بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 ديسمبر 2014

أيامنا المنسية فى أندريا

"فقلتُ وأنا مبلبلٌ مضطربٌ:
أين بياتريشى ؟"

دانتى
الكوميديا الإلهية
المطهر ..الأنشودة 32السطر 85
.....................
وبوجهٍ هادئٍ قالت لى : "هلا تسارع الخطى حتى تصبح فى موضعٍ ملائمٍ للإصغاء إلىّ إذا ماخاطبتك."ولما صرتُ إلى جانبها امتثالاً لكلمتها ،قالت لى :"يا أخى ،لما لا تجترئ على سؤالى مادمت تسير بجوارى الآن؟"وكما يحدث لمن يتكلمون باحترام بالغ أمام من يعلونهم قدراً ،فلاتتجاوز أصواتهم المنبعثة حدّ شفاههم 
هكذا حدث لى ،فبدأت أتكلم بصوتٍ مقطعٍ :"إنك يامولاتى عليمةٌ بحاجتى ومايطيبُ لها".
دانتى
الكوميديا الإلهية
المطهر
الأنشودة 33السطر من 19حتى 30
ترجمة حسن عثمان


(1)

اندهشت زوجتى ..وتلفتت يميناً ويساراً تبحث عن الذى يصطحبها ثم فجأة لم تجده بجوارها ،فتوقفت عن المضى فى السير ثم تقهقرت خطوات عديدة للبحث عنى فترانى متسمراً امام مبنى مجلس المدينة الذى يقع بين مديرية أمن المنصورة وكافتيريا أندريا ،وأنا أشرئب برأسى متأملاً المبنى الأثرى وطرازه المعمارى الفريد الذى يجمع بين الفن القوطى والروكوكو.

ولما شعرت بوجودها بالقرب منى ..إلتفت ضاحكاًوقلتُ لها: طراز معمارى فريد فرغم مرورى من أمامه من سنوات إلا أننى لم أكن أعيره انتباهاً ورغم جلوسى المحبب إلى نفسى على كافتيريا أندريا إلا أننى كنت مشغولاً عن رؤيته والتدقيق فى عمارته الفريدة .
فردت علىّ وصوتها يشى بالغضب : أنا كنت أتكلم معك وفجاة نظرت حولى لم أجدك فوقع قلبى من صدرى ..فيه إيه المبنى بقى لنا سنين نمر عليه وعموماً سأقول لك ما أعرفه.

كنا قد قربنا من منزلهم على بعد عشرات الأمتار ،وكنت أسكن فى إحدى شققه لحين إعداد شقتنا .
لكنى أوغلت فى شرحى ولم أتوقف عن الكلام ولم أتحرك من وقفتى ورأسى تنظر للمبنى ويملؤنى الإعجاب والدهشة والكلام يخرج من فمى كالمطر:

شوفى البحر والسماء الصافية وعبقرية الجمال فى الفن المعمارى ،فكأن المهندس أدرك الفراغ الذى يطل علي المبنى وإتساع البحر أمامه والسماء التى تعلوه ،فأراد أن يجمع بينهم فى وحدة معمارية متميزة تتناغم فيها زرقة السماء وصفاء المياه وشموخ المبانى واتساع الفضاء الذى يحيط به واللون الأبيض الذى دهن به البناء من أسفل حتى أعلى .

ولم تطل وقفتى فسحبتنى زوجى وقالت: دقائق وارجع واقعد أمامه وقل فيه مابدالك ..وكافتيريا أندريا مفتوحة لأنصاص الليالى .

طاوعتها ولم أبد أى مقاومة وسرت معها منقاداً لا ألوى على شىء ،متذكراً ماقاله ألبرت أنشتاين "عندما أكون مع زوجتى فى الشارع تعاملنى كطفل فتسحبنى ،و فى البيت تعاملنى كقطعة أثاث".


(2)
وسحبتنى زوجتى ..لكنها حاولت أن تحتوينى ،فى أثناء سيرى ،فتدفق الكلام يحكى ويقص عن هذا المبنى فقالت :

"هذا المبنى من الآثار التاريخية العريقة ربما يعود بناؤه للفترة التى أُفتتحت فيها قناة السويس أى من حوالى 150سنة أو أكثر . وربما بُنى فى نفس الفترة التى تم فيها بناء الأوبرا الخديوية بالقاهرة .

ويضم مسرحاً ضخماً على مساحة كبيرة وجميل جداً يشمل الدور الأرضى والبدروم ،وكثيراً مادخلته لأشهد حفلات أو مسرحيات .
ومن أجمل مافيه أن هناك خريطة أمام قاطع التذاكر موضح فيه جميع الكراسى والبنوارات ولك حرية الاختيار فيما ترغب للجلوس فيه .

مكان تشعر فيه بالفخامة والنظام والنظافة وعبق التاريخ الذى يشدك إلى الماضى والخديو إسماعيل يسعى ان تكون مصر قطعة من أوربا،والأجمل إطلالته على بحر المنصورة "فرع دمياط"لنيل مصر المحروسة .
كنت شديدة الافتتان به ،فما أسمع عن عرض يقدم عليه إلا وأقوم بالحجز فيه ..ولقربه من بيتنا حوالى 300متر فلم يعترض والدى أو والدتى .

المبنى مكون، كما شاهدت ،من ثلاثة أدوار وبدروم (الأرضى وبه المسرح والأول والثانى كان مقر مجلس المدينة للمنصورة قبل أن تنقسم إلى حى غرب وحى شرق)المبانى عالية والأسقف مزخرفة والجدران عليها رسومات جميلة جداً .ويقال أن هذا المبنى الثرى العريق له سرداب أرضى يصل بينه وبين دارابن لقمان ..وهناك كنيسة أثرية تقع خلف هذا المبنى أو أبعد عنه قليلاً "

زوجتى تحكى وتحكى ...وأنا مشغول بالأوبرا الخديوية التى إحترقت فى ظروف غامضة فى سنة 1971م والكتاب القيم الذى كتبه آخر مدير للأوبرا صالح عبدون وعلى ما أتذكر بعنوان "صفحات من تاريخ أوبرا القاهرة ...عايدة ومائة شمعة " نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب" سنة 1973م من القطع الكبير وبه مئات الصور والوثائق حوالى 250صفحة .
أزعم أننى أحفظ بعض صفحاته وماكتبه صالح عبدون فى إهدائه:
"إلى ملهمة فيردى فى أوبرا عايدة:مصر الخالدة"
وسطعت الظنون بعقلى مسيطرة علىّ..
هل هناك من يحاول تدمير ذاكرتنا التاريخية ؟
وهل هم من الداخل أم من الخارج لتنفيذ خطة الإطاحة بالذاكرة التاريخية المغرقة فى القدم ومحاولة فرض تاريخ جديد على حياتنا تمهيداً لزرع تاريخ جديد يلعن تاريخنا وآثاره المتنوعة بكل عصوره المختلفة ؟؟

ما نقرأه ومانشاهده ..أن اللقيطة المغتصبة لفلسطين الحبيبة لاتكف عن عن البحث والتنقيب عن الحفريات كى تبحث لها عن مايربطها بأرض فلسطين والزعم بأنها أرضهم المقدسة التى وعدهم بها رب إسرائيل وأنها أرض ميعادهم التى بشرت بها التوراة .

ربما كان هذا الكتاب الرائع ،واطلاعى عليه فور نشره ،وحزنى المتنامى بداخلى من جراء حريق الأوبرا الخديوية ،تاريخ حافل بالفن والموسيقى والغناء والذكريات ، من الدوافع التى أخذت بيدى نحو القراءة فى تاريخ الفنون الرفيعة ومحاولة التعمق فى تحصيل أكبر قدر من المعلومات عن عمالقة فن الأوبرا والباليه والتصوير والنحت والعمارة والموسيقى السيمفونية والسعى الجاد للإستماع للموسيقى وتحليلات الدكتور حسين فوزى ،فى البرنامج الثانى ،بالإذاعة المصرية.وتجميع كتالوجات مصورة عن الروائع لهذه الفنون.فشغفى وولعى وعشقى لهذه الفنون الرفيعة لايزال قلبى ينبض بحبهم وعشقهم حتى الأيام الباقية من حياتى ..بل أتمنى ألا أبرء من هذا العشق ماحييت .
وانتبهت على صوت زوجتى وهى تقول لى :خد بالك ح تصطدم بباب البيت ..إحنا وصلنا .

(3)
"محمد المخزنجى والأربعون هكذا "..قلتها مبتسماً للدكتور محمد المخزنجى ..هذا المنصورى، الدمث الخلق والرقيق المشاعر والموهوب قصة قصيرة والقاص الشهير ،تعليقاً منى على قصة قصيرة منشورة له بمجلة القاهرة فى إصدارها الأول فى ثمانييات القرن الماضى .
كنا جلوساً حول ترابيزة بكافتيريا أندريا والقاص سعدالدين حسن والروائى الشهير جار النبى الحلو . وتطرق الحديث إلى الشعر والرواية والقصة القصيرة وعميدها المصرى يوسف إدريس والتأثير الواضح لتشيكوف فى قصص يوسف إدريس .
فالمخزنجى قد أصدر مجموعته القصصية القصيرة.. الآتى .. ثم بدأ فى نشر قصصه القصيرة وصار حديث النقاد .. وبعد توقف المجلات الأدبية وقتئذ "الثقافة والجديد والكاتب " تم إصدار مجلة القاهرة الأسبوعية فى حجم مجلة المصور فى عدة صفحات .
كتب فيها الكثيرون "شعراء وقصاصون وبحاثون.. أحمد زرزور ووليد منير و... و... و... و .
فالدكتور المخزنجى ..طبيب نفسي بمستشفى المنصورة للأمراض العصبية والنفسية وقبلها سافر إلى روسيا لتلقى العلم ، يحكى بعض حياته فى هذه البلاد أيام كان الإتحاد السوفيتى ملء العين والبصر وإحدى القوتين العظميين .

وجار النبى الحلو ..
هذا المحلاوى الجميل ..
هذا الحكاءالأصيل الممتع الوديع ،صاحب إبتسامة رقيقة عذبة لاتفارقه حتى وقت الشدائد وطوال الجلسة تظل أسير ابتسامة وبشاشة وجه لاتغادره ولذة متعة الاستماع التى تمس وجدانك وهو يقص كيف يكتب قصصه لمجموعته الرائعة "القبيح والوردة" .

وسعد الدين حسن ..
هذا الطنطاوى المعتز بشخصيته وثقافته والمُقل فى كتاباته جداً جداً ..
قد نشر مجموعته القصصية القصيرة "احترس القاهرة"عن مجلة الرافعى التى تُصدرها مديرية الشباب والرياضة بالغربية ومقرها 1عمارة الأوقاف بطنطا وحديثه الذى لاينضب المحبب عن نفسه وعن عبقريته الفذة التى لم ينتبه إليه أحدٌ ، ثم اتجاهه نحو البنيوية وترديد أسماء أعلامها وقد صارت حديث المثقفين فى القاهرة ..
فلماذا لايتكلم عنها بالمنصورة ؟

ودار الحديث عن المنصورة والحب الطاغى الذى يكنه أبناؤها كأنيس منصور وطال الحديث وتشعب وانصب معظم حديثى عن عباقرة الموسيقى بيتهوفن وشوبان وموزاروسيد درويش وتعلمى العزف على البيانو فى سالف أيامى ..وأكواب الشاى تدور بيننا والقهوة والسجائر .
وفجاة وجه الدكتور المخزنجى نظره جهتى وقال وهويضحك :عندما جلسنا قلت "محمدالمخزنجى والأربعون هكذا" تقصد إيه؟
فعلا وجهى الابتسام ونظر الجميع نحوى . وبدرت من جار النبى صرخة عابثة :ده بيفكرنى بعلى بابا والأربعين حرامى !!!
فقلت :العدد الفائت من مجلة القاهرة الأسبوعية نشرت لك قصة قصيرة بعنوان"هكذا" وهذا النوع من القصة نوع أدبى يتميز بالتكثيف والمباغتة وأزعم أننى اسميه لسعة النحلة وقد تكررت كلمة هكذا أربعون مرة...والقصة كلها لاتزيد عن 200كلمة ..وتكرار كلمة "هكذا "أفقد القصة روعتها ..وقد تعجبت كل التعجب أن المجلة نشرتها ولم تلحظ هذا التكرار الممل ،وأن الوقع الموسيقى للكلمة صار نشازاً مقلقاً منفراً .
فرد علىّ قائلاً :أتعد الكلمات ؟
قلت: نعم وأى قصة أقرؤها حتى أرى بكم كلمة استطاع الكاتب أن يقول مايريد وماهى الكلمة التى تتكرر أكثر من مرة ولماذا وهذا سر عبقرية المتنبى وشكسبير وتشيكوف وبودلير ورامبو وجوته ويوسف إدريس وغيرهم من القادة الإبداعيين على مستوى العالم .
فعقب قائلاً :ما أجمله هذا السعى نحو الجمال بكل أشكاله ..وأنت الذى تعيش بين القوانين والأحكام والقضاء والمحاكم والمحاماة !وأعدك بعدم نشر ال هكذا فى أى مجموعة قصصية والتدقيق مستقبلاً فيما أنشره،مادام هناك من يعد علينا الكلمات.

(4)
ساد الصمتُ وشملنا واتجهت أبصارنا إلى النيل العظيم الذى يمر أمامنا والسماءالصافية والنسمات العذبة .
ومن راديو أندريا صدح صوت فيروز :

لما لا أحيا وظل الورد يحيا فى الشفاه
ونشيد البلبل الشادى حياةً لهواه
لما لا أحيا وفى قلبى وفى عينى الحياه
سوف أحيا

يارفيقى نحن من نور إلى نور أتينا
ومع النجم أتينا ومع الشمس مضينا
أين مايُدعى ظلاماً يارفيق الروح أينا
إن نور الله فى القلب وهذا ما أراه
سوف أحيا

ليس سراً يارفيقى أن أيامى قليله
ليس سراً إنما الأيام بسمات طويلة
إن أردت السر فاسأل عنه زهرات الخميله
عمرها يوم ٌ وتحيا اليوم حتى منتهاه
سوف أحيا

وبدأ سعدالدين بتخيّر الكلمات واتخذ سمت العلماء وقال :
صوت فيروز من الأصوات الجميلة القوية التى لاتمل سماعها وهى والرحبانية استطاعوا أن يقدموا الأغنية القصيرة جداً.
وأنا زعيمُ لهذا الرأى الذى ينادى بها أنها أسطورة من أساطير الغناء العربى وجميع المثقفين يجدون فى أغانيها راحة وجمالاً وقوة ..رغم أن اللهجة اللبنانية قد لايعرفها المستمعون ..
وابتسم جار النبى فى طفولة عذبة وهتف :
دى حبيبيتى ..أنا باعشق أغانيها وأحياناً أبقى مشتاق أسمعها ..حتى أغنية سوف أحيا ..دى أغنية راااااااااااااااااااائعة جداً ومين صاحب كلماتها؟
فقلتُ على الفور :مرسى جميل عزيز .

يضع المخزنجى يديه على الترابيزة وبصوت لايكاد يُسمع إلا بصعوبة : أيام ماكنت فى روسيا ..وحدث انفجار مفعل تشيرنيوبيل ..
كنت أسمعها كثيراً وأنا سأكتب عن هذه الواقعة التى عشتها كاملةً .
(فعلاً بعد عدة سنوات صدر عن "مختارات فصول" كتاب "لحظات غرق جزيرة الحوت "
عن الهيئة المصرية العامة للكتاب" ويعد من أروع وأصدق ماكتبه المخزنجى عن حكايات تشيرنيوبيل")

وأخذتُ فى الحديث ..عندما رزقنى الله بابنتى ..كانت الأسماء المطروحة "بسمة وفيروز وشاهندة "
ففيروز من أنقى الأصوات وألحان الرحبانية وكلمات أغانيهاوألحانها تكتب لها الخلود .
وشاهندة اسم له مكانة خاصة فى عقلى .
وبسمة اسم لفتاة جميلة كنتُ أدرس لها اللغة الفرنسية فى سبعينيات القرن الماضى .
لكن اسم بسمة كان له الغلبة .
ومن مدة وبمكتبة الهيئة العامة للكتاب بطنطا، بأشهر ميادينها "ميدان الساعة " عثرت على كتاب رائع "جارة القمر ،فيروز ورحبانى والأغانى للشاعر فؤاد بدوى أصدرته الدار القومية للطباعة والنشر حوالى 260صفحة ،به مختارات من أغانى فيروز ودراسات تأليف فؤاد بدوى ..
هذا الكتاب وبحق لايفارقنى.. أحمله معى فى حلى وترحالى وأكاد أحفظ سطوراً كثيرة منه ..
أشعر أن حس الشاعر فؤاد بدوى مسيطر عليه سيطرة كاملة ويكتب بدماء قلبه وحبه الجارف لفيروز..وهو يهدى كتابه:
"إلى الصوت النبيل
فيروز
إلى الموسيقى والشعر
إلى عاصى ومنصور رحبانى
ف.ب"
ومقدمة الكتاب أحفظ بعض سطورها :
"الفجر يأتى كل فجر ...والشمس تطلع كل صباح لتسكب النور على أعالى الأشجار ..على قمم الجبال ..على السهول الفساح..على التلال ..على الحقول والبشر ..وفى المساء تذهب الشمس بعد أن ترسم فى السماء لوحات ألوانها ..الأرجوان والذهب والخجل .
ويأتى الليل ليخلق فوق الأرض عالمه الخاص ..سحره وأسراره ..ستارته وأوتاره ..فنه وأشعاره ."
يحكى قصة فيروز والرحبانية ..وأن فيروز تغنى بالعربية والفرنسية والإنجليزية ..صوت فيروز له القدرة على أن يغسل الأحزان ..وعندما تغنى فيروز يقف الجبل،وكل مكان ينور فيه صوتها يرتدى أثواباُ من الشفافية والخيال والحب ..يصنعها هذا الصوت الواصل بين السماء والأرض ،يعيش الناس فى صوتها أحلاماً حلوة وأوقاتاً سعيدة جميلة ويسبحون فى عالم من الأحلام السعيدة الناعمة ...
ويهتز المخزنجى طرباً ..ثم يقول ..أنا لم أر هذا الكتاب ويبدو أن النويهى يحدثنا عن فيروزه التى كان يود أن يسمى ابنته الصغيرة باسمها وأظنه الآن قد اسماها بسمة كما قال.
أليس كذلك ياسعد كما قلت لى ذات مرة أثناء وجودنا بالقاهرة ؟
وتلمع عينا جار ويقول :ده واقع فى غرام فيروز حتى شوشته ..وأنا أحسب نفسى الوحيد الذى يعشقها .

(5) 

القراءة فى شتى المجالات .. أخذت من عمرى الكثير ،وأزعم أننى منذ وعيت القراءة والكتابة، دأبت على الاطلاع على مكتبة والدى .
وهذه المكتبة حضير فوق السطوح يُبنى بالطوف والطوف طين مخلوظ بالتبن أو الساس والساس هو أعواد الكتان المكسرة أو الدريس وهو هشيم عيدان البرسيم الناشف .
ويتم بناؤها ثم تسقف بحصران الغاب البلدى وتركيب باب خشبى وتصير جحرة أشبه بالصومعة وبها كتب والدى مرصوصة فى جنباتها ومفروشة بالحصير وبها بعض المساند القطنية ،فهى قعدة عربى .

أتسلل فى غيبة والدى وأمرق خلسة بداخلها متأملاً الكتب والمجلات المرصوصة ،أجدمصاحف بأحجام متنوعة وأعداد مجلة روسيا اليوم ،وكتب للجميع ،ومجلة الهلال،ومجلة العربى الكويتية وبعض كتب العقاد وه حسين والمازنى وكتب التراث وذخائر العرب والفقه الحنفى والشافعى وكتب عن علم القراءات والتفاسير للنسفى والبيضاوى وابن كثير والقرطبى وسيرة ابن هشام والبخارى ومسلم ...مجلة مترجمة للعربية لا أذكر اسمها ..وبعض أعداد صحيفة الأهرام ..وأندمج بكليتى فى تقليب الكتب والمجلات، بتقديس وتبجيل وبرهبة الخاشع أفتح صفحات البعض منها .

وفجأة أجد جدتى "أم أبى "بجوارى ..فيكاد يغُشى علىّ من هول الصدمة .
من الذى يجرؤ على الدخول لهذه الصومعة والعبث بمحتوياتها؟
وكيف دخلت فيها؟

هى سر أسرار والدى وبها كتب متوراثة عن الجدود عن السحر والسحرة والعفاريت والشياطين وكتابة الأعمال وفك الكروب ومعظمها مكتوب بخط اليد .
هى التراث الذى تتناقله أجيال العائلة جيلاً بعد جيل وتحافظ عليه ومن المساس به إلا لقلة المختارة من أبنائها.
فكما تحتوى على الخير المحض تحتوى على الشر الخطير ،فلايجب الاقتراب إلا المحصن من المهالك والعاقل والذكى وحامل كتاب الله ..
وكان والدى من اجتمعت فيه هذه الخصال ،ومن ثم سُمح له بالقراءة فيها والاستفادة منها ونشر فوائدها العميمة على الناس .

كنت مرعوباً وخائفاً من جدتى ..فلم أنبس ببنت شفة ..فأنا خرقت القوانين وكسرت المحظورات ،وأنا فى حالة تلبس كاملة لجرائم عديدة ..
فلامفر من الإدانة وتوقيع الجزاء الرادع .
وقطعت جدتى صمتى وهمست :إوعاك تكون فتحت الكتب دى وأشارت إلى صندوق خشبى مغلق.
فخرجت الكلمات متعثرة :
لم أفتحها ياااااااااستى .
(فقد سمعتُ من بعض كبار العائلة أن والدى عنده كتب سحر ممكن تحرك الحجر من مكانه)


(6)

وبصراحة _يا أستاذنا _ لما قرأت بعض قصصك تلبستنى الروح المعاندة وحاولت أفك أسرارها وتذكرت كتب والدى التى شعرت بعد تحذير جدتى من الاقتراب منها، أن أقترب وأقرأ بعض صفحات كتبها ..ووقتها ولصغر سنىى ولضيق أفقى المعرفى ، لم أفهم منها شيئاً،مما شجعنى مستقبلاً ألا أعطي لكتب الصندوق الخشبى ، إهتماماً ذا بال ..وعشت مع ألف ليلة وليلة وشهرزاد وشهريار والكتب الأخرى سنوات طويلة .

ضحك الأستاذ محمود حنفى كساب ..وصرخ :كل الحكايات دى عشان تقول للأستاذ محمد إبراهيم مبروك إنك مفهمتش قصصه ..
يا أخى إنت من مدة كنت بتكلمنى عن مجموعته "عطشى لماء البحر"وفهمت من كلامك إنك معجب بها.
فعقبتُ على الفور :صح ..كنت بأحل لوغارتيمات وأقف عند السطر كتير ..
كتابة متعبة جداً والقراءة أكثر تعباً ومعاناة .

وبهدوء ورصانة تكلم محمد مبروك ..
أولاً :الأستاذ كساب بيقول عنك أنك محترف قراءة وسهل عليك إنك تحل اللوغارتيمات .
ثانياً: القصص "نزف صوت صمت نصف طائر ومسيح المراسيم المحالة وجحيم أبد الرحم وشلالات الكهف الداعر " كتبتهم فى فترة ملتبسة فى سنىة 68،67،1966
وهذه السنوات شغلتنى بالمفارقات التى وقعت فيها والهزيمة الماحقة فى يونيو 67كانت الدولة تمر بمرحلة اغتراب وغربة . ..

كتبت معبراً عن هذه الغربة والغرابة التى عاشها البسطاء من الناس ..الوطن فى أزمة والمجتمع موشك على الانفجار والدنيا من حولنا تترصد خطاوينا للحظة الانقضاض والافتراس والتمزيق ..وقد كان ..وانتهك عرض الوطن واستبيحت أرضنا وسماؤنا ..ولم أقدر على الكتابة حتى 1979كتبت قصة عطشى لماء البحر .

وفى اليوم التالى ..وفى مجمع المحاكم بطنطا ..يناولنى الأستاذ محمد إبراهيم مبروك مجموعته القصصية "عطشى لماء البحر " مطبوعات النديم ،الطبعة الأولى 1983م ،175صفحة من القطع المتوسط" وفى الصفحة الأولى :
"إلى الأستاذ عبدالرؤوف النويهى
تقديراً وعربون صداقة ؛ينفع ؟!
مودة ومحبة .
مبروك
يوليو 86

(7)

أمسكتُ بالكتاب وتصفحته وقرأت الإهداء وشكرتُ الأستاذ مبروك .ثم ضحكتُ وقلتُ:
هو سيادتك ناوى تخش المحكمة عما قريب ،جاءفى الإهداء "عربون صداقة ينفع "وعلامة استفهام وتعجب...
عموماً نحن فى الخدمة ومتبرعين ..واسأل الأستاذ كساب .
وجلسنا نحتسى الشاى ونتبادل أطراف الحديث وفرصة عمرى متاحة أمامى .فقلتُ:
مادام حضرتك شرفتنا ..أكمّل الحكاية والأستاذ كساب عارفها لكن فى الإعادة إفادة .
"جريدة الأهرام ..لايخلومنها البيت يومياً ،فهى الثوابت التى لايمكن التخلى عنها ،فيحضرها أحد باعة الجرائد يومياً ،وتظل تُقرأ طوال النهار تنتقل بين الأيدى المتعلمة للاطلاع على مايجرى فى مصر والعالم .
فجمال عبدالنصر ملء العين والبصر ،ملأ الدنيا وشغل الناس" وثورة يوليو أم الثورات فى أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية .
مقالة "بصراحة" لمحمد حسنين هيكل من أهم المقالات على الاطلاق ،يقرأها أبى مرة بعد مرة .فإذا جلس مجلساً تنهال الكلمات من فمه مدحاً فيما كتبه هيكل، ويؤكد كلامه أن جريدة الأهرام هى الجريدة الشبه رسمية لقرب هيكل من جمال عبدالناصر .
كان محباً لعبدالناصر مناصراً له مناهضاً لمن يذم ثورته أو ينال منها .
ومن كتب التراث التى حافظت عليها حتى الآن :
كتاب"
نور الأبصار فى مناقب آل بيت النبى المختار "للعالم الفاضل الشبلنجى المدعو بمؤمن رحمه الله آمين. وبهامشه كتاب اسعاف الراغبين فى سيرة المصطفى وفضائل أهل بيته الطاهرين تأليف علامة زمانه الأستاذ الشيخ محمد الصبان عليه الرحمة والرضوان ،محل مبيعه بمكتبة ملتزمه حضرة الشيخ محمد على المليجى الكتبى ،قريباً من الجامع الازهر ،الطبعة الثالثة سنة 1322هجرية. وهذا الكتاب من القطع الكبيرعدد صفحاته218.

الكتاب الثانى: "
الجزء الثانى من الحاشية المسماة بالفتوحات الالهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية" تأليف العالم النحرير والمحقق الشهيرالعلامة الشيخ سليمان الجمل ،وعلى هامشه تفسير ابن عباس،الطبعة الأولى ،المطبعة الأزهرية المصرية سنة1318هجرية عدد صفحاته 680 من القطع الكبير .

الكتاب الثالث "
حاشية الأستاذ العالم العلامةالعمدة الفهامة فقيه زمانه ووحيد عصره وأوانه شيخ الإسلام والمسلمين عمدة المحققين برهان الدين الشيخ إبراهيم البرماوى الشافعى على شرح الغاية للعلامة ابن قاسم الغزى رحمهما الله.طبعة1298هجرية عدد صفحاته 366والفهرس 4صفحات ومختوم بعدة أختام وأسماء من تملكوا هذا الكتاب.
فهذه الكتب تعتبر ثرات عائلى فنحن الآن فى سنة 1435هجرية يعنى ذلك أنها قد مضى على طباعتها مابين 113و117و137سنة هجرية
ولن أنسى أول صدامى مع والدى ، وما أكثر الصدامات،عندما قرأت كتاب الشبلنجى ونلت من المؤلف ومن القصص الواردة به ،وطال الحديث بيننا وزادت حدة النقاش ،مما استدعى تدخل أمى التى علا صوتها :
إيه !!صوتكم عالى والناس تفتكر إن فيه خناقة عندنا.
ولكى أضم أمى إلى،صفى ،قمت بسرعة وأحضرت الكتاب وفتحته وقرأت بصوت عالِ:
" (الثالث من الأربعة الأقطاب سيدى أحمد البدوى رضى الله عنه) "
أنكر ابن الشيخ خليفة بناحية إبيار بالغربية حضور أهل بلده إلى المولد.قال الشعرانى فوعظه شيخنا الشيخ محمد الشناوى فلم يرجع فاشتكاه لسيدى أحمد فقال: ستطلع له حبة ترعى فمه ولسانه فطلعت من يومه ذلك وأتلفت وجهه ومات بها" .
ثم قلبت الصفحة وقرأت :ومن كرامات الرابع من الأقطاب الأربعة سيدى إبراهيم الدسوقى القرشى الهاشمى "
قال الماوى خطف تمساح صبياً فأتته أمه مذعورة فأرسل نقيبه فنادى بشاطىء البحر :معاشر التماسيح من ابتلع صبياً فليطلع به فطلع ومشى معه إلى الشيخ فأمره أن يلفظه فلفظه حياً،وقال للتمساح مت بإذن الله فمات"تعجبت أمى وقالت :تماسيح إيه !!هو البحر إللى قدام مسجد سيدنا إبراهيم الدسوقى فى دسوق فيه تماسيح!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق