نشأت
وترعرت طفلاً غضاً مع أسرة مسيحية ،فى شارع كان يضمنا ،وإذا ما أراد شخص أن يسأل
عن فلان ،كان الجواب فى شارع النصارى
.
كنت
أجد والدى يرحمه الله ،يُجل عمى حبيب ويجالسه ويتحاور معه ..
عمى حبيب له ورشة
لصناعة الأحذية فى البندر ،يستيقظ صباحاً وننتظره ،ونحن ذاهبون إلى الكتاب أو
المدرسة لكى نطلب منه وهو عائد ليلاً أن يأتى لنا بالعسلية والحرنكش والطوفى
واللبان واللب والسودانى ..
ونسهر لاننام قبل أن يهل علينا بوجهه البشوش وخطوته الوئيدة وفرحته العارمة ،ونحن نلتف
حوله كى يوزع علينا ما آتى به.
كنا
صبياناً وبنات نشكره من أعماقنا .
ودائماً وأبداً ،نعتب عليه يوم أجازته الأحد من
كل أسبوع، لأننا لن نحصل على الحلوى ،فكان يحاول إسعادنا وإدخال البهجة فى نفوسنا،
بأن يلتقى بنا ليلاً بعد صلاة العشاء ونلتف حوله على الحصيرة ..ويبدأ فى قص حكايات
عن الزير سالم و على الزيبق وسيدنا أيوب ..
كنا آذاناً صاغية وطراوة الليل تسعدنا
وصوته الرخيم العذب يأسر مشاعرنا
.
و
أهلنا يتعاملون معه وأسرته وأولاده ،كأنه واحد منهم ،لافرق بينه وبينهم ..
أذكر أن
أمى وكانت صغيرة "تزوجت فى سن 16سنة ..تستعين بخالتى فكتوريا وخالى صفية فى
إعداد طعامنا ..
ويوم الخبيز ..كان يوماً مشهوداً ،تجتمع فيه نساء العائلة للمساعدة
والعون ..لكن خالتى فكتوريا ..هى الريسة التى تقوم بالعجين والتقطيع ..وخالتى صفية
أمام الفرن "بيت النار " وياويل من يأتى رغيفها غير مستدير ،فقد تتهكم
عليه طويلاً .
و فترة الخبيز تمتد لساعات طويلة ،مابين الضحكات والإبتسامات
وإلقاء النكات ..
و
أقترب منهن وأسمع بعضاً من أحاديثهن ..وبعد إنتهاء الخبيز يلتم الشمل "أنا
وإخوتى وألاود أعمامى وأولا دخالتى صفية وخالتى فكتوريا ،لكى نأكل معاً ومن طبق واحد
مما تم طبخه من صينية بطاطس باللحم.
كنت أعشق ابنتها عايدة ..جميلة جمالاً صاعقاً
..أكبر منى ببضع سنوات ..لكنى أشعر أنها قطعة منى ،لا أمل النظر إليها والسير معها
إذا خرجت من الشارع لشراء طماطم أوبطاطس من البقالين ..أحرسها من أى طفل يحاول
معاكستها وأغضب غضباً شديداً إذا حاول أحدُ الاقتراب منها أو الحديث معها.،أخاف
عليها وأسعد بمصاحبتها .
كان
والدى يرحمه الله حافظاً للقرآن،و فقيه القرية .. ولكنه معتدلٌ فى عقيدته
الدينية ،وصحبته لعمى حبيب وأولاده فوزى وسمير وصفية وفكتوريا ،كانت مضرب
الأمثال فى القرية .
وكثيراً ماسمعت من شيوخ القرية ،يقولون عن والدى
"محمد جرجس " لارتباطه الشديد والقوى بهذه الأسرة
.
تربينا
أنا وإخوتى مع هذه الأسرة ..وصاحبت أمى عندما تذهب مع خالتى صفية إلى الكنيسة يوم
الأحد ..
أجلس بجوارهما ،صامتاً ،أسمع التراتيل وأحفظ بعض ماتلقتطه ذاكرتى "كير يالسون" ونسيت ، الأن ،الكثير مما كنت أحفظه .
أجلس بجوارهما ،صامتاً ،أسمع التراتيل وأحفظ بعض ماتلقتطه ذاكرتى "كير يالسون" ونسيت ، الأن ،الكثير مما كنت أحفظه .
طالعت
الكثير من أيات الإنجيل وحفظت بعض الآيات ،ولا أنسى مهما طال بى العمر ،موعظة
الجبل ،كان القسيس بصوته الرخيم العذب يقرأها ويشرح معانيها .
و فى أحد الآحاد
اقترب منى وسلم علىّ ..وفرحت فرحاً عظيماً ..وأتباهى على أقرانى بأن القسيس سلم
علىّ.
كلما
تذكرت هذه الأيام ..أهتز من الفرحة وأهمس لنفسى ،أين هذه الأيام وهذه اللحظات
،بدلاً من هذا الجحيم الذى يطل علينا يومياً.وهذا الهوس المدمر الذى زرعته الأحقاد
والضغائن ،والتعدى على إخوتنا المسيحيين وإكراههم على الرحيل
..
ماذا
حدث فى مصر ؟؟
ومن
الذى يشعل هذه الفتنة ؟؟
كانت
هذه الأسرة الكريمة تصوم معنا فى رمضان ،ولايمكن أن يتناولوا طعاماً ،جهراً ،أمام
أهل الشارع ..بل كان أخى بشرى ابن خالتى صفية وعمى مفتلى ..يظل يلعب معنا ،صائماً
وعندما ينطلق مدفع الإفطار يعدو إلى منزلهم ليفطر
.
ولا
أنسى أخى سمير ابن عمى حبيب..وهو يعد لنا أمام منزلهم "قعدة " لكى نفطر
نحن الصغار ،وكل طفل منا يأتى بما طبخته أمه "كى يكون إفطاراً مجمعاً ..ويأتى
بطعام من عندهم ونأكل جميعاً بفرح وسرور وشهية
.
وفى
العشر الأواخر من رمضان ..تجتمع خالتى صفية وخالتى فكتوريا مع أمى وجدتى وزوجات
أعمامى ..للإعداد لعمل كحك العيد والبسويت والغريّبة الناعمة المنقوشة ..ويصبح
منزلنا مهرجاناً ويأتى بشرى وأخته هيلانة وأخوه فاخر وابنة خالته عايدة وأخوها
طارق ونسهر الليالى معهم ..نأكل ونشرب ونلعب ،إخوة وأخوات لايفرق بينا دين أو
عقيدة .
أين
هذا من الذى يحدث الآن؟؟!!
لقد
صدق كرومر ..عندما قال :لافرق بين المصريين إلا أن أحدهم يدخل المسجد والآخر يدخل
الكنيسة .
هذه
الهجمة الشرسة التى تغذيها بلاد فقدت وعيها ونسيت تاريخها وسلب عقلها وانصاعت خلف
شعارات مضللة ..والقسوة على إخوتنا المسيحيين وماحدث أخيراً فى رفح والعريش ..إن
دل فهو يدل على غوغائية وهمجية وفقدن توازن
..
المسيحيون إخوة لنا لهم مالنا من حقوق ،وعليهم
ماعلينا من واجبات ..والمساواة بيينا فى كل شىء ،ومن يتعرض لمسيحى أو مسيحية بسوء
لابد من قطع يده ولسانه ،فهو ليس بمسلم ولاصاحب عقيدةمحترمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق