مقال فى العبودية المختارة
إتين دى لابويسيه
1/11/1530
14/8/1562
***************
إتين دى لابويسيه
1/11/1530
14/8/1562
***************
قام على ترجمة هذا النص الفارق.. الأستاذ الدكتور /مصطفى صفوان
ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1992م
حاولت ومن منطلق الفكر الذى أعتنقه فى مسيرة حياتى العقلية والثقافية ،والحرية التى أسعى نحوها ،أن أنقل هذه المقالة /الكتاب/الدراسة فى الطغاة والطغيان .من صفحات الكتاب إلى صفحات النت ،التى تحكى فى التاريخ الغربى مسيرة الاستبداد والطغاة والطغيان .
وما أشبه تاريخ الطغاة فى كل زمان ومكان ،فكأنهم إعادة إنتاج ،مهما تبدلت الأفكار والسياسيات .
فمن فاشية سياسية إلى فاشية دينية ،يعانى المواطن الحر الويلات .
ومن إعتقالات سياسية إلى إعتقالات دينية للخروج على طاعة ولى الأمر .
ومن سجن الحفاظ على المالوف والمعتاد وما ترتضيه السلطة الحاكمة للشعب من أفكار ،إلى سجن الخروج على دين الدولة وما تنشره السلطة الدينية الحاكمة وتعدد الرؤساءفيها ، من مناهج وأفكار .
تمضى حياة الشعوب بين قهرين لاثالث لهما ،وليس لهذه الشعوب إلا المقاومة للطغيان، أياً كان مسماه وما يعتصم من بريق وزخرفة ، والسعى نحو تحكيم العقل والإنقياد له والعمل بجدية على نشر ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
فقد ثبت بالدليل الواقعى والذى لايقبل الإنكار، أن خلف كل قيصر يموت ،قيصر جديد.
"لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد !
وخلف كلّ ثائر يموت : أحزان بلا جدوى ..
و دمعة سدى !
..........................
............................
و في المدى : " قرطاجة " بالنار تحترق
"قرطاجة " كانت ضمير الشمس :
قد تعلّمت معنى الركوع
و العنكبوت فوق أعناق الرجال
و الكلمات تختنق
يا اخوتي : قرطاجة العذراء تحترق
فقبّلوا زوجاتكم ،
إنّي تركت زوجتي بلا وداع
و إن رأيتم طفلى الذي تركته على ذراعها .. بلا ذراع
فعلّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ."كلمات سبارتاكوس الأخيرة
للشاعر أمل دنقل
ولى عنده وقفات تطول، فما أكثر ما أثاره لدىّ من فتوحات عقلية وثقافية وفلسفية ،قد أختلف فيها مع الكثيرين .
وقد يلحق بنا "معاً" التماسُ فى الموافقة على ماورد به.
وقرطاجتى تحترق ..وقلبى يتمزق ولا أملك إلا الصمود فى وجه الليل القادم .
وقدحاولت أن أكتب عن كتاب قرأته ويندرج تحت مايسعى إليه ملتقى الترجمة واللغات من نشر ثقافات متنوعة مترجمة .وأعلم علم اليقين ..أنه من الكتب التى يصعب قراءتها ومتابعة صفحاتها لما تحتويه من شخصيات تاريخية، قلّ أن نكون ملمين بحيواتهم وأدوارهم فى حياة شعوبهم.
ولكنى اُحسن الظن بنفسى ،لمرور عشرين عاماً ،على شرائى لهذا الكتاب وحرصى على قرائته بين الحين والآخر ،مما أتاح أمامى الفرصة كى أتفهم ما كتبه المؤلف الشاب الذى مات فى عز نضجه (32عاماً).
وآمل أن يصبر المبدعون والمبدعات على قرائته ،وإجراء حوار بناء, بفكر حر ،ونقاش راقِ.
فما أعظم أن تتلاقح العقول وتتولد الأفكار نحو حرية نسعى إليها..
وعاشت الحرية
(1)
كثرة الأمراء سوء
كفى سيد واحد ،ملك واحد
بهذه الكلمات خطب أوليس القوم فى هوميروس ،ولو أنه وقف عند قوله :"كثرة الأمراء سوء"لأحسن القول بما لامزيد عليه ،لكنه حيث وجب تعليل ذلك بالقول بأن سيطرة الكثيرين لايمكن أن يأتى منها الخير ما دامت القوة المسندة إلى واحد ،متى تسمى باسم السيد ،صعبة الاحتمال منافية للمعقول راح يعكس الكلام فأضاف :كفى سيد واحد ،ملك واحد
كفى سيد واحد ،ملك واحد
بيد أن أوليس ربما وجبت معذرته إذلم يكن له مفر من استخدام هذه اللغةحتى يهدئ ثورة الجيش مطابقا بمقاله المقام بدل مطابقة الحقيقة.فإن وجب الحديث عن وعى صادق فإنه لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع المرء لسيد واحد يستحيل الوثوق بطبيعته أبداً ما دام السوء فى مقدوره متى أراد،فإن تعدد الأسياد تعدد البؤس الذى ما بعده بؤس بقدر ما نملك منهم . وما أريد فى هذه الساعة طرق هذه المسألة التى كثر الجدل فيها :إذا ما كانت أشكال الجمهورية الأخرى تفضل حكم الواحد . ولو أردت لوددت قبل النظر فى مكانة هذا الحكم بين الأشكال الأخرى أن أعرف أولا من له مكانة ما .
لأن من الصعب الاعتقاد ببقاء شيىء يخص جمهور الناس حيث ينفرد واحد بكل شىء .
ولكن هذه مسألة متروكة لوقت آخر وتقتضى مقالا يفرد لها وإلا جلبت معها جميع المنازعات السياسية .
فأما الآن فلست أبتغى شيئا إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس ،من البلدان ،من المدن ،من الأمم أن يحتملوا أحيانا طاغيا واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه ،ولا كان يستطيع انزال الشر بهم لولا ايثارهم الصبر عليه بدل مواجهته.
إنه لأمر جلل حقا وإن انتشر انتشارا أدعى إلى الألم منه إلى العجب أن نرى الملايين من البشر يخدمون فى بؤس وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر بل هم فيما يبدو قد سحرهم وأخذ بألبابهم مجرد الأسم الذى ينفرد به البعض ،كان أولى بهم ألا يخشوا جبروته ،فليس معه غيره ،ولا أن يعشقوا صفاته فما يرون منه إلا خلوه من الإنسانية ووحشيته .
إن ضعفنا نحن البشر كثيرا ما يفرض علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء فى الإرجاء ما دمنا لا نملك دائما أن نكون الأقوى .
فلو أمة أجبرت بقوة الحرب على أن تخدم واحدا (مثل أثينا الطغاة الثلاثين ) لما وجب الهش لخادميها بل الرثاء لنازلتها ،أو بالأحرى ما وجب الدهش ولا الرثاء بل الصبر على المكروه والتأهب لمستقبل أفضل .
إن من شأن طبيعتنا أن تستغرق واجبات الصداقة المشتركة بيننا قسطا لا بأس به من مجرى حياتنا .
فمن العقل محبة الفضيلة وتقدير الأعمال الجليلة وعرفان الفضل من حيث تلقيناه وإلالتم الإستغناء أحيانا عن بعض ما فيه راحتنا لنزيد به شرفا وامتيازا من نحب ومن استحق هذا الحب . فلو أن بلدا رأى سكانه كبيرا منهم يبدى بالبرهان فطنة كبيرة فى نصحهم وجرأة شديدة فى الدفاع عنهم وترويا جما فى حكمهم فانتقلوا من ذك إلى طاعته واسلام قيادتهم له إلى حد إعطائه ميزات دونهم فما أدرى أهى حكمة أن ينقلوه من حيث كان يسدى الخير إليهم إلى حيث يصبح الشر فى مقدوره .
إن التخلى عن خشية الشر ممن لم نلق منه إلا الخير لحكمة لو كان محالا ألا يخالط طيبته نقص .
ولكن ماهذا ياربى ؟
كيف نسمى ذلك ؟
أى تعس هذا ؟
أى رذيلة أو بالأصدق أى رذيلة تعسة ؟
أن نرى عددا لاحصر له من الناس لا أقول يطيعون بل يخدمون ولا أقول يحكمون بل يستبد بهم ،لا ملك لهم ولا أهل ولانساء ولا أطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم !
أن نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من جيش ولامن عسكر أجنبى ينبغى الذود عن حياضهم ضده بل من واحد لا هو بهرقل ولاشمشون بل خنث ،هو فى معظم الأحيان أجبن من فى الأمة وأكثرهم تأنثا ،لا ألفة له بغبار المعارك وإنما بالرمل المنثور على الحلبات إن وطئها ولا هو يحظى بقوة يأمر الناس بها بل يعجز عن أن يخدم ذليلا أقل من أنثى ! أنسمى ذلك جبنا ?أنقول أن خدامه حثالة من الجبناء ? لو أن رجلين ،لو أن ثلاثة أو أربعة لم يدافعوا عن أنفسهم ضد واحد لبدا ذلك شيئا غريبا لكنه بعد ممكن ولو وسعنا القول عن حق أن الهمة تنقصهم .
ولكن لو أن مائة ، لو أن ألفا احتملوا واحدا ألا نقول :إنهم لايريدون صده ليس لأنهم لا يجرءون على الاستدارة له ، لا عن جبن بل احتقار له فى الأرجح واستهانة بشأنه ? فأما أن نرى لا مائة ولا ألف رجل بل مائة بلد ،ألف مدينة ،مليون رجل ، أن نراهم لا يقاتلون واحدا أقصى ما يناله من حسن معا ملته أى منهم هو القنانة والرق فأنى لنا أن نسمى به ذلك ؟
أهذا جبن ؟
إن لكل رذيلة حدا تأبى طبيعتها تجاوزه .فلقد يخشى إثنان واحدا ،ولقد يخشاه عشرة .
فأما مليون ،فإما ألف مدينة إن هى لم تنهض دفاعا عن نفسها فى وجه واحد فما هذا بجبن ، لأن الجبن لايذهب إلى هذا المدى .
كما أن الشجاعة لا تعنى أن يتسلق إمرؤ وحده حصنا أو أن يهاجم جيشا أو يغزو مملكة .
فأى مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذى لا يستحق حتى اسم الجبن ولايجد كلمة تكفى قبحه والذى تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته ؟
(2)
ضع بجانب خمسين ألف رجل مدججين بالسلاح .وضع مثلهم بالجانب الآخر .
دعهم يصطفون للمعركة ثم يلتحمون ،بعضهم أحرار يقاتلون دفاعا عن حريتهم والبعض الآخر بغية سلبهم إياها .
تُرى من تظنك تعد بالنصر ؟
من تظن أنهم ذاهبون إلى ساحة القتال بخطى مقدامة ؟
من يأملون الاحتفاظ بحريتهم جزاء على عنائهم أم أولئك الذين سواء كالوا الضربات أو تلقوها لم ينتظروا أجرا عليها سوى استعباد الغير ؟
الأولون يضعون نصب أعينهم سعادة الحياة الماضية وتوقع نعيم يماثلها فى المستقبل ولا يفكرون فى القليل الذى تلزم مكابدته زمن المعركة بقدر ما يفكرون فيما سيفرض عليهم أبد الدهر ، هم وأولادهم وجميع ذريتهم .
فأما الآخرون فلا حافز لهم إلا وخز من الطمع لا يلبث أن يسكن أمام الخطر ولايمكن أن يبلغ التهابه حدا لاتطفئه أول قطرة من الدم تنضو بها جروحهم .
خذ المعارك المشهودة التى خاضها ميلسيادس وليونيداس وثميستوكل منذ ألفى عام والتى مازلت تحيا فى صفحات الكتب وذاكرة البشر حتى اليوم كأن رحاها لم تدر إلا بالأمس على أرض الإغريق ، من أجل الإغريق ومن أجل أن تكون مثلا للدنيا قاطبة :
ماالذى فى زعمك أعطى فئة قليلة قلة الإغريق إذ ذاك لا أقول القوة بل الجرأة على الصمود فى وجه أساطيل بلغ من حشدها أن ناء بثقلها البحر وعلى أن يدحروا أمما بلغ من كثرتها أن كتيبة الإغريق بأسرها ما كان يكفى جنودها تزويد أعدائها ولو بالقواد ليس غير ؟
ماذا سوى أن المعركة لم تكن فى هذه الأيام المجيدة معركة الإغريق ضد الفرس بقدر ماكانت انتصار الحرية على السيادة وانتصار العتق على جشع الاسترقاق ؟
إنا ندهش إذ نسمع قصص الشجاعة التى تملأ بها الحرية قلوب المدافعين عنها .
أما ما يقع فى كل بلد لكل الناس كل يوم : أن يقهر واحد الألوف المؤلفة ويحرمها حريتها فمن ذا الذى كان يسعه تصديقه لو وقف عند سماعه دون معاينته ؟
ولو أن هذا القهر لم يكن يحدث إلا فى بلد أجنبى وأرض قاصية ثم ترد نبؤة أكان أحد يتردد فى ظنه كذبا وافتراء لاحقيقة واقعة ؟
ومع هذا فهذا الطاغية لايحتاج الأمر إلى محاربته وهزيمته ،فهو مهزوم خلقة ،بل يكفى ألا يستكين البلد لاستعباده .ولا الأمر يحتاج إلى انتزاع شىء منه بل يكفى الامتناع عن عطائه .فللبلد إذا أراد ألا يتحمل مشقة السعى وراء ما فيه منفعته ،كل ما يقتضيه الأمر هو الإمساك عما يجلب ضرره .
الشعوب إذن ،هى الى تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل أنفسها بأنفسها مادام خلاصها مرهونا بالكف عن خدمته .
الشعب هو الذى يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقه بيده .هو الذى ملك الخيار بين الرق والعتق فترك الخلاص وأخذ الغل .
هو المصاع لمصابه أو بالأصدق يسعى إليه . فلو أن الظفر بحريته كان يكلفه شيئا لوقف عن حثه :
اليس أوجب الأمور على الإنسان أن يحرص أكبر الحرص على حقه الطبيعى وأن يرتد ، إذا صح التعبير ،عن الحيوانية ليصير إنسانا؟
ولكنى لا أطمع منه فى هذه الجرأة ولا أنا أنكر عليه تفضيله نوعا آمنا من أنواع الحياة التعسة على أمل غير محقق فى حياة كريمة .
ولكن ! ولكن إذا كان نوال الحرية لايقتضى إلا أن نرغب فيها وكان يكفى فيه أن نريد ،أكنا نرى على وجه الأرض شعبا يستفدح ثمنا لايعدو تمنيها أو يقبض إرادته عن استرداد خير ينبغى شراؤه بالدم ويستوجب فقده على الشرفاء أن تصبح الحياة مرة عندهم والموت خلاصا ؟
إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم ،كلما وجدت حطبا زادت اشتعالا ثم تخبو وحدها دون أن تصب ماء عليها ،يكفى ألا نلقى إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما تهلك تهلك نفسها وتمسى بلا قوة وليست نارا.
كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا ،كلما دمروا وهجموا ،كلما موناهم وخدمناهم زادوا جرأة واستقووا وزادوا اقبالاعلى الفناء والتدمير .
فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا ،بلا حرب ولاضرب ،عرايا مكسورين لاشبه لهم بشىء إلا أن يكون فرعا عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوى .
(3)
إن الشهام لا يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم كما أن الأذكياء لايحجمون عن المشقة ، أما الجبناء والمغلفون فلا يعرفون احتمال الضرورة ولاتحصيل الخير وإنما يقفون عند تمنيه ، يسلبهم الجبن قوة العمل عليه ، فالرغبة فى امتلاكه إنما تلصق بهم بحكم الطبيعة .
هذه الرغبة ، هذه الإرادة الفطرية أمر يشترك فيه الحكيم والملتاث ويشترك فيه الشجاع والجبان ، به يودون تلك الأشياء التى يجلب اكتسابها السعادة والرضا. شىء واحد لا أدرى كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه :الحرية التى هى مع ذلك الخير الأعظم والأطيب حتى أن ضياعها لايلبث أن تتبعه النواكب تترى وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه وطمعه .الحرية وحدها هى ما لا يرغب الناس فيه لا لسبب فيما يبدو إلا لأنهم لو رغبوا فيها لنالوها ،حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته .
يالذل شعوب فقدت العقل ويا لبؤسها ، يا لأمم أمعنت فى أذاها وعميت عن منفعتها ،تسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان ،تتركون حقولكم تنهب ومنازلكم تسرق وتجرد من متاعها القديم الموروث عن آبائكم ! تحيون نوعا من الحياة لا تملكون فيه الفخر بملك ما حتى لكأنها نعمة كبرى فى ناظركم لو بقى لكم ولو النصف من أملاككم وأسركم وأعماركم ؛ وكل هذا الخراب ،هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لاعلى يد أعدائكم بل يأتيكم يقينا على يد العدو الذى صنعتم أنتم كبره والذى تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله ولاتنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم فى سبيل مجده .
هذا العدو الذى يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد ، ولاهو يملك فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم التى لا يحصرها العد إلا ما اسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم . فأنى له بالعيون التى يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها ؟
وكيف له بالأكف التى يصفعكم إن لم يستمدها منكم ?
إنى له بالأقدام التى يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم?
كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم ?
كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه?
أى قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذى ينهبكم ، شركاء للقاتل الذى يصرعكم ، خونة لأنفسكم ?
تبذرون الحب ليذريه .
تؤثثون بيوتكم وتملأونها حتى تعظم سرقاته .
تربون بناتكم كيما يجد ما يشبع شهواته .
تنشؤن أولادكم حتى يكون أحسن ما يصيبهم منه من جرهم إلى حروبه وسوقهم إلى المجزرة ولكى يصنع منهم وزراء مطامعه ومنفذى رغباته الإنتقامية .
تتمرسون بالألم كيما يترفه فى مسراته ويتمرغ فى ملذاته القذرة ،وتزيدون وهنا ليزيد قوة وشراسة ويسومكم بلجامه .
كل هذه الألوان من المهانة التى إما البهائم لاتشعر بها أو ما كانت تحتملها يسعكم الخلاص منها لو حاولتم لا أقول العمل عليه بل محض الرغبة فيه .
اعقدوا العزم ألا تخدموا تصبحوا أحرارا .
فما أسألكم مصادمته أو دفعه بل محض الإمتناع عن مساعدته .
فترونه كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى إلى الأرض بقوة وزنه وحدها وانكسر .
بيد أن الأطباء محقون بلا شك إذ ينهون عن لمس الجروح التى لابرء منها ،ولا أظننى أسلك مسلكا حكيما إذا أردت أن أسدى هنا الموعظة إلى الشعب بعد أن فقد كل معرفة منذ أمد طويل وصار فقدان حساسيته بالألم دليلا كافيا على أن مرضه قد صار مميتا .
لنحاول إذن أن نتبين لو أمكن ذلك كيف استطالت جذور هذه الإرادة العنيدة ،إرادة العبودية ،إلى هذا المدى البعيد حتى صارت محبة الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شىء لا يمت إلى الطبيعة بسبب.
سأحاول فى ثنايا هذا الملف.. أن أكتب مايعن لى وكما قلت فى البداية "لى عنده وقفات" ومادار بذهنى عن كلمةالدستور ،وهو الميثاق والعهد الذى يقنن العلاقة بين الحاكم والمحكوم .
وفى سنى الأولى وفى مرحلة التعليم الجامعى فى سنة1973م درسنا الدساتير المصرية، ودرّسها لنا الدكتور يحيى الجمل ،الفقيه الدستورى الشهير، و كان ملء العين والبصر أثناء ثورة 25يناير 2011م .وكلمةالدستور فارسية معربة معناها القانون ويستعمل بمعنى الدفتر الذي تدون فيه قوانين الملك وأسماء الجند ويكون أيضا بمعنى الاستئذان.
والاختلاف في أمر الدستور قديم. فقد تنازع في تعريفه فريقان.
أحدهما يفتح أوله ويزعم أنه على وزن خرطوم.
والآخر يشكك في هذا الوزن ومرجعيته ويدعي فتح الدال على فهو عنده على وزن تنّور.
ويستعمله العامة كثيراً ويريدون به معنى الاستئذان والدخول الى المكان الذي لا يباح الدخول إليه إلا بقول: دستور ياأهل البيت أو دستور يا أسيادنا وأخذ الدستور الحالى من الشعب المصرى أشهراً عديدة والجمعية التأسيسية التى أُسند إليها مهمة إعداد دستور للبلاد ،وما حدث بعد ذلك من مشاكل لم تنته حتى بعد الإستفتاء عليه لما إعتوره من أخطاء جسيمة نالت منه وأفقدته الكثير من التاييد وماشاب الإستفتاء من تزوير وتجاوزات ،حكاها البعض ونشرته المواقع والصحف ،وما قاله البعض الآخر من كذب مانُشر، وأنها دعاية ظالمة وجائرة.
(4)
أولا،إنه لأمر لا أظن الشك يتطرق إليه أننا لو كنا نعيش وفاقا للحقوق الممنوحة لنا من الطبيعة والدروس التى تلقنناإياه لكنا طيعين للوالدين بالطبع .خاضعين للعقل غيرمسخرين لأى كان .
فالطاعة التى يحملها كل منا لأبيه وأمه دون أن يهديه إليها إلا صوت الطبيعة أمر الناس جميعا شهود عليه كل عن نفسه .
فأما العقل وهل يولد معنا أم لا فمسألة تقارع فيها الأكاديميون ولم تتخلف مدرسة من المدارس الفلسفية عن الخوض فيها ، ولا أظننى أجانب الصواب إذ أقول أن بنفوسنا بذرة طبيعية من العقل تذدهر فى شكل الفضيلة إذا تعهدناها بالنصيحة الطيبة والقدوة الحسنة ولكنها على العكس كثيرا ما تغلبها الرذائل فتخمد وتنفق .
غير أن الشىء المحقق هو أنه إذا كان فى رحاب الطبيعة شىء واضح ، باد للعيان ولايجوز أن نعمى عنه فذلك أن الطبيعة ، هى وزيرة الخالق وآمرة الخلق ، قد سوتنا جميعا على شبه واحد حتى لكأنها ، إذا جاز التعبير ، قد صبتنا فى ذات القالب ، وذلك حتى يعرف كل منا فى الآخر رفاقه أوبالأصدق إخوته . وإذا كانت الطبيعة وهى توزع هباتها قد اسبغت على البعض مزية جسدية أو عقلية .
وإذا كانت رغم ذلك لم تتركنا فى هذه الدنيا كأننا فى حقل مغلق ولم تفوض الأقوياء والمكرة بافتراس الضعفاء كقطاع طرق أطلق سراحهم فى الغابة .
فلذلك دليل على أنها إذ أعطت البعض نصيبا أكبر والبعض الآخر نصيبا أصغر لم تهدف إلا إلى أن تترك المجال للتعاطف الأخوى حتى يظهر وجوده مادام البعض يملك قوة العطاء والبعض الآخر الحاجة إليه .
فإذا كانت هذه الأم الطيبة قد جعلت لنا من الأرض قاطبة سكنا وأنزلتنا جميعا بنفس المنزل وهيأتنا على نموذج واحد كيما يتسنى لكل منا أن يتأمل نفسه ويقترب من معرفتها فى مرآة الآخرين ،وإذا كانت قد وهبتنا جميعا تلك الهبة الإلهية الكبرى ، هبة الصوت والكلم حتى نزيد تعارفاوتآخيا وحتى تتلاقى إرادتنا بالإعراب المتبادل عن أفكارنا ، وإذا كانت قد جهدت بكل السبل حتى توثق عرى التحالف والإجتماع بيننا ، وإذا كانت قد بينت فى كل ما تصنع أنها لاتهدف إلى توحيدنا جميعا بقدر ما تهدف إلى أن نكون جميعا آحادا ، فقد إرتفع بذلك كل شك فى أننا جميعا أحرار بالطبيعة ، مادمنا رفاقا ، وامتنع أن يدخل فى عقل عاقل أن الطبيعة قد ضربت علينا الرق بينما هى آلفت بيننا .
غير أن الحقيقة هى أن الجدل فيما إذا كانت الحرية حقا طبيعيا أم لا لن يكون إلا تحصيلا للحاصل مادمنا لا نسترق كائنا دون أن نلحق الأذى به ومادم الغبن أكره الأشياء إلى الطبيعة التى هى مستودع العقل .
إذن يبقى أن الحرية شىء طبيعى ويبقى بهذا عينه أننا (فيما أرى ) لانولد أحرارا وحسب بل نحن أيضا مفطورون على محبة الذود عنها .
فإن أتفق بعد ذلك أن ساورنا شك فيما أقول وإن بلغ من فسادنا أننا لم نعد نستطيع تمييز مصالحنا ولامشاعرنا الطبيعية لم يبق إلا أن أكرمكم الأكرام الذى تستحقون وأن أترك الحيوانات التى لاتمت إلى المدنية بصلة تصعد المنبر لتعلمكم ما هى طبيعتكم وما وضع وجودكم .
إن الحيوانات (أخذ الله بعونى ) إذا البشر لم يصموا آذانهم لسمعوها تصرخ فيهم :
عاشت الحرية !
الحرية شىء طبيعى ويبقى بهذا عينه أننا (فيما أرى ) لانولد أحرارا وحسب بل نحن أيضا مفطورون على محبة الذود عنها .
هكذا يقول أتين دى لابويسيه.
ويأتينا الفيلسوف الألمانى الأشهر فردريك نيتشه ،فيلسوف القوة، وفى كتابه الشهير "هكذا تكلم زارادشت" يؤكد على هذه الحرية .
أنقل فصلاً من فصول هذا الكتاب.
هكذا يقول أتين دى لابويسيه.
ويأتينا الفيلسوف الألمانى الأشهر فردريك نيتشه ،فيلسوف القوة، وفى كتابه الشهير "هكذا تكلم زارادشت" يؤكد على هذه الحرية .
أنقل فصلاً من فصول هذا الكتاب.
دوحة الجبل
وارتقى زارا ذات مساء الربوة المشرفة على مدينة ( البقرة الملونة ) فالتقى هناك فتى كان يلحظ فيما مضى صدوده عنه ، وكان هذا الفتى جالساً إلى جذع دوحة يرسل إلى الوادي نظرات ملؤها الأسى ، فتقدم زارا وطوق الدوحة بذراعيه وقال : - لو أنني أردت هز هذه الدوحة بيدي لما تمكنت . غير أن الريح الخفية عن أعيننا تهزها وتلويها كما تشاء . هكذا نحن تلوينا وتهزنا أياد لا ترى .
فنهض الفتى مذعوراً وقال : - هذا زارا يتكلم ! وقد كنت موجهاً أفكاري إليه .
فقال زارا : - ما يخيفك يا هذا ? أليس للإنسان وللدوحة حالة واحدة ? فكلما سما الإنسان إلى الأعالي ، إلى مطالع النور ، تذهب أصوله غائرة في أعماق الأرض ، في الظلمات والمهاوي .
فصاح الفتى : - أجل إننا نغور في الشرور ، ولكن كيف تسنى لك أن تكشف خفايا نفسي ?
فابتسم زارا وقال : - إن من النفوس من لا نتوصل إلى اكتشافها إلا باختراعها اختراعاً .
وعاد الفتى يكرر قوله : - أجل إننا نغور في الشرور . قلت حقاً يا زارا ، لقد تلاشت ثقتي بنفسي منذ بدأت بالطموح إلى الارتقاء ، فحرمت ايضاً ثقة الناس ، فما هو السبب يا ترى ? إنني أتحول بسرعة فيدحض حاضري ما مضى من أيامي ، ولكم حلقت فوق المدارج أتخطاها وهي الآن لا تغتفر لي إهمالي . إنني عندما أبلغ الذروة أراني دائماً منفرداً وليس قربي من يكلمني ، ويلفحني القر في وحدتي فترتجف عظامي ، وما أدري ما أتيت أطلب فوق الذرى !
إن احتقاري يساير رغباتي في نموها ، فكلما ازددت ارتفاعاً زاد احتقاري للمرتفعين فلا أدري ما هم في الذرى يقصدون . ولكم أخجلني سلوكي متعثراً على المرتقى ، ولكم هزأت بتهدج أنفاسي . إنني أكره المنتفضين للطيران . فما أتعب الوقوف على الذرى العالية .
ونظر زارا إلى الدوحة يتكىء الفتى عليها ساكتاً فقال : - إن هذه الدوحة ترتفع منفردة على القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات ، فاذا هي أرادت أن تتكلم الآن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد . إنها انتظرت ولم تزل تتعلل بالصبر ، ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة عليها .
فهتف الفتى متحمساً : - نطقت بالحق يا زارا ، إنني اتجهت إلى الأعماق وأنا أطلب الاعتلاء ، وما أنت إلا الصاعقة التي توقعتها . تفرس في ، وانظر إلى ما آلت إليه حالتي منذ تجليت لنا ، فما أنا إلا ضحية الحسد الذي استولى علي .
وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم ، فتأبط زارا ذراعه وسار به على الطريق . بعد أن قطعا مسافة منها قال زارا : - لقد تفطر قلبي ، إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار . إنك لما تتحرر يا أخي ، بل ما زلت تسعى إلى الحرية ، ولقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس كالسائر في منامه .
إنك تريد الصعود مطلقاً من كل قيد نحو الذرى ، فقد اشتاقت روحك إلى مسارح النجوم ، لكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية أيضاً .
إن كلابك العقورة تطلب حريتها فهي تنبح مرحة في سراديبها ، على حين أن عقلك يطمح إلى تحطيم أبواب سجونك كلها . وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل سجيناً يتوق إلى حريته ، وأمثال هذا السجين تتصف أرواحهم بالحزم غير أنها وا أسفاه مراوغة شريرة .
على من حرر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كبت العواطف والتلطخ بالأقذار ، لتصبح نظراته براقة صافية . إنني لا أجهل الخطر المحدق بك ، لذلك استحلفك بحبي لك وأملي فيك الا تطرح عنك ما فيك من حب ومن أمل .
إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريماً بالرغم من كرههم لك وتوجيههم نظرات السوء إليك ، فاعلم أن الناس لا يبالون بالكرماء يمرون بهم على الطريق ، غير أن أهل الصلاح يهتمون بهم ، فإذا ما صادفوا في سبيلهم من يتشح الكرامة دعوه رجلاً صالحاً ليتمكنوا من القبض عليه لاستعباده .
إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شيئاً جديداً وفضيلة جديدة ، على حين أن الرجل الصالح لا يحن إلا الى الأشياء القديمة ، وجل رغبته تتجه إلى الإبقاء عليها .
لا خطر على الرجل الكريم من أن ينقلب رجل صلاح ، بل كل الخطر عليه في أن يصبح وقحاً هداماً .
لقد عرفت من الناس كراماً دلت طلائعهم على أنهم سيبلغون اسمى الأماني ، فما لبثوا أن هزأوا بكل أمنية سامية ، فعاشوا تسير الوقاحة أمامهم ، وتموت رغباتهم قبل أن تظهر ، فما أعلنوا في صبيحتهم خطة إلا شهدوا فشلها في المساء .
قال هؤلاء الناس : ما الفكرة إلا شهوة كغيرها من الشهوات .
وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما ، وبقيت وهي تزحف زحفاً وتدنس جميع ما تتصل به .
لقد فكر هؤلاء الناس من قبل أن يصيروا أبطالاً ، فما تسنى لهم إلا أن يصبحوا متنعمين ، يحزنهم شبح البطولة ويلقي الخوف في روعهم .
استحلفك بحبي لك وأملي فيك الا تدفع عنك البطل الكامن في نفسك اذ عليك أن تحقق اسمى امانيك .
هكذا تكلم زارا .......
هكذا تكلم زرادشت ( كتاب للكل ولا لأحد ) للفيلسوف الألماني : فريدريك نيتشه
ترجمة : فيلكس فارس ــ مكتبة صادر ، بيروت ، لبنان ، نسخة مطبعة الإتحاد 1948
الحريةالحمراء لاتنال إلا بما قاله شوقى :
"وللحرية الحمراء باب ***بكل يد مضرجة تدق
أبوالقاسم الشابى ..ينادى ويرفع الصوت ويحض على الحرية ،وتونس تئن تحت وطاة إستعمار فرنسى بغيض ،ولم تسلم دولة عربية من إستعمار دام سنوات طويلة.
وتصبح عبودية الشعوب بالقهر والقتل والإذلال ،ولم تكن أبداً عبودية مختارة.خـُلقـْـتَ طليــقا كطيــف النســيــــم
وحـُــرا كنــور الضُــحى في سـماهْ
تـُغــــّردُ كالطيـــر أين انــــــدفعــتَ
وتشــــدو بما شـــاء وحـــيُ الإلهْ
وتمـــرحُ بيــن ورود الصـــــــباح
وتنـــــعمُ بالنــــور أيـن تـــــــــراهْ
وتمشـــي كما شئــت بينَ المُروج
وتقطــفُ وردَ الرُبـــى في رُبـــــاه
كذا صـــاغك اللهُ يا ابــــنَ الوجود
وألقــــتك في الكـــون هذي الحياهْ
فمـــالك ترضــى بذلِّ القيــــــــــود
وتـُحنــــى لمن كبّلــــوك الجـــــباهْ
وتسُكــتُ في النفس صوتَ الحياة
القــــوي إذا ما تـــــغـّني صــــــداه
وتـُطبـــــق ُأجفــــــــــانك النيرات
عن الفجر والفـــجرُ عــذبٌ ضـــياهْ
وتقــــنع بالعيـــش بين الكهـــوف
فأين النشـــــيد وأيــــــن الإبــــاه
أتخـــــشى نشيد السمـــاء الجميل
أترهــــب نور الفضا في ضــــحاه
ألا انهض وسر في سبـــيل الحياة
فمن نـــــام لم تنتـــــظره الحــــياه
ولا تــــخشي ممــــا وراء التــلاع
فما ثم إلا الضحــــــــى في صــباه
وإلا ربيــــع الوجــــــــــود الغرير
يطرز بالــــــورد ضافــــــــي رداه
وإلا أريـــــج زهــور الصبــــــــاح
ورقـــــص الأشعــــة بين الميـــاه
وإلا حمـــــام المـــــروج الأنيــــق
يغـــــــرد منطـــــلقا في غنــــــــاه
الى النــــور! فالنــور عذب جميل
الى النــــــور فالنـــــور ظـل الاله
(6)
هناك ثلاثة أصناف من الطغاة :
البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب
والبعض الآخر بقوة السلاح
والبعض الثالث بالوراثة المحصورة فى سلالتهم .فأما من انبنى حقهم على الحرب فنعلم جيدا أنهم يسلكون ،كما نقول ،فى أرض محتلة .
وأما من ولدوا ملوكا فهم عادة لا يفضلونهم قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدور الطغيان يمتصون جبلة الطاغية وهم رضاع وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد ويتصرفون فى شؤون المملكة كما يتصرفون فى ميراثهم ،كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ .
أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة فينبغى فيما يبدو أن يكون احتماله أهون .
ولقد يكون الأمر كذلك على ما أعتقد لولا أنه ما إن يرى نفسه يرتقى مكانا يعلو به الجميع وما إن يستغويه هذا الشىء الغريب المسمى العظمة حتى يعقد النية على ألا يتزاح من مكانه قط .
ثم أن هذا الرجل لايلبث أن يشرع عادة فى اسناد القوة التى سلمه الشعب إياها إلى أبنائه .
وما أن يتلقف هؤلاء هذه الفكرة حتى نشهد شيئا عجبا :
نشهد إلى أى مدى يبزون سائر الطغاة فى جميع أبواب الرذائل بل فى قسوتهم دون أن يروا سبيلا إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد سوى مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم حتى يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها فى ذاكرتهم .
فكلمة الحق هى أنى أرى بعضا من الاختلاف بين الطغاة ولكنى لا أرى اختيارا بينهم لأن الطرق التى يستولون بها على زمام الحكم ليكاد يختلف :
فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله ، والغزاة كأنه فريستهم ، والواثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكا طبيعيا .
فهب فى هذا الموضع أن الصدفة شاءت أن يولد نمط جديد كل الجدة من البشر ،لا ألفة لهم بالعبودية ولا ولع بالحرية ولا يعلمون ما هذه ولا تلك بل يجهلون حتى اسميهما ، ثم خيروا بين الرق وبين الحياة أحرارا ، فعلام يجمعون ؟
لا مجال للشك فى أنهم سوف يؤثرون طاعة العقل وحده على خدمة رجل ما – هذا إلا إذا كان هؤلاء هم شعب إسرائيل الذى نصب طاغيا عليه بغير إكراه ولا احتياج : وأنه لشعب لا أقرأ قصته أبدا دون أن يتملكنى حنق عظيم حتى لأكاد أتجرد من الإنسانية فأفرح بجميع ما نزل عليه بعد ئذ من البلايا .
ولكن طالما بقى بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقينا لاينساق إلى العبودية لا عن حد سبيلين :
إما مكرها وإما مخدوعا .
مكرها إما بسلاح أجنبى مثل مدينتى أسبرطة وأثينا إذ قهرتهما قوات الإسكندر ،
وإما بطائفة من مجتمعه مثلما حدث فى أثينا فى زمن أسبق حين استولى بيسيستراتس على مقاليد الحكم .
فأما الخديعة من حيث تؤدى أيضا إلى فقدان الحرية فرجوعها إلى تغرير الغير يقل فى أكثر الأحيان عن رجوعها إلى كون الناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم . مثال ذلك شعب سيراقوصة (عاصمة صقلية ) إذ هجم عليه الأعداء من كل جانب ولها فكره عن كل شىء إلا عن الخطر الحاضر فرفع ديونيسسيوس إلى الرياسة دون نظر إلى المستقبل وأسند إليه قيادة الجيش ولم يدرك إلى أى حد قواه إلا حين رجع هذا الداهية منتصرا كأنه غزا مواطنيه لا أعدائهم فتسمى باسم القائد ثم بالملك المطلق . وإنه لأمر يصعب على التصديق ان نرى الشعب متى تم خضوعه يسقط فجأة فى هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه لقدرة على الاستيقاظ لاستردادها ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى ليهيأ لمن يراه أنه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته .
صحيح أن الناس لايقبلون على الخدمة فى أول الأمر إلا جبرا وخضوعا للقوة ولكن من يأتون بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف ويأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطرارا .
ذلك من ولدوا وهم مغلولوالأعناق ثم اطعموا وتربوا فى ظل الاسترقاق دون نظر إلى أفق أبعد يقنعون بالعيش مثلما ولدوا .
ثم أنه لما كان التفكير فى حال مختلفة أو فى حق آخر لايطرأ على بالهم ،فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ الأمر الطبيعى .
ومع هذا فما من وارث إلا نظر أحيانا فى مستندات أبيه ليرى هل يتمتع بحقوق تركته أم أن غبنا قد لأصابه أو أصاب سلفه .
لكن لاشك أن العادة مع سيطرتها علينا فى كل مجال لا تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر حين تلققننا العبودية وحين تعلمنا .
مثلما قيل عن ميثريدات الذى صار السم عنده شرابا مألوفا ، كيف نجرع سم الاسترقاق دون الشعور بمرارته؟
لاجدال فى أن للطبيعة نصيبا كبيرا فى توجيهنا حيث تشاء وأننا نولد على ما تدخره لنا من فطرة حسنة أو سيئة .
ولكن لا مناص من التسليم بأن سلطانها علينا يقل عن سلطان العادة لأن الاستعداد الطبيعى مهما حسن يذهب هباءا إ ذا لم نتعهده .
فى حين أن العادة تفرض علينا صوغها أيا كان هذا الاستعداد .
(7)
فالبذور التى تنثرها فينا يد الطبيعة ضئيلة واهية إلى حد لا يجعلها تحتمل أقل غذاء منافر لها ،فرعايتها لاتتم بمثل السهولة التى تتبدد بها وتفنى ،شأنها شان أشجار الفاكهة ؛ كل شجرة منها لها طبيعتها وتؤتى ثمارا غريبة غير ثمارها إذا طعمتها .كذلك الأعشاب : كل عشب له خاصيته وطبيعته وتفرده ولكن البرد والجو ثم التربة ويد البستانى تعين نموه كثيرا أو تعوقه كثيرا حتى أن النبات الذى نراه فى قطر لانكاد نعرفه فى قطر آخر .
تخيل رجلا رأى أهل مدينة البندقية – وهم قلة من الناس يعيشون أحرارا حتى ليأبى أقلهم جاها أن يتوج ملكا على جميعهم ، ولدوا ونشأوا على ألا يعرف أى منهم مطمعا إلا الإدلاء بأحسن النصح من أجل الحفاظ على الحرية والسهر عليها ،تربوا منذ المهد وتشكلوا على ألا يمدوا أيديهم إلى سائر نعم الأرض مجتمعة عوضا عن ذرة من حريتهم – أقول تخيل رجلا رأى هؤلاء القوم ثم ذهب بعد أن غادرهم إلى أرض ينشر عليها سلطانه من لقبناه بملك الزمان ، أراض يرى أناسا لايولدون إلا لخدمته ولايعيشون إلا لدوام قوته ،ترى هل يظن أن هؤلاء وأولئك من عجينة واحدة أم أن الأرجح أنه سوف يعتقد أنه ترك مدينة آدمية ودخل حظيرة للدواب ؟
يحكى أن ليكورج (مشرع اسبرطة ) قد ربى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا ذات الثدى ، فجعل أحدهما يسمن فى المطبخ وترك الآخر يجرى فى الحقول وراء أبواق الصيد . فلما أراد أن يبين لشعب لاسيدومونيا أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم جاء بالكلبين وسط السوق ووضع بينهم حساء وأرنبا ، فإذا أحدهما يجرى إلى الطبق والآخر وراء الأرنب .
فقال ليكورج : ومع هذا فهما أخوان !
هكذا نجح بفضل قوانينه ودستوره فى أن ينشىء سكان لاسيدومنيا تنشئة جعلت كلا منهم يفضل الموت ألف ميتة على أن يختار لنفسه سيدا آخر سوى القانون والعقل.
(8)
ويطيب لى هنا أن أتذكر حديثا جرى فى قديم الزمان بين أحد المقربين إلى أكسركس ملك الفرس الأعظم وبين رجلين من لاسيدمونيا .
أخذ اكسركس ، وهو يعد جيشه الضخم لغزو اليونان ، يبعث رسله إلى المدن اليونانية يطلبون إليها الماء والتراب وهو تعبير كان يستخدمه الفرس إشارة إلى أنهم يأمرون المدن بالاستسلام . إلا أثينا واسبرطة ،فقد تجنب أن يرسل إليهما أحدا ، ذلك أن الأثينين والاسبرطيين كان قد سبق لهم أن أمسكوا بسفراء أبيه داريوس فزجوا بعضهم فى الحفر والبعض الآخر فى الآبار قائلين : خذوا ما تريدون من الماء والتراب ! كانوا قوما لايطيقون ولو كلمة واحدة تمس حريتهم . غير أن الاسبرطيين بعد أن صنعوا هذا الصنيع أدركوا أنهم قد جروا على أنفسهم غضب الآلهة وغضب تالثيبيوس ، إله الرسل، بنوع خاص ، فقرروا أن يرسلوا إلى اكسركس مواطنين من بينهم ليمثلا بين يديه وليصنع بهم ما يشاء انتقاما لمن قتل من رسل أبيه .
فتطوع رجلان ليدفعا هذا الثمن ، اسم أحدهما سبرثيوس واسم الآخر بولس .
وبينما هما فى الطريق صادفا قصرا يملكه رجل فارسى اسمه هندران ،كان الملك قد عينه واليا على جميع المدن الواقعة على الساحل ،فرحب بهما أكرم ترحيب وأطعمهما بغير حساب ثم سألهما بعد أن أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث لما يرفضان إلى هذا الحد صداقة الملك ؟
قال : "أنظرا إلىً أيها الاسبرطيان واتخذا منى مثلا منه كيف يعرف الملك تشريف من استحق وتذكرا أنكما لو صرتما من اتباعه لرأيتما من صنيعه ما رأيت وأنكما لو دنتما له بالطاعة وعرف أمركما لما خرج كلاكما عن أن يكون أميرا لمدينة من مدن اليونان " .
فأجابه محدثاه : "لهذا ياهندران لأمر لا تملك فيه إسداء النصح إلينا لأنك جربت النعمة التى تعدنا بها ولكنك لا تعلم شيئا عن نعمتنا ؛ لقد ذقت حظوة الملك وأما الحرية فلست تعرف ما مذاقها ولامدى عذوبته ،ولو فعلت لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والدرع بل بالأسنان والأظافر " .
هذا الجواب وحده هو الصدق ، ومع هذا فلاشك أن ثلاثتهم تحدثوا وفاقا لنشأتهم ، فما كان للفارسى أن يستشعر الأسف على الحرية وهو لم ينلها قط ولا للاسبرطى أن يحتمل التبعية بعد أن ذاق الحرية .
(9)
وكان كاتو الأوتيكى وهو بعد طفل تحت الوصاية كثير التردد على منزل الدكتاتور سيلا ، يروح ويجىء متى شاء لايصد الباب فى وجهه أبدا لكرم محتده ولما كان بينه وبين سيلا من أواصر القرابة . وكان معلمه يصحبه فى كل زيارة على ما جرت به العادة إذ ذاك مع أبناء الأسر العريقة .ولم يلبث أن تبين له أن مصائر الناس تحسم بتلك الدار بمحضر من سيلا نفسه أو بأمره :
البعض يسجن والبعض يدان ، هذا ينفى وهذا يشنق ، هذا يطالب بمصادرة أملاك أحد المواطنين وذاك يطلب رأسه .
تبين له بالاختصار أن الأمور لاتجرى على ما ينبغى لدى مسئول أعملته المدينة بل لدى طاغية استبد بالشعب وأن المكان لم يكن ساحة للعدل بل مصنع للطغيان .
عند ئذ قال الفتى لمعلمه :
" أنى لى بخنجر أدسه تحت ردائى فإنى كثيرا ما أرى سيلا فى حجرته قبل أن يستيقظ وأن بساعدى لقوة تكفى خلاص المدينة منه ".
هذه حقا كلمة تليق برجل من معدن كاتو ، وهكذابدأت حياة هذا البطل الذى مات كريما بعد أن عاش كريما .
ومع هذا هب أنك لم تذكر الاسم ولاالبلد مكتفيا بذكر الواقعة كما هى :
لاشك أن الواقعة سوف تتحدث عندئذ عن نفسها بنفسها ، ولسوف يستدل السامع منا أن قائل هذا القول رومانى ولد بأحضان روما حين كانت روما مدينة حرة .
لما أقول ذلك ? طبعا لا لأنى أظن أن البلد أو الأرض يضيفان إلى الشىء ما ليس فيه .
فالعبودية مرة بكل قطر وجو والحرية عزيزة ،ولكن لأنى أرى أن من سبق النير مولدهم جديرون بالرثاء ، فواجبنا عذرهم أو الصفح إذا كانوا لايرون ضرا فى عبوديتهم ما داموا لو يروا ظل الحرية ولا سمعوا عنها قط .
كان ثمة بلد كبلد السمريين ،فيما يقول هوميروس ، بلد لاتشرق عليه الشمس شروقها المألوف علينا وإنما تفيض عليهم بنورها ستة أشهر متوالية تتركهم نياما فى الحلكة خلال النصف الآخر من السنة : من ولدوا فى غياهب هذا الليل الطويل إذا كانوا لم يسمعوا البتة أحدا يتحدث عن الضوء ، هل تعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التى ولدوا فيها دون أن يستشعروا الرغبة فى النور ؟
إنا لانفتقد مالم نحصل عليه قط وإنما يأتى الأسف فى أعقاب المسرة ودوما تأتى ذكرى الفرح المنقضى مع خبرة الألم .
أجل أن طبيعة الإنسان أن يكون حرا وأن يريد كونه كذلك ولكن من طبيعته أيضا يتطبع بما نشأ عليه.
لنقل إذن أن مادرج الإنسان عليه وتعوده يجرى عنده بمثابة الشىء الطبيعى ، فلا شىء ينتسب إلى فطرته سوى طبيعته الخالصة التى لم يمسسها التغير .
ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة ؛ كشأن الجياد الشوامس تعض الحكمة بالنواجذ فى البدء ثم تلهو بها أخيرا وبعد أن كانت ترجم ولا تكاد تستقر تحت السرج إذا هى الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهى تتبختر فى دروزها .
تقول أنها كانت منذ البدء ملكا لمالكها وأن آباءها عاشت كذلك وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الإلزام وبمر الزمن تدعم هى نفسها امتلاك طغاتها إياها .ولكن الحقيقة هى أن السنين لا تجعل أبدا من الغبن حقا وإنما تزيد الإساءة استفحالا .
آجلا وعاجلا يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة الغل ولا يتمالكون عن هزه هزا ولايرضون أنفسهم أبدا على التبعية والخضوع بل هم مثلهم كمثل أوليس وهو يجتاب الأرض والبحر عساه يرى الدخان الذى يصعد من داره ولايمسكون قط عن التفكير فى حقوقهم الطبيعية وعن تذكر من تقدموهم وتذكر وضعهم الأول .
أولئك هم الذين إذ ملكوا فهما نافذاً ورأيا بصيراً وأنصقلت عقولهم لم يكتفوا كما يفعل العامة بالنظر لمواطىء أقدامهم دون التفات إلى أن ما أمامهم وما وراءهم ودون أن يتذكروا وقائع الماضى ليسترشدوا بها فى الحكم على المستقبل وسبر الحاضر .
أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطيعتها فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيبا .
أولئك لو أن الحرية أمحت على وجه الأرض وتركتها كلها لتخيلوها وأحسوا بها فى عقولهم وتذوقوها ولم يجدوا للعبودية طعماً مهما تبرقعت
(10)
لقد أدرك قراقوش الترك(السلطان العثمانى ) هذا الأمر أحسن إدراك ، أدرك أن الكتب والثقافة الصحيحة تزود الناس أكثرمن أى شىء آخر بالحس والفهم اللذين يتيحان لهم التعارف والاجتماع على كراهية الطغيان ، دليل ذلك خلو أرضه من العلماء وبعده عن طلبهم .
وفى سائر الأرض بوجه عام تظل حماسة من أخلصوا قلوبهم للحرية وتظل محبتهم دون أن يكون لهما أثر مهما كثر عددهم لانقطاع التواصل بينهم ؛ فالطاغية يسلبهم كل حرية ؛ حرية العمل وحرية الكلام ولو أمكن فحرية الفكر .
فإذا هم منفردون منعزلون كل فى تخيله .
وعليه فمابالغ الآله الساخرموموس فى سخريته إذ شهد الإنسان الذى صنعه فولكان فنصحه أن يضع أيضا بقلب صنيعه نافذة صغيرة لكى تتسنى رؤية أفكاره من خلالها . ولقد قيل أن بروتوس وكاسيوس حين شرعا فى تحرير روما أو بالأصدق فى تحرير العالم أجمع أبيا أن يشركا شيشرون وهو المدافع المنقطع النظير عن المصلحة العامة فيما عقدا العزم عليه إذ كان من رأيهما أن قلبه أضعف من يثبت فى هذا الموقف العصيب ، كانا يثقان فى صدق إرادته دون أن يضمنا شجاعته .
وإن لفى وسع من أراد استقراء وقائع الماضى وسجلات التاريخ أن يتحقق أن من رأوا بلدهم تساء سياسته وتستحوذ عليه أياد جانية فعقدوا العزم على تحريره بنية صادقة مستقيمة لا تردد فيها قل ألا يحالفهم النجاح وأن الحرية تساندهم فى الدفاع عن قضيتها .
أنظر هارموديوس وأرسطجيتون وثراسيبول وبروتوس الأقدم وفالريوس وديون : لقد كان عملهم ناجحا مثلما كان فكرهم فاضلا لأن الحظ لا يكاد يتخلى أبدا فى مثل هذه القضية عن مناصرة الإرادة الطيبة .
كذلك نجح بروتوس الأصغر وكاسيوس فى رفع العبودية وإن كانا إذ استرجعا الجمهورية قد خسرا الحياة خسارة لاتحط من شأنهما ( فأى سبة هذه أن تنسب الحطة إلى أمثال هؤلاء القوم سواء فى الحياة أو الممات ) بل خسارة عانت منها الجمهورية أكبر الضرر وعانت البؤس أبد الدهر واندثرت اندثارا كأنها قد دفنت بدفنهما . فأما ما تلا ذلك من الحركات الموجهة ضد الأباطرة الرومانيين فلم تكن إلا مؤامرات حاكها قوم طامحون لا يستحقون الرثاء على سوء مآلهم فقد كان من الواضح أن مطلبهم لم يكن تقويض العرش بل زحزحة التاج .مدعين طرد الطاغية مع الإبقاء على الطغيان .
هؤلاء قوم ماكنت نفسى أود لهم نجاحا وأنه ليسرنى أنهم قد ضربوا بأنفسهم المثل على أن اسم الحرية المقدس لا يجوز استخدامه مع اعوجاج القصد .
ولكنى لكى أعود إلى موضوعنا الذى كاد يغيب عن نظرى أقول إن السبب الأول الذى يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد هو كونهم يولدون رقيقا وينشأون كذلك .إلى هذا السبب يضاف سبب آخر ؛ أن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين .
إنى أشكر أبا الطب هيبوقراط إذ فطن إلى ذلك وعبر عنه أحسن تعبير فى كتابه المعنى عن الأمراض . لقد كان هذا الرجل يملك يقينا فى جميع أحواله قلبا يزخر بالمروءة ،أبدى ذلك حين أراد ملك الفرس اجتذابه بالعطايا والهدايا الفخمة فأجابه صراحة أنه لن يسلم من وخز الضمير إذا هو اشتغل بعلاج الأجانب الذين يريدون موت الأغريق وراح يخدمه بفنه بينما هو يريد اخضاع بلادهم .
ولايزال خطابه المرسل إلى ملك الفرس ماثلا إلى يومنا هذا بين سائر كتاباته ، يشهد مدى الدهر على قلبه الطيب وطبيعته النبيلة .
من المحقق إذن ، أن الحرية تزول بزوالها الشهامة .
فالقوم التابعون لا همة لهم فى القتال ولاجلد ، إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يشدون إليه شدا ، أشبه بنيام يؤدون واجبا فرض عليهم ، لا يشعرون بلهب الحرية يحترق فى قلوبهم ، هذا اللهب الذى يجعل المرء يزدرى المخاطر ويود لو اكتسب بروعة موته الشرف والمجد بين أقرانه .إن الأحرار يتنافسون كل من أجل الجماعة ومن أجل نفسه وينتظرون جميعا نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار ، أما المستعبدون فهم عدا هذه الشجاعة فى القتال يفقدون أيضا الهمة فى كل موقف وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال ، وهذا أمر يعلمه الطغاة جيدا ، فهم ما إن يروا الناس فى هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضى فيه حتى يزيدوا استنعاجا .
(11)
لقد وضع كسينوفون ،وهو مؤرخ جاد من أئمة المؤرخين اليونانيين ، كتابا تخيل فيه حوارا بين سيمونيد وبين طاغية سيراقوصة هيرون حول كروب الطاغية .
هذا الكتاب ملىء بنظرات نقدية طيبة جادة وان اتسمت مع ذلك فى رأيى بأقصى ما يمكن من اللطف .
ليت طغاة الأرض وضعوا هذا الكتاب نصب أعينهم أنى وجدوا لتكون لهم منه مرآة لهم ! فلو فعلوا لتبينوا رذائلهم ولأخجلتهم مساعيهم .
فى هذا الحوار يصف كسينوفون كرب الطغاة إذ يضطرهم الأذى الذى يلحقونه بالناس جميعا إلى خشيتهم جميعا قائلا بين مايقول أن الملوك الفاسدين يستخدمون المرتزقة الأجانب فى شن الحروب فرقا من ترك السلاح فى يد رعاياهم الذين أمعنوا فى غبنهم .
(هذا وإن يكن من الصحيح أن التاريخ قد شهد بين الفرنسيين أنفسهم وفى الماضى أكثر من الحاضر ملوكا صالحين جندوا جيوشا من الأمم الأجنبية لا عن حذر بل حرصا على بنى وطنهم وتقديرا منهم أن خسارة الأموال يبخس ثمنها فى سبيل صيانة الأرواح عملا بما يسند إلى سيبيون وأظنه الأفريقى ، من قوله أنه يفضل لو أنقذ مواطنا على ان يدحر ألف عدو ) .
لكن الشىء المحقق هو أن يبلغ تلك الغاية التى هى تصفية المأمورين بأمره من كل رجل ذى قيمة ما .
بحيث يحق لنا أن نوجه إليه التقريع الذى يفخر تيراسون فى إحدى مسرحياته( تيرانس )بتوجيهه إلى مروض الأفيال :
ألأنك تأمر الأنعام ، تجرؤ هذه الجرأة ؟
بيد أن هذا التحايل من قبل الطغاة على التغرير برعاياهم لا يمكن أن يتجلى على نحو يفوق تجليه فيما صنع كسرى إزاء الليديين إذ دحرهم واستولى على عاصمتهم سارد وأسر كريسوس ملكهم الذى ضربت بتراثه الأمثال وعاد به إلى بلاده فبلغه أن أهل سارد قد ثاروا .
وكان يسعه سحقهم إلا أنه رغب عن تدمير مدينة فاق جمالها الأوصاف ثم هو لم يكن يريد أن يجمد بها جيشا لحراستها .
فتفتق ذهنه عن حيلة كبيرة توصل بها إلى مأربه :
فتح دور الدعارة والخمر والألعاب الجماهيرية ونشر أمرا يحض السكان على الإقبال على هذا كله.
فكانت هذه الحيلة حامية أغنته إلى الأبد عن أن يسل السيف فى وجه الليديين .فقد انصرف هؤلاء المساكين البؤساء إلى التفنن فى اختراع الألعاب من كل لون وصنف حتى أن اللاتينيين اشتقوا من اسمهم الكلمة التى يدولون بها على اللهو فقالوا لودى وكأنهم يريدون أن يقولوا ليدى .
صحيح أن الطغاة لم يعلنوا جميعا عما يسعون إليه من تخنيث الشعوب .
ولكن ما فعله هذا صراحة يتوخاه معظم الآخرين خفية.
والحقيقة هى أن تلك طبيعة العامة الذين تضم معظم المدن القسط الأوفر منهم ، فهم شكاك فيمن أحبهم ، سذج حيال من خدعهم .
فلا تظنن أن ثمة عصفورا يسهل اقتناصه بالصفافير أو سمكة تهرع إلى الطعم بمثل العجلة التى تسرع بها إلى العبودية كل الشعوب منجذبة ، كما نقول ، بأقل زغبة تفتح فاها وإنه لأمر عجيب أن تراها تندفع هذا الإندفاع ، يكفى فيه مجرد زغزغتها .
المسارح والألعاب والمساخر والمشاهد والمصارعون والوحوش الغريبة والميداليات واللوحات ، هذه وغيرها من المخدرات كانت لدى الشعوب القديمة طعم عبوديتها وثمن حريتها وأدوات الإستبداد بها .
هذه الوسيلة وهذا المنهج وهذه المغريات هى ما تذرع بها الطغاة القدامى حتى تنام رعيتهم تحت النير .
