بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 8 ديسمبر 2014

ألكسندر بوشكين Alexandre Bouchkine" زمنٌ للشعر والجريمة"

إلى ..بياتريس

فى سنوات التكوين ..حصدت معارف شتى من تراث الإنسانية والآداب العالمية .
كنت أسابق عمرى، أن ينقضى بلا زاد أو مؤنة سفر يطول .

همتُ عشقاً بالشعراء "أنتم الناس أيها الشعراء" وعثرت على أحد شعراء صباى "ألكسندر بوشكين " أمير أمراء الشعر الروسى .
وفى وأثناء الثورة الشعبية المصرية 25يناير 2011م .. عدتُ وبقوة إلى إعادة قراءة ماتجمع فى مكتبتى من مؤلفات للأدباء والشعراء الروس ..
وقرأت ماكتبه بوشكين من نثر أو شعر .

وها أنا أحاول الكتابة عنه .

.فلعلنى أوفى هذا الشاعر، بعض حقوقه علىّ


أزهار الخريف الأخيرة 
"أزهار الخريف الأخيرة
أعذب من الأزهار الأولى للسهول
ذلك أنها توقظ إحساساً
قوياً،رغم أنها قد تكون حزينة ،
مثلما يكون ألم الفراق
أقوى من عذوبة الموعد الغرامى "
بوشكين
(1)
عشقت الأدب الروسى وهمت فى حدائقه الغناء ،ربما لأن الهم الروسى يشبه الهم المصرى ،فالهموم واحدة والأحلام واحدة . 

قرأت معطف جوجول والأنفس الميتة والمفتش العام وأمسيات قرب قرية ديكانكا ، وعشت سنوات طويلة مع عبقرى القصة العالمى تشيكوف ومسرحه الرائد "طائر النورس والخال فانيا وبستان الكرز ومسرحياته ذوات الفصل الواحد..
وكدت أحفظ بعض قصصه "موت موظف" أحسست كم يكون القهر قاتلاً وسفاك دماء ..عنبر رقم 6..الفلاحون .."ثلاث سنوات "
وهذه الرواية شغلتنى طويلاً ،فهى عن زوجين أُرغما على الزواج ..وكلاهما لايحب الآخر ..لكن القدر والنصيب فقد عاشا معاً ..ثلاث سنوات فى معاناة شديدة وقاسية ،وفى لحظة قرر كل منهما أن يرضى بالنصيب والقدر المقسوم لهما ،وأن يتحابا ،لكن سيف القدر كان أسبق منهما فوقع الطلاق بينهما .
كانت قصة حزينة حزينة والنهاية محتومة بالفراق بينهما. 


وقرأت لتولستوى روايته الخالدة "الحرب والسلام " وأزداد عجباً من قدرة هذا العبقرى أن يُقدم حوالى 500خمسمائة شخصية ،ولكل شخصية طباعها الخاصة ولاتشعر بتكرار الشخصيات فكل شخصية قائمة بذاتها ...وأنّا كارنينا ..والحاج مراد ..وبعض مسرحياته الرائعة .
ولا أنسى أنه فى نهايات حياته ..وقد وجد حفيدته تقرأ روايته "الحرب والسلام" ..فقال لها :دعى هذا الهراء فإنه لايشبع جائعاً ولايكسو عارياً.
وأطل على تورجنيف ودستوفيسكى وهذا الأخير الذى غيّر الكثير من مفاهيمى عن الجريمة والعقاب وشخصية راسينكلوف ..
لقد قرأت هذه الرواية التى ترجمها خالد الذكر د.سامى الدروبى ، ويعتمل فى صدرى كل أحاسيس راسينكلوف ،حتى لقد أحسست أننى أسير على رأسى .



(2)
وحتى لا أتوه فى حدائق الأدب الروسى العالمى ..القديم منه والحديث .. أعود إلى بوشكين ،وما قاله نيقولاى جوجول:
"بوشكين ظاهرة فى النفسية الروسية هائلة ،لعلها فريدة ،فهوالإنسان الروسى فى تطوره ،فى الصورة التى يكون فيها ،ربما، بعد مائتى عام ..فيه الطبيعة الروسية ،والروح الروسية واللغة الروسية ،والطبع الروسى معكوسة بنفس النقاء وبنفس الجمال المصفى مثل انعكاس المنظر الطبيعى على السطح المحدب لعدسة مرئية " .

لم يكن بوشكين شاعراً وفقط ولكنه ناثر من الطراز الأول فى الأدب الروسى ، فقد ترجمت أعماله النثرية ابنة الضابط ودوبرفسكى وقصص بيلكين ..
وما أكثر اطلاعى على ابنة الضابط ودوبرفسكى، فهما يحكيان عن الانتفاضات الشعبية ضد القهر والتعذيب .

ولد الكسندر سيرجيفيتش بوشكين فى 26من مايو 1799م ،وقت أن كان الشعب المصرى يتصدى للهجمة الإستعمارية الشرسة بقيادة نابليون بونابرت وجيشه الذى أباد الحرث والنسل ..وانكساره أمام أسوار عكا وهلاك أكثر من 3000من جنوده وانتشار الأوبئة والمرض مما دفعه إلى التقهقر ،ويحكى فى مذكراته "أن هزيمته فى عكا قوضت مشروعه فى قيام أمبراطورية فرنسية فى الشرق "..وثورة القاهرة الأولى والثانية وخروج جيشه ذليلاً من أرض مصر ، وكان الشعب الروسى يغلى ،من داخله، ضد حكم القياصرة وقيام حركة الديسمبريين الثورية فى إدانة الأتوقراطية ونظام القنانة والدعوة إلى الانتفاضة وتقويض أسس الظلم السائد ..

كانت روحه مع الديسمبريين.. وكتب قصيدته الثائرة "أغنية إلى الحرية "
آهٍ فلتهتزوا ولترتجفوا ياطغاة العالم /
وأنتم ارهفوا السمع ،أيها العبيد الساقطون /
تسلحوا بالشجاعة وهبوا"

(3) 
كان بوشكين ظاهرة فريدة فى الأدب الروسى ،فلم يكن مجرد شاعر أو ناثر ،وإنما صاحب رؤية جادة فى إحياء اللغة الروسية وفى إحداث ثورة فى مناخ أدبى مقهور وظلم إجتماعى لايزول ،واستبداد قائم بالنار والحديد ،وثوار يجوبون البلاد منددين بحكم القياصرة الطغاة وسلطة غاشمة تسعى لتدميرهم ،فلا مفر منها ولامهرب سوى المواجهة الدموية "فللحرية الحمراء باب بكل يدٍ مضرجة تدق."
ومن ثم كتب فيه الكثيرون وأشادوا ،وعن مدى تأثيره فى الحياة الأدبية ،رغم قصر حياته ،(1799م- 1838م) .

ويأتينا الناقد الكبير الكسندر تفاردوفسكى.. ويكتب عن بوشكين:
"
إن بوشكين الذى قُتل فى ذروة تطور قواه الحياتية والإبداعية ظل إلى الأبد العميد ورأس الحكمة لكل تلاميذه والمواصلين على دربه ،الناهضين المبرزين بماعُهد إليهم من الأدب الرفيع ،ولا أستتثنى من ذلك ليف تولستوى نفسه -ولكل الذين فاقوه فى العمر مهما تكن السنين التى فاقوه بها .
ويظل على هذا الشكل ،بالطبع فى يومنا هذا ،لكلنا جميعاً،بل وأكثر لأن بوشكين فى أيامنا أكبر مماعرفه أسلافنا.لقد كتب ف.غ.بيلينسكى :
"
 أن بوشكين ينتمى إلى تلك الظواهر الحية والمتحركة أبداً ،والتى تستمر على التطور فى وعى المجتمع "
إن مؤسس الأدب الرفيع ،وينبوعه الأول الذى ترسخت أهميته العالمية ولم تعد موضع أى شكٍ،الفنان الذى لايحاول حتى الخصوم التقليل من عبقريته الإبداعية هو الآن أحب الشعراء فى بلادنا المتعددة الوميات وأكثرهم وشعبية .
وتتمثل ظاهرة بوشكين أيضاً فى أنه ماكان بمقدوره حتى أن يكتب بشكل سيىء،إذ حتى فى أشعاره المبكرة المقلّدة مكتوبة على مستوى هو،فى الأغلب ،أعلى من مستوى تلك الأدوات التى كانت الثقافة الروسية تمتلكها فى تلك الأوقات .
ليس من السهل كثيراً تعداد ذخر بوشكين الذهبى ، إذ ليس هو فقط "يفجينى أونغين و"بوريس يغودونوف والفارس النحاسى " ونفائس الشعر الغنائى فى الحب والفلسفة ،والتراجيديات الصغيرة ،والحكايات ،وابنة الآمر وغير ذلك من نثره ،بل والمقالات النقدية والنبذ التاريخية ،وأشياء لاعدّ لها دون أن نستثنى النماذج الرائعة فى فن كتابة الرسائل .
عند التحدث عن بوشكين نشعر حتى بالحرج من استخدام كلمة" أستاذية" والأليق بذلك" الساحرية " والكمال الذى يذهلنا فى إبداعاته .ورغم أننا نعرف جيداً كم كلّف عاشق الموزيات هذا من جهد متفانٍ لايكل .
وحين نقرأ باستيعاب أكمل مبدعاته ،يصعب علينا عن حق أن نتصور أنها مكتوبة ،أى أنها مؤلفة من سطور وكلمات موجودةعلى حدة ،وإرادة الفنان وحدها جعلتها متجاذبة ومنظومة فى سلك واحد .
بل تبدو لنا هذه الأعمال وكأنها وجدت بهذا الشكل فى الحياة نفسها ،فى الطبيعة ،وأخذت من هناك كيانات كاملة.
إن روح بوشكين ،مثلما هى ملك للحاضر ،ملك للمستقبل أيضاً،مندفعة نحوه .لقد عاش فى زمانه ،مع معاصريه ،ومحيطه ،ولكن كأنما مع أجيال أخرى ،وهو يعيش مع جيلنا ،وسيعيش مع الأجيال التى ستخلفنا .
ومن الصعب تصوّر تراث بوشكين .أنه ذروة جبلية غير منعزلة ،وإن كانت مهيبة ،بل هى تؤلف سلسلة جبارة مع ذرى عديدة وفروع لاحصر لها."



(4)
الإتحاد السوفيتى ..قوة عظمى ،وفى بداية الستينيات من القرن الماضى ..وجدت مجلة ترد عن طريق البريد باسم والدى يرحمه الله .
وذات مرة قمت بفض المظروف فوجدت مجلة أنيقة على ورق مصقول وألوان جذابة ،واسمها على ماأظن "روسيا اليوم " أو ربما اسم آخر فالذاكرة جد خؤون ..ومرور مايزيد على نصف قرن ..وتصفحت المجلة وشاهدت مناظر لتقدم روسيا ومواضيع كثيرة عن النهضة فى بلدان الإتحاد السوفيتى ..وصورة لخرشوف ..وصور لفتيات يعملن وملابسهن بألوان زاهية وجميلة .
ودأبت على مطالعة هذه المجلة وحديث والدى عن عظمة روسيا والإشتراكية وحضارتها .
وخلال فترة الستينيات وصباى الذى يشى بالإنكباب على القراءة ومطالعة الكتب بمكتبة والدى ،وهى كتب ومجلات فى حضير على السطوح،تعرفت على الكثير مما يدور فى الإتحاد السوفيتى ..وعبر مراحل حياتى ..تعرفت على كتاب روسيا العظام ..
وكان يفتوشنكو الشاعر الروسى أحد النوافذ للإطلال على أدب وشعر الروس. ..
كانت فترة مثمرة فى تكوينى الثقافى ..
وعرفت بوريس باسترناك مؤلف دكتور زيفاجو وكيف حصل على جائزة نوبل فى الأدب ،ولم تسمح له السلطات بخروجه إلى السويد ...



لكن بوشكين سيطر على فؤادى ..فقصة دوبرفسكى وابنة الضابط وبعض أشعاره المترجمة ،أسهمت فى حبى له وتقديرى الذى نما بمرور العمر ..
فلن أنسى أول سطر فى روايته "ابنة الضابط "ا
حفظ شرفك منذ الصبا "مثل روسى ..أهيم عشقاً بهذا المثل ..



فبوشكين يتحدث بلغة الشعب ويعبر عن نبض الشعب ومن تدفق عبقريته فى أهمية الأدب وغرس الوعى وتأكيد حرية الشعب فى حياته والحصول على حقوقه الإنسانية فى عيش كريم وحياة كريمة .
ويتردد فى ذاكرتى شعراً له ،ما معناه"
أريد أن أغنى الحرية وأفضح الشرورالمتربعة على العروش" .
ويؤلمنى اللحظة هذا التعتيم على دررالأدب الروسى ..فبعد موت عبدالناصر واعتلاء السادات سدة الحكم لم يعد للأدب الروسى والشعر الروسى مكاناً فى الحياة الأدبية وقلة الترجمات ..وشيوع الترجمات عن الأدب الأمريكى وتسابق المؤسسات الإمبريالية فى نشر ما ينتجه العقل الأمريكى وبقوة وفرضه على الشعب المصرى .
فقدكانت أمريكا هى جنة السادات ونعيمه والتى تملك 99% من أوراق اللعبة فى إنهاء الحرب بين مصر والعدو الصهيونى القذر.

وقبل مقتله الغادر ..كتب بوشكين فى سنة 1834م وكأنه يتنبأ بنهايته:
"
هو الوقت ،ياصديقى ،هو الوقت !
فالقلب يهفو إلى السلام
ينساب اليوم بعد اليوم -وسيل الساعات المنساب
يفتت شواطىءالوجود-
وكلانا ،أنت وأنا ، كان ينتوى أن يعيش،
ولكن انظر ،هانحن نموت.
ورغم أن الفرح يهرب أبداً ،
فالسلام يبقى والاحتشاد.
ومنذأمد بعيد كان عزائى
كعبد يعانى ،
أن أخطط للهروب
إلى ملاذ ناءٍ للعمل والبهجة البريئة
.



(5)



أرض روسيا الشاسعة الخضراء ،وحكم القياصرة الطغاة ،ونظام القنانة"الرق" السائد فى البلاد.
لم يكن الإنسان الروسى فى القرن الثامن عشر سوى شيىء يباع ويشترى ،بل تنشر الصحف إعلانات واضحة "ببيع إمرأة " وعمل مزاد علنى لبيع مجوهرات وثيران ونساء وأطفال وشباب ..

كان الإنسان فى روسيا لاقيمة له إلا للقياصرة والنبلاء ورجال الدين والعسكر ..
فلا حرية ولارفاهية ولا وجود إلا للصفوة والنبلاء ،أما عامة الشعب الشغيلة ،فهم تروس فى آلة ضخمة ،فهم الفلاحون فى الحقول المترامية الأطراف ،وهم الخادمون فى القصور ،وهم الصناع لمتع النبلاء ،وهم الحشرات التى تداس بالأقدام ...فعامة الشعب ما هم إلا عبيد أذلاء.
(ويحضرنى أحمد عرابى وتوجهه إلى قصر عابدين لمقابلة توفيق خديوى مصر ..لتقديم مطالب الشعب ورد الخديوى عليه بغطرسة واحتقار :
"
هذه البلاد ملك لآبائنا ونحن من بعدهم ،وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا ".
وأزداد دهشةً من هذ الرد الصفيق، الذى إن دل يدل دلالة واضحة على 
أن الشعب المصرى- آنذاك- لم يكن شيئاَ على الإطلاق ،حتى أنه لم يكن سوى عبيد للإحسان الذى يمنحه الخديوى وعطفه عليهم ،فلم يكن الشعب عبيداً أذلاء ،لكنه لم يصل، بعد، إلى هذه المرتبة السامية ،فهم عبيدللإحسان الذى يتعطف به الخديوى ) .
صارت الثورات الشعبية تجتاح الأراضى الروسية وتهز عرش الطغاة ،وكانت تقابل بالنار والحديد والاعتقالات .

وسط هذه الثورات والاحتجاجات الشعبية التى تهز المجتمع من جذوره وتسعى نحو إقامة مجتمع إنسانى كريم .
أشرقت شمس يوم جليل وقد ولد بوشكين ..فرأى منذ نعومة أظفاره هذا الفقر وهذا القهر وهذا الجوع وهذه العبودية لشعب يعانى المعاناة الدامية ..
قرأ وسمع عن الحركات الثورية التى قام بها بوجاتشوف سنة 1773م والتى طالبت بالعديد من الإصلاحات ولم يكن مصير زعمائها إلا القتل والتنكيل بهم وسحقهم بقسوة ..
وظهر المثقفون الثوريون أمثال راديشيف وكتابه الفلتة "رحلة من بطرسبرج إلى موسكو"ودعوته الصريحة المدوية إلى القضاء على عبودية الأقنان والحكم الاستبدادى وإقامة جمهورية ينال فيها كل إنسان حقوقه .

وعاش بوشكين ،بكل أعصابه الملتهبة وعبقريته الفذة، ما آل إليه حال الشعب الروسى ،فكان الباعث على عظمة الشعب الروسى وحضه على إحياء حضارته وتراثه المكنون فى أعماقه لتحقيق مايريده وسيأتى الموعود حاملاً معه الخبز والسيف.


ويكتب بوشكين قصيدته الرائعة "فى منجم سيبيريا "

عميقاً فى مناجم سيبيريا ،دع الهلاك يقهر روحك الأبية الصبورة ،فلن يضيع عناؤك الساحق وأفكارك النبيلة ،لاتخف.

شقيق المحنة ،الأمل السامى ،فسينجلى الألم من الزنزانة المعتمة ؛