا فى العار, قارضا أسنانك غيظا وكمدا, مفقودا فى قاذورات الجحيم, ليسلبك الله قواك ويسحقها الى رماد! ولتعش الى الأبد فى ظل الشيطان!

6-الموت
لطم ثعلب أسداً نائماً على خده, فمزق الأسد جلده. قرص أرنبا ذئبا, ففقد الأرنب ذيله حتى اليوم. خربشت قطة كلبا أراد أن ينام, فأصبح عليها أن تتحمل عداء الكلب لها الى الأبد.
هكذا شأنك معنا, وتلك عقبى احتكاكك بنا. إلا أننا نؤمن بأن العبد يبقى عبدا , كما يبقى السيد سيدا. نريد أن نسوق الأدلة والبراهين, على أننا نزن الأمور بأدق الموازين, لنكون فى حكمنا عادلين, وأن طريقتنا هى المثلى فى الحياة الدنيا : فنحن لانعفى أحدا لحسبه ونسبه, ولانأبه بالمعرفة مهما عظمت ولايعنينا الجمال أو المال, أو الحب أو الأسى, أو الشيخوخة أو الشباب, أو غير ذلك من الأمور والأسباب. إننا نفعل كما تفعل الشمس, فهى تشرق فوق الطيب والردىء والصالح والطالح, ونحن بدورنا نضم تحت لوائنا كلا من المؤدب والبذىء والمحسن والمسيىء. حتى المتخصصين فى تسخير الأرواح لابد وأن تستجيب روحهم لنا ويستسلمون. والسحرة والمشعوذون لايعفيهم فنهم من أن نطبق عليهم القانون, ولاحيلة لهم أمامنا حتى ولو ركبوا العصى أو امتطوا التيوس. والأطباء الذين يطيلون أعمار الناس لابد وأنهم تحت طائلتنا واقعون, فلن تنفعهم العقاقير والمراهم وكل مساحيق الصيدليات. ولو صح أن يحاسبنا الفراش والبعوض على مانفعل فى بنى جنسه, فلن يكفيه الحساب.
فهل ينبغى علينا أن نترك الناس يعيشون حسب مانكنه لهم من محبة أو عداء, وسعادة أو شقاء؟
لو كان ذلك كذلك, لصارت الدنيا بأسرها مملكة لنا, ولتنازل جميع الملوك عن تيجانهم لنا, ولسلمونا صولجاناتهم, ولصار كرسى البابوية ومعه طاقية الأسقفية ذات التيجان الثلاثة تحت أمرتنا وسلطاننا._ دعك اذن من السباب واللعنات, ولاتختلق الأكاذيب والخرافات, لاتنكش على خراب عشك, ولاتهدم مافوقك فيتطاير رماده الى عينيك.




7- أكرمان :

لو كنت أستطيع السب وأجيد اللعن ويمكننى هجاءك والامتهان بك, ولو تمنيت أن يصيبك ماهو أكثر من الأذى_ لكان ذلك هو أقل جزاء تستحقه لأن الألم البالغ يولد الشكوى المريرة._كيف أكون بشرا ولاأبكى على فقدان هبة من هبات الله لايستطيع أحد أن يمنحها سواه؟ نعم, لابد أن تغمرنى سكرات الحزن دائما: فقد طار منى عصفورى الشريف, فقدت زوجتى ذات المحامد و الفضائل. لى الحق كل الحق فى شكواى , لأنها كانت كريمة المنبت , أصيلة المحتد, شريفة عفيفة, قوية عفية, تفوق كل بنات جنسها فى البنية, عفة اللسان صادقة البيان, لم يمسسها إنس ولاجان , طيبة المعشر, حسنة المظهر..... ويستحسن أن أكف عن الكلام, خاصة وأننى أضعف من أن أستطيع حصر فضائلها وذكر محاسنها التى وهبها الله اياها, وأنت أيها الموت أدرى بها جميعا وأعلم._ اننى أشكوك بسبب فجيعتى , ولو كان فيك ذرة من صلاح , لتمزق قلبك اشفاقا عليها. لقد سقطت من نظرى وان أذكرك بخير أبدا. سوف أحتج عليك الى الأبد بكل ماأوتيته من قوة ومواهب, وعلى جميع المخلوقات أن تؤيدنى وتشد من أزرى فى احتجاجى عليك. فليناصبك الكل العداء, وليكرهك أهل الأرض والسماء بل وجهنم الحمراء!



فـلاح بوهيميـا و فـلاح طنطـا


أليس غريباً أن يجمع الموت بين فلاح من قرية عاشت في خيال كاتبها و بين فلاح من طنطا سكنه الموت حقيقة مؤلمة و ذكرى جميلة لروح هادئة تقبلت الموت بشغف المؤمن و لم تتساءل الحكمة فيه أو الإجحاف ؟

ها أنا حىٌ يجرني العمر بطيئاً في طيات الزمن أفتقد الروح الهادئة و أُقاوم لحظات الكآبة التى تعترينى بعد وفاة صديق أو زميل .
أحاول ألا أبكى أو أدمع و أنأى بنفسى عن الناس صامتاً ملتحفاً بالزهد فى الحديث، أقاتل النفس ألا تنهار أو تنجرف فى جب الكآبة العميق تيمناً بمن رحلت راضية لتتربع في جنات الخلد مبتسمة .

رحلت "قمـر" أختى ، فى ريعان صباها الذي تعب منوطأ السنون القادمة و قرر الإستراحة في السادس عشر من عمرها .

حزني عليها كان عظيماً .

كيف أتاها الموت محطماً و هادماً لأحلام أوراقها خضراء و زهورها لا تزال براعماً في تلك العينين الجميلتين ، تنتظر التفتح على حياة وردية ، في خطاها تتقافز الأحلام إلى مستقبل تتحقق فيه الأمنيات ؟

كيف استطاع الموت أن يزرع في أوصالها بذرة المرض الذي نهش بها و عبث بأحلامها ؟

أهو الجمال في وجهها سحره فأراد أن يوئده أم أنه الإيمان في صدرها تحداه فأراد أن يُثبت تفوق قوته و جبروته ؟

أنا لم أكن أتساءل كفراً بمشيئة الله سبحانه و تعالى و إنما محاولاً أن أفهم الحكمة في المعاناة المريرة مع المرض (حمى روماتيزمية ) الذي إلتهم النضارة والجمال وأحال ضجة الحياة وصخبها إلى شبح يتهاوى إعياءا وهزالا ... و ذلك الشعر المتوهج بلون الحياة ، فقد ضجيج الضياء في خصلاته و تهاوى تعباً كما تهاوت القوة في القدمين الصغيريتن و أصبحت قمر جسداً نحيلاً يعتمد على مساعدة من حوله في التنقل في أرجاء البيت.

كنت عائدا ليلا بعد منتصف الليل ، من سهرة مع أصدقائى ، وقبل أن أفتح الباب ، سمعتها وهى وحدها فى وسط البيت والجميع نيام ، تقول : يارب أنا تعبت قوى ، وبعدين مش قادرة أمشى ، طب أعمل إيه ؟؟؟؟
تراجعت عن فتح الباب وضربت الجرس الموجود فى الشارع ، ووجدتها تقوم بفتح الشقة وتسأل مين ؟؟؟؟

ضحكت وقلت لها : أنا يا قمورة (إسم الدلع )

فردت: إقفل البوابة ، أنا سهرانه مستنياك عشان تتعشى أصلهم كلهم ناموا وسابونى .

يا إلهي ياربى  كيف أضغط على ذلك الوجع الذي يتخبط في صدري وأنا أعلم إنها أيام قليلة وسترحل ... الحمى الملعونة وصلت إلى القلب الحنون تهاجمه بضراوة البطش .

في زيارتها الأخيرة للطبيب ، إنفرد بي بعيداً عن مسمع أمي و أبي وقال لى "أختك بتموت وسيبها تاكل إللى هى عايزاه" .

خرجت من عيادة الطبيب مجاهداً وخافياً عصف الصراع الدائر في صدري و محاولاً إخفاء قسوة الحزن الذي صعق كل آمالي ووجدت نفسي – ضاحكاً - أعاكسها بأغنية فيروز (قمرة يا قمرة ما تطلعي عالشجرة ، والشجرة عالية وأنتى بعدك صغيرة ... يا قمرة ) .

أصبحت تلك الأغنية مدار الجد و الهزار في تعاملي مع "قمـر"
كنت أرددها مبتهجاً ومعاكساً ـإذا لم تستطع قراءة كتاب أحضرته لها.
كنت أُشدد على أنها ستنهض من كبوتها و المستقبل الزاهر ينتظرها.

قلت لها يوماً وتلابيب المرض مرسومة ألماً في وجهها : "إنتى كويسة قوى وعايزين نشوف لكى عريس" .... و بمعرفة المؤمن نظرت إلي جادة و راضية بما تعرفه و تشعره و كأنها تؤنب محاولتي لإخفاء الحقيقة عنها قائلة ... "بـلاش تضحـك علـيَّ" ..

لم يكتمل ذلك الأسبوع قبل رحيلها ... و انتقلت "قمـر" من قبضة المرض و الألم إلى رحمة الله تعالى و رأفته .

ثلاثون عاماً مضت على رحيلها من بيتنا ...
ثلاثون عاماً عشتها ،في عيني تتربع ضحكتها و في قلبي ينبض ذكراها و بقي وجهها الباسم وترحابها الحار "أمـل" يستقبلني على باب الدار ... إذا غبت عن البيت أياماً ، وأنادى ابنتى بسمة (ياقمر) ثم أضحك من نفسى وأقول يابسمة ........تتأملنى زوجتى بصمت ثم تقول بحنان:
ما هي بسمة ... قمر !!!