هكذا تأخذ الشعوب المخدوعة إذ تروق لها هذه الملاهى وتتسلى بلذة باطلة تخطف أبصارها فى تعود العبودية بسذاجة تشبه سذاجة الأطفال الذين تخلب لبهم الكتب المصورة فيحاولون فك حروفها ولكن بتخبط أكبر .
واكتشف الطغاة الرومانيون اكتشافا آخر فوق هذا كله : موائد العشرات (موائد يلتف حولها أفراد الشعب كل عشرة حول مائدة ) يكثرون من الدعوة إليها فى الأعياد تمويها على هؤلاء الرعاع الذين لاينقادون لشىء مثلما ينقادون للذة الفم والذين ما كان يستطيع أشدهم مكرا وأقربهم إلى أسماعهم أن يترك وعاء حسائه ليسترجع حرية جمهورية أفلاطون .
فى الذكرى الثانية للثورة المصرية 25يناير 2011م ،وبعد أن خطفتها جماعة الإخوان وأعتلت سدة الحكم ،وتاه مشروع النهضة وأكلته الأرضة ..
ومايصدر يومياً من قادتها من أحاديث متناقضة ،فلا سياسة ولا إقتصاد بل التردى المستمر فى مشاكل تأخذ بيد الوطن إلى صراعات وإنشقاقات وهزائم متتالية .
فلنقرأ :إن تطور المنطقة العربية لا بد وأن يقودنا إلى مفهوم الإسلام المكافح والإسلام كحركة تحرر فى العالم المعاصر ينطلق من ظواهر ثلاث لابد وأن تتكامل ليتكون من مجموعها نسيج واحد للتعامل الحركى ؛ اصلاح ، اكتشاف الذات، تأكيد للإرادة الواعية .
لابد من اصلاح النظام السياسى الإسلامى لا فقط كأسلوب للتعامل بين الحاكم والمحكوم بل كعقيدة من حيث التصور والإدراك للنظام الإجتماعى .
بل إن هذا الإصلاح يجب أن يتسع ليشمل إعادة كتابة الفقه .قفل باب الإجتهاد أضحى لغوا لامعنى له .
محاولات الخمينى لاتزال تحمل طابعا بدائيا بحيث لايمكن الاعتماد عليها فى بناء نظامى يتفق والواقع المعاصر .
البحث عن الذات واكتشاف حقيقة تلك الذات على المستوى الاجتماعى والفردى ، العالمى والقومى ، يأتى فيكمل ذلك العنصر الأول لأنه يعنى اكتشافا للأصالة وتمكينا للتاريخ القديم من أن يترابط مع التاريخ المعاصر .
إنه عملية إحياء للتراث ليس بمعنى نبش القبور للبحث عن الأصنام وإنما دفع بدم جديد فى جسد قادر على الحركة .
إنه يعنى تجديدا للذات التاريخية فى مواجهة ذلك الآخر الذى هو الغرب الإستعمارى أولا والكاثوليكية الإستفزازية ثانيا والماركسية المتحفزة ثالثا .
كل هذه الحقائق لابد وأن تقود إلى تأكيد الذات الذى يعنى المعرفة بالوظيفة الحضارية .
الإسلام هو المنظم لحركة الرفض ، هو المحور لأبعاد الوظيفة الحضارية ، وهو الجوهر الذى لابد وأن تنطلق منه العروبة القومية وهو بعبارة أخرى أكثر دقة وتحديدا هو الخالق لنظام القيم الذى يجب أن يسود تطوراتنا السياسية .
دكتور / حامد ربيع
كتاب (نظرية الأمن القومى العربى
والتطور المعاصر للتعامل الدولى فى منطقة الشرق الأوسط )
دار الموقف العربى . طبعة 1984 ص21
ومايصدر يومياً من قادتها من أحاديث متناقضة ،فلا سياسة ولا إقتصاد بل التردى المستمر فى مشاكل تأخذ بيد الوطن إلى صراعات وإنشقاقات وهزائم متتالية .
فلنقرأ :إن تطور المنطقة العربية لا بد وأن يقودنا إلى مفهوم الإسلام المكافح والإسلام كحركة تحرر فى العالم المعاصر ينطلق من ظواهر ثلاث لابد وأن تتكامل ليتكون من مجموعها نسيج واحد للتعامل الحركى ؛ اصلاح ، اكتشاف الذات، تأكيد للإرادة الواعية .
لابد من اصلاح النظام السياسى الإسلامى لا فقط كأسلوب للتعامل بين الحاكم والمحكوم بل كعقيدة من حيث التصور والإدراك للنظام الإجتماعى .
بل إن هذا الإصلاح يجب أن يتسع ليشمل إعادة كتابة الفقه .قفل باب الإجتهاد أضحى لغوا لامعنى له .
محاولات الخمينى لاتزال تحمل طابعا بدائيا بحيث لايمكن الاعتماد عليها فى بناء نظامى يتفق والواقع المعاصر .
البحث عن الذات واكتشاف حقيقة تلك الذات على المستوى الاجتماعى والفردى ، العالمى والقومى ، يأتى فيكمل ذلك العنصر الأول لأنه يعنى اكتشافا للأصالة وتمكينا للتاريخ القديم من أن يترابط مع التاريخ المعاصر .
إنه عملية إحياء للتراث ليس بمعنى نبش القبور للبحث عن الأصنام وإنما دفع بدم جديد فى جسد قادر على الحركة .
إنه يعنى تجديدا للذات التاريخية فى مواجهة ذلك الآخر الذى هو الغرب الإستعمارى أولا والكاثوليكية الإستفزازية ثانيا والماركسية المتحفزة ثالثا .
كل هذه الحقائق لابد وأن تقود إلى تأكيد الذات الذى يعنى المعرفة بالوظيفة الحضارية .
الإسلام هو المنظم لحركة الرفض ، هو المحور لأبعاد الوظيفة الحضارية ، وهو الجوهر الذى لابد وأن تنطلق منه العروبة القومية وهو بعبارة أخرى أكثر دقة وتحديدا هو الخالق لنظام القيم الذى يجب أن يسود تطوراتنا السياسية .
دكتور / حامد ربيع
كتاب (نظرية الأمن القومى العربى
والتطور المعاصر للتعامل الدولى فى منطقة الشرق الأوسط )
دار الموقف العربى . طبعة 1984 ص21
(12)
كان الطغاة يجودون برطل من القمح ونصف لتر من النبيذ وبدرهم وكان أمرا يدعو إلى الحسرة أن يعلو عند ئذ الهتاف :
عاش الملك!
فما كان يخطر على بال هؤلاء الأغبياء أنهم كانوا يستردون جزءا مما لهم ، وحتى هذا الجزء ما كان الطاغية ليجود به عليهم لولا سبقه إلى سلبهم إياه 0من يلتقط اليوم الدرهم ويأكل حتى التخمة مسبحا بحمد تيبريوس ونيرون وبسخاء عطائهما لاينبس بحرف يزيد عما ينبس به الحجر ولاتصدق عنه خلجة تزيد عما يصدر عن الجذع المقطوع حين يرغم غداً على أن يترك أملاكه لجشع هؤلاء الأباطرة المفخمين وأطفاله لشهواتهم ، لا بل دمه نفسه لقسوتهم .
ذلك كان شأن الشعب الجاهل دائما : مفتوح الذراعين مستسلما للذة التى كانت الأمانة تقتضى بالإمساك عنها ، فاقد الإحساس بالغبن والألم اللذين كانت الأمانة تستدعى الشعور بهما 0
إنى لا أرى اليوم أحدا يسمع حديثا عن نيرون إلا ارتعد لمجرد ذكر اسم هذا المسخ الكريه ، هذا الوباء الشنيع القذر الذى لوث العالم أجمع ، ومع هذا فلاسبيل إلى إنكار أن هذا السفاح ،هذا الجلاد ، هذا الوحش الضارى حين مات ميتة لاتقل خزيا عن حياته قد أثار بموته هذا حزن الشعب الرومانى النبيل الذى راح يتذكر ألعابه وولائمه حتى أوشك على الحداد –هذا ماكتبه كورنيليوس تاسيت ، وهو مؤلف جاد محقق فى طليعة من يوثق بهم.
ولا أظننا سنعجب لذلك كثيرا إذا تذكرنا ما صنعه هذا الشعب من قبل حين مات يوليوس قيصر الذى استهان بالقوانين وبالحرية معا والذى لا أرى فى شخصه مزية ما لأن انسانيته التى كثر الحديث عنها فى كل معرض ومقام كانت أبلغ ضررا من قسوة الوحوش الضارية ، فالحقيقة هى أن هذه الحلاوة المسمومة هى التى سكرت طعم العبودية لدى الشعب الرومانى ، ولكنه ما إن مات حتى شرع هذا الشعب ولماتزل ولائمه بفمه وعطاياه بذاكرته فى تكريمه وتكديس المقاعد المنتشرة فى الميدان العام ليوقد منها النار التى تحوله ترابا ثم بنى له نصبا تذكريا ملقبا إياه بأبى الشعب (هذا ما جاء بعالية النصب ) وأبدى له من مظاهر التشريف ميتا مالم يكن ينبغى إبداؤه لحى إلا إذا أردنا أن نستثنى قاتليه ، ثم لقب وكيل الشعب ،هذا أيضا لم ينس الأباطرة الرومان التلقب به الواحد بعد الآخر لما كان لهذه الوظيفة من الحرمة والقداسة ثم لأن القانون اقتضاها للدفاع عن الشعب وحمايته فى ظل الدولة .
بذا أرادوا اكتساب ثقة الشعب كأنما كان هم هذا الأخير هو سماع الاسم لا الشعور بنتائجه .
وما يحسن عنهم صنعا طغاة اليوم الذين لا يرتكبون شرا مهما عظم دون أن يسبقوه بكلام منمق عن خير الجماعة وعن الأمن العام :
لأنك تعلم حق العلم ، يا لونجا ، ثبت الصيغ المحفوظة التى يريدون بها تغذية فصاحتهم وإن جانبت الفصاحة غالبيتهم لنفورها من وقاحتهم.
كان ملوك آشورومن بعدهم ملوك ميديا لا يظهرون علانية إلا بعد وقت متأخر بقدر المستطاع ليتركوا الجمهور فى شك أهم بشر أم شىء يزيد وليسلموا لهذه الأحلام أناسا لا ينشط خيالهم إلا حيث يعجزون عن الحكم على الأشياء عيانا .
هكذا عاشت فى ظل الأمبراطوية الآشورية شعوب متعددة ألفت خدمة السيد الغامض وخدمته طائعة بمقدار جهلها أى سيد يسودها ، لا بل هى كانت لاتكاد تعلم إن كان لمثل هذا السيد وجود فخشيت جميعها بعين الاعتقاد واحدا لم يره أحد قط.
كذلك ملوك مصر الأوائل كانوا لايظهرون علانية إلا وقد حملوا على رؤوسهم حينا قطا وحينا فرعا وحينا نارا ، تقنعوا بها وتبرجوا كالمشعوذين وبذا أثاروا بغرابة المنظر المهابة والإعجاب فى نفوس رعاياهم ، وكان أجدر بالناس لولا فرط حمقهم وعبوديتهم ألا يروا فى هذا كله ، على ما أعتقد ، إلا مدعاة للهو والضحك .
إنه لأمر يدعو إلى الرثاء أن نسمع بأى الوسائل تذرع الطغاة حتى بؤسسوا طغيانهم وإلى أى الحيل التجأوا دون أن تتخلف الكثرة الجاهلة فى كل زمان عن ملاقاتهم فلا يرمون شبكة إليها إلا ارتموا فيها وخلا تغريرهم بها من المشقة حتى أنهم إنما ينجحون فى خداعها أكبر النجاح حين يسخرون منها أكبر السخرية .
(13)
ثم ماذا أقول عن مخرقة أخرى تلقفتها الشعوب القديمة كأنها نقد لازيف فيه ؟لقد دخل فى إعتقادها أن إبهام بيروس ملك الإيبيريين كان يصنع المعجزات ويشفى مرض الطحال ، ثم جملوا القصة فأضافوا ان هذه الأصبع قد ظهرت سليمة وسط الرماد لم تصبها النار بأذى بعد أن احترق الجسد كله .
هكذا يصنع الشعب نفسه الأكاذيب كيما يعود وليصدقها ، هذه الحكايات قد سجلها كثير من الناس ولكن على نمط لا يترك مجالا للشك فى أنهم لم يعدوا نقلها عما تردد فى جلبة المدن وعلى أفواه العامة .
منها أن فاسبا سيان رجع من آشور فمر بالأسكندرية متوجها إلى روما فصنع فى طريقه المعجزات :
قوم العرج ورد البصر إلى الأعمى وأتى عجائب أخرى من هذا القبيل لا يغفل فى رأيى عن زيفها إلا من أصابه عمى يغلب عمى الذين ينسب إلى فاسباسيان شفاؤهم .
إن الطغاة أنفسهم يعجبون لقدرة الناس على احتمال ما يصبه على رؤوسهم من الإساءة لإنسان مثلهم ، لهذا احتموا بالدين واستتروا وراءه ، ولو استطاعوا لاستعاروا نبذة من الألوهية سندا لحياتهم الباطلة .
إليك بسالمونيوس الذى تروى العرافة، فى ملحمة فرجيل، أنه يرقد الآن فى قاع الجحيم عقابا له على هزئه بالناس إلى حد جعله يريد تقمص جوبيتر أمامهم ،
لحقه شديد العذاب إذا ابتغى ،
محاكاة جوبيتر رعده ،
فشد أربعة جياد صواهل إلى عربته الفانية ،
ثم علاها ممسكا بشعلة من النار الساطعة ،
وجرى فى سوق اليدا ناثرا الرعب بين سكانها ،
المجنون إدعى ملك السماء وإدعى بالصاج ،
محاكاة الرعد الذى يأبى دويه المحاكاة ؛
ولكن جوبيتر رماه بالصاعقة الحقة ،
فقلب عربته فى زوبعة من النار .
غطتها هى وجيادها وبها وصاعقته .
كان النصر قصيرا ولكن العذاب مقيم .
فإذا كان هذا المأفون لا يزال يلقى هذا العقاب فى الدار الأخرى بينما هو لايعدو أن ركبته نزوة من الحمق فيقينى أن من تذرعوا بالدين تحقيقا لشروهم ينتظرهم كيل أعظم .
أما طغاتنا نحن فقد نثروا فى فرنسا رموزاً لا أدرى كنهها كالضفادع والزنابق والقارورة والشعلة الذهبية ، وكلها أشياء لا أريد أيا كانت ماهياتها أن أثير التشكك فيها ما دمنا ومادام أجدادنا لم نر مدعاة للارتداد عن تصديقها إذ وهبنا على الدوام ملوكا طيبين فى السلم شجعان فى الحرب حتى ليخال المرء أنهم وإن ولدوا ملوكا لم تسوهم الطبيعة على غرار الآخرين وإنما اختارهم الله القادر على كل شىء قبل أن يولدوا لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها .
وحتى لو لم يكن الأمر كذلك لما أردت الخوض فى الحديث عن صحة قصصنا ولانقدها نقدا دقيقا حتى لا أفسد جمالا قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار وباييف وبلاى الذين لا أقول أنهم حسنوا شعرنا بل خلقوه خلقا جديدا وبذا تقدموا بلغتنا تقدما يجعلنى أجرؤ على الأمل فى ألا تعود بعد ذلك لليونانية واللاتينية مزية عليها سوى حق الأقدم .
فلا شك فى أنى سوف أسىء إلى نظمنا ( ولا أنكر أنى أستخدم هذه الكلمة طواعية لأنه إذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظم صنعة آلية فمن الحق أيضا أن هناك عددا كافيا من القادرين على استرجاع نبله ومقامه الأول )، أقول أنى أسىء إلى نظمنا لو أنى جردته من حكايات الملك كلوفيس الجميلة بعد أن رأيت بأى رشاقة وسهولة يسبح فيها وحى رونسار فى فرنسوياته .
إنى أحس أثر الرجل فى المستقبل ، إنى أعرف توقد فكره وأعلم لطفه :
لسوف يوفى الشعلة الذهبية حقها مثلما صنع الرومان بدورعهم :
دروع السماء الملقاة على أرضنا
كما يقول فرجيل ، ولسوف يرفق بقارورتنا رفق الأثينيين بسلة اريكتون ولسوف يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد الأثينيون بغصن الزيتون الذى لا زلوا يحفظونه فى برج منيرفا .
لهذا كنت أتجاوز الحد يقينا لو أنى أردت تكذيب كتبنا وجريت فى مراتع شعرائنا .
ولكنى أعود إلى موضوعى الذى لا أدرى كيف أفلت منى خيطه ألحظ أن الطغاة كانوا يسعون دائما كيما يستتب سلطانهم إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب بل بالإخلاص كذلك .
_فكل ماذكرت حتى الآن عن الوسائل التى يصطنعها الطغاة ليعلموا الناس كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب .
إنى أقترب من نقطة هى التى يكمن فيها على ما أعتقد زنبلك السيادة وسرها ويكمن أساس الطغيان وعماده .
إن من يظن أن الرماحة والحرس وأبراج المراقبة تحمى الطغاة يخطىء فى رأيى خطا كبيرا .
ففى يقينى أنهم إنما يعمدون إليها مظهرا وإثارة للفزع لا ارتكانا إليها .
فالقواسة تصد من لاحول لهم لاقوة على اقتحام القصر ولكنها لا تصد المسلحين القادرين على بعض العزم .
ثم أن من السهل أن تتحقق أن أباطرة الرومان الذين حماهم قواسوهم يقلون عددا عمن قتلهم حراسهم .
فلا جموع الخيالة ولافرق المشاة ولا قوة السلاح تحمى الطغاة .
(14)
الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى ولكنه الحق عينه ؛ هم دوما أربعة أو خمسة يبقون الطاغية فى مكانه ،أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية ،فى كل عهد كان ثمة أربعة أوخمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية ، يتقربون منه أو بقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نهب .هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع لابشروره وحدها بل بشروره وشرورهم .
هؤلاء الستة ينتفع فى كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية ، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع ، يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم وإما التصرف فى الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا بهم متى شأوا تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لايجعل لهم بقاء إلا فى ظلهم ولابعدا عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم .
ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك !إن من أراد التسلى بأن يتقصى هذه الشبكة وسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن الملايين يربطهم بالطاغية هذا الجبل ، مثل جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب إليه الآلهة جميعا.
من هنا جاء تضخم مجلس الشيوخ فى عهد يوليوس قيصر وجاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه ،كل هذا يقينا لا من أجل إصلاح العدالة بل أولا وأخيرا من أجل أن تزيد سواعد الطغاة .
خلاصة القول إذن ،هى أن الطغاة تجنى من ورائهم حظوات وتجنى مكاسب ومغانم فإذا من ربحوا من الطغيان ،أو هكذا هيىء إليهم ،يعدلون فى النهاية من يؤثرون الحرية .
فكما يقول الأطباء أن جسدنا لايفسد جزء منه إلا انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء الفاسد دون غيره كذلك ما إن يعلن ملك عن استبداده بالحكم إلا التف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها ، وما أعنى بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لايملكون لبلد نفعا ولاضرا بل أؤلئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد .يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين فى ظل الطاغية الكبير .
هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة ؛ فريق يستكشف البلد وفريق يلاحق المسافرين ، فريق يقف على مرقبة وفريق يختبىء ، فريق يقتل وفريق يسلب . ولكنهم وإن تعددت المراتب بينهم وكانوا بعضا توابع وبعضا رؤوساء إلا أنه من أحد منهم إلا خرج بكسب ما ، إن لم يكن بالغنيمة كلها فيما انتشل .
ألا يحكى أن القراصنة الصقليين لم تبلغ فقط كثرة عددهم حدا لم يجعل بدا من ارسال بومبى أعظم قواد العصر لمهاجمتهم بل هم فوق ذلك قد جروا إلى التحالف معهم عددا كبيرا من المدن الجميلة والثغور العظيمة التى كانوا يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أسلابهم؟
هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض ، يحرسه من كان أولى بهم احتراس منه لو كانوا يساوون شيئا ، وهكذا يصدق المثل : لايفل الخشب إلا مسمار من ذات الخشب .
هاهو ذا يحيط به قواسته وحراسه وحاملو حرباته ، لا لأنهم يقاسون الأذى منه أحيانا بل لأن هؤلاء الضالين الذين تخلى الله عنهم وتخلت الناس يستمرئون احتمال الأذى حتى يردوه إلى من أنزل بهم بل إلى من قاسوه مثلهم دون أن يملكوا إلا الصبر .
غير أنى إذ أنظر إلى هؤلاء الناس الذين يجرون وراء كرات الطاغية لتحقيق مآربهم من وراء طغيانه ومن وراء عبودية الشعب على حد سواء يتملكنى أحيانا كثيرة العجب لرداءتهم وأرثى أحيانا لحماقتهم :
فهل يعنى القرب من الطاغية فى الحقيقة شيئا آخر سوى البعد عن الحرية واحتضانها بالذراعين ؟ إذا جاز التعبير ، ليتركوا ولو حينا مطامعهم ، وليتجردوا ولو قليلا من بخلهم ، ولينظروا بعد ئذ إلى أنفسهم وليقبلوا على معرفتها ؛لسوف يرون عند ئذ أن أهل القرى والفلاحين الذين يحلو لهم دوسهم بالأقدام طالما استطاعوا وتحلولهم معا ماتهم معاملة أشر من معاملة السخرة والعبيد ، سوف يرون أن هؤلاء المستضعفين هم مع ذلك أسعد حظا وأوفر حرية بالقياس إليهم .فالأجير والحرفى وإن استعبدا يفرغان مما ضرب عليهما بأداء ما يطلب إليهما .ولكن الطاغية يرى الآخرين يتزلفون إليه ويستجدون حظوته ، فعليهم لا العمل بما يقول وحسب بل عليهم أيضا التفكير فيما يريد وغالبا ما يحق عليهم أن يحدسوا ما يدور بخلده حتى يرضوه .فطاعتهم له ليست كل شىء بل تجب أيضا ممالأته والإنقطاع له ويجب أن يعذبوا أنفسهم وأن ينفقوا فى العمل تحقيقا لمراميه .
ثم لما كانت نفوسهم لا تلذ لهم إلا إذا لذت له ،فليتركوا أذواقهم لذوقه وليتكلفوا ما ليس منهم وليتجردوا من سليقتهم ، عليهم الانتباه لكلماته وصوته ولما يبدو منه من العلامات ولنظراته ، لينزلوا عن أعينهم وعن أرجلهم وأيديهم وليكن وجودهم كله رصدا من أجل تجسس رغباته وتبين أفكاره .
أهذه حياة سعيدة ؟
أتسمى هذه حياة ؟
هل فى الدنيا شىء أقسى احتمالا ، لا أقول على رجل ذى قلب ولاعلى إنسان حسن المولد وإنما على كائن حظى بقسط من الفهم العام أو له وجه إنسان لا أكثر ؟
أى وضع أشد تعسا من حياة على هذا النحو لايملك فيها المرء شيئا لنفسه،مستمدا من غيره راحته وحريته وجسده وحياته ؟
(15)
لكنهم يريدون العبودية ليجنوا من ورائها الأملاك : كما لو كان فى مستطاعهم أن يغنوا شيئا بينا هم لايستطيعون أن يقولوا أنهم يملكون أنفسهم .يريدون لو حازوا الأشياء كأن للحيازة متسعا فى ظل الطاغية ويتناسون أنهم هم الذين أعطوه القوة على أن يسلب الجميع كل شىء دون أن يترك لأحد شيئا يمكن القول أنه له.
إنهم يرون أنه ما من شىء يعرض الناس لقسوته مثل الخير وأنه لا جريمة نحوه تستحق الموت فى نظره كحيازة ما يستقل به المرء عنه .
إنهم يرون أنه لا يجب إلا الثروات ولا يكسر إلا الأثرياء –وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الجزار كى يمثلوا بين يديه ملأى مكتنزتين ولكى يستثيروا جشعه .
هؤلاء المقربون قد كان أولى بهم ألا يتذكروا من غنموا من الطغاة والحياة جميعا .
كان أولى بهم أن يعظوا لا بالكثرة التى أثرت بل بالقلة التى استطاعت الاحتفاظ بما كسبت .
لنستعرض كل القصص القديمة ولنسعد تلك التى تعيها ذاكرتنا :
لسوف نرى ملء عيوننا إلى أى مدى كثر الذين اجتذبوا آذان الطاغية بطرق بخسة محركين سوء جبلتهم أو مستغلين غفلتهم ثم إذا هم بعد ذلك يسحقون فى النهاية سحقا بأيدى الأمراء أنفسهم ، لايعدل مقدار السهولة التى علوهم بها إلا بمقدار ما خبروه من انقلابهم إلى ضربهم .
هذا العدد الغفير من الناس الذين عاشوا فى حمى هذه الكثرة من الملوك الأرذال لم يسلم منهم يقينا إلا القليل ، إن لم نقل لم يسلم منهم أحد ، من قسوة الطاغية التى بدأوا بتأليبها ضد الآخرين :
ففى معظم الأحيان يثرى الغير بما يسلبون بعد أن أثروابما سلبوا فى ظل ما تمتعوا به من الحظوة .
أما القوم الأفاضل ، لو وجد بينهم رجل يحبه الطاغية ، فهم مهما نالوا من حظوته ومهما أشرقت فيهم الفضيلة والنزاهة اللتان لايقربهما أحد ولو كان أردأ الناس صنفا إلا أثارتا فيه بعضا من الإحترام ، هؤلاء القوم لا دوام لهم فى كنف الطاغية :
فهم يؤولون إلى ما آل إليه الجميع ولا يجدون مفرا من أن يعرفوا بخبرة مرة ما هو الطغيان .
خذ مثلا هؤلاء الثلاثة الأفاضل :سينيكا وبوروس وترازياس .
الأولان منهما كان من نكد طالعهما أن عرفا الطاغية فترك لهما إدارة أشغاله وأكن لهما التقدير والإعزاز ، خاصة وأن أولهما كان قد تعهده فى طفولته وكان له فى ذلك ضمان لصداقته ، ولكن ثلاثتهم يشهد موتهم الأليم شهادة كافية بأن حظوة السيد الردىء ليس أقل من ضمانها .
وفى الحق أى ضمان يرتجى من رجل قسا قلبه حتى شمل كرهه مملكته المذعنة لأمره ونضبت فيه معرفة الحب فلم يعد يعرف إلاكيف يعدم نفسه ويدمر امبراطوريته ؟
فلو قلنا أن هؤلاء الثلاثة إنما تردوا فى هذه العواقب لحسن خلقهم كفى أن نسدد النظر حول نيرون لنرى أن الذين لقو حظوته واستقروا فيها بأرذل الوسائل لم يدم زمنا .
من الذى سمع عن حب استسلم له صاحب بلا حد ؟
عن إعزاز بلا قيد؟
من الذى قرأ فى أى زمن من الأزمنة عن رجل ولع بإمرأة ولهاعنيدا ملازما كولع نيرون هذا قبل يوبيا ؟
ثم بعد ئذ دس لها السم !
ألم تقتل أمه أجريبينا زوجها كلوديوس حتى تفسح له الهيمنة على الامبراطورية؟
ألم تبذل ما وسعت ؟
ألم تقبل طواعية على كل إثم إعلاء له ؟
ومع هذا ما لبث ابنها هذا ، رضيعها ، امبراطورها الذى صنعته بيدها ، ما لبث أن جحدها مرارا أن انتزع حياتها فى النهاية ، وأنه لعقاب ما كان أحد ينكر أنه جزاؤها المستحق لو أن يدا أخرى أنزلته بها غير يد من مكنته.
أى رجل كان أسهل انقيادا وأكثر سذاجة أو بالأصح أكثر بلها من الأمبراطور كلوديوس؟
أى رجل ركبته إمرأة مثلما ركبته مسالينا ؟؟؟؟؟
ومع هذا أسلمها أخيرا ليد الجلاد !
إن الغباوة تلازم الطغاة دائما حتى حين يريدون اسداء الحسن إذا أرادوا اسداءه ، ولكنهم حين يريدون البطش بالمقربين إليهم يسيتقظ فيهم لا أدرى كيف القليل من فصاحتهم ؟
ألا تعلم هذه النادرة التى فاه بها هذا الذى رأى صدر المرأة التى شغف بها أيما شغف حتى بدا كأنه لايستطيع الحياة بدونها ، رأه عاريا فداعبها بهذه المزحة :
هذا العنق الجميل قد يقطف قريبا لو أردت!
لهذا كان معظم الطغاة القدامى يلاقون حتفهم على أيدى المقربين إليهم الذين إذ عرفوا طبيعة الطغيان، لم يستطيعوا الاطمئنان إلى إرادة الطاغية بقدر ما حذروا قوته .
هكذا قتل دوميسيان أتين وقتلت كومودس إحدى محظياته كما قتل أنطونان على يد مارسان ، وهكذا فى سائرهم .
إن من المستيقن أن الطاغية لايلقى الحب أبدا ولا هو يعرف الحب .
فالصداقة اسم قدسى وجوهر طاهر ، إنها لا تعرف لها محلا إلا بين الأفاضل ولاتؤخذ إلا بالتقدير المتبادل وليس بإغداق النعم .
فالصديق إنما يأمن إلى الصديق لما يعرقه من استقامته ، ضمانته هى استقامته وصدق طويته وثباته .
فلا مكان للصداقة حيث القسوة ، حيث الخيانة ،حيث الجور .
فالأشرار إذا اجتمعوا تآمروا ولم يتزاملوا ، لاحب يسود بينهم وإنما الخشية ، فما هم بأصدقاء بل هم متواطئون .
(16)
وحتى لو صرفنا النظرعن هذه العوائق لتبينا أن من الصعب ان يضم فؤاد الطاغية حبا يوثق به،لأنه إذ علا الجميع وعدم رفيق قد خرج بهذا عينه عن حدود الصداقة التى مقعدها الحق هو المساواة والتى تأبى دوما التعثر فى خطواتها المتساوية أبداً.
لهذا ترى (فيما يقال) شيئاً من القسط بين اللصوص عند اقتسام الغنيمة لأنهم متزاملون متكافلون ، وإذا كانوا لايتبادلون الحب فهم على الأقل يتبادلون الحذر ولايرغبون فى إضعاف قوتهم بالتفرق بدل الوحدة .
أما الطاغية فما يستطيع المقربون إليه الاطمنئان إليه أبداً مادام قد تعلم منهم أنفسهم أنه قادر على كل شى وأنه لاحق ولا واجب يجبرانه ومادام تعريفه صار يقوم فى اعتبار إرادته العقل وفى إنتفاء كل نظير وسيادة الجميع.
أليس أمرأً يدعو للرثاء أن كل هذه الأمثلة الواضحة وهذا الخطر الدائم لاتدعو إليه أحداً إلى الإ تعاظ بها وأن يتقرب من الطاغية طواعيةً هذا العدد الغفير من الناس دون أن يجد أحد الحصافة اللتين تمكناه من أن يقول ما قاله الثعلب، على ماورد فى الحكاية ،للأسد الذى اصطنع المرض؛كنت أزورك طواعية فى عرينك لولا أنى أرى وحوشاً كثيرة تتجه آثارها قدماً إليك وما أرى أثراً يعود"
هؤلاء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية وينظرون مشاهد بذخه وقد بهرتهم أشعتها فإذا هذا الضوء يغريهم فيقتربون منه دون أن يروا أنهم إنما يلقون بأنفسهم فى اللهب الذى لن يتخلف عن إهلاكهم.
هكذا كان الساتير الطفيلى الذى تحكى الحكاية أنه شاهد النار التى اكتشفها بروميثيوس وهى تضىء فرأى لها جمالا ًفائقاً فذهب يقبلها فاحترق.
مثله مثل الفراشة التى تلقى بنفسها فى النار أملاً فى الحظوة بلذة من نورها فإذا هى تعرف قوتها الأخرى ؛ قوتها الحارقة، كما يقول الشاعر التسكانى.
ولكن لنفرض أن هؤلاء الأغرار يفلتون من قبضة من يخدمون ، أيعلمون أى ملك آت من بعد؟
إذاكان طيباً وجبت الإجابة عما صنعوه،ولما صنعوه، وإذا كان سيئاً شبيهاً بسيدهم فلسوف يصحبه أيضا أتباعه الذين لايقنعون بالاستحواذ على مكان الآخرين بل تلزمهم أيضا فى معظم الأحايين أملاكهم وحياتهم.
أيمكن إذن،وهذا مدى التهلكة ومدى قلة الأمن أن يكون هناك إمرؤ يرغب فى ملءهذا المكان البائس هذا، أيها الرب الحق!
أن يقضى المرء النهار بعد الليل وهو يفكر كيف يرضى واحداً بينا هو يخشاه مع ذلك أكثرمما يخشى أى إنسان آخر على وجه البسيطة.
(17)
أن يكون عيناً دائمة البص وأذنا تسترق السمع حتى يحدث مأتى الضربة القادمة وموقع المصائد وحتى يقرأ فى وجوه أقرانه أيهم يغدر به،يبتسم لكل منهم وهو يخشاهم جميعا ،لاعدوا سافرا يرى ولاصديقا يطمئن إليه،الوجه باسم والقلب دام، لاقبل له بالسرور ولاجرأة على الحزن!.
ولكن الأغرب هو أن نرى ما يعود عليهم من هذا العذاب الشديد والكسب الذى يستطيعون توقعه من مكابدتهم وحياتهم البائسة.
فالذى يقع هو أن الشعب لايهتم بالطاغية أبدا بما يقاسيه وإنما ينسبه طواعية إلى من سيطروا عليه؛ هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوب والأمم ويعرفها العالم قاطبةً حتى الفلاحين والأجراء، يعرفونها ويصبون عليهم ألف قذيعة وألف شتيمة وألف سبة، كل أدعيتهم وأمانيهم تتجه ضدهم،كل ما يلحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم،فإن تظاهروا أحياناً بتبجيلهم سبوهم معا فى قلوبهم ونفروا منهم كما لاينفرون من الوحوش الكاسرة .
هذا هو الشرف وهذا هو المجد اللذان ينالون جزاء على ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزءاً من أجسادهم لما إجتزأ ولارأى نصف عزاء عن شقائه،فإن أدركهم الموت لم يتوان من يجىء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم يسود بمداده أسماء آكلى الشعوب هؤلاء ويمزق سمعتهم فى ألف كتاب،وحتى عظامهم ذاتها،إذا جاز هذا التعبير،يمرغها فى الوحل عقابا لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم.
لنتعلم إذن، لنتعلم مرة أن نسلك سلوكاً حسنا.
لنرفع أعيننا إلى السماء بدعوة من كرامتنا أو من محبة الفضيلة ذاتها أو إذا أردنا الكلام عن علم فيقينا بدعوة من محبة الله القادر على كل شىءوتبجيله،ولهو الشاهد الذى لايغفل عن أفعالنا والقاضى العادل فى أخطائنا.
أما فيما تعلق بى فإنى لأرى ،ولست بالمخدوع مادام لاشىء أبعد عن الله الغفور الرحيم من الطغيان ،إنه يدخر فى الدار الأخرى للطغاه وشركائهم عقاباً من نوعٍ خاص.
****************
انتهى مقال فى العبودية المختارة ..
للمؤلف إتين دى لابويسيه
المولود فى 1/11/1530م بمدينة سارلا على الجنوب من ليموج وإلى الشرق من بوردو بفرنسا
ومات فى 18/8/1562م
للمؤلف إتين دى لابويسيه
المولود فى 1/11/1530م بمدينة سارلا على الجنوب من ليموج وإلى الشرق من بوردو بفرنسا
ومات فى 18/8/1562م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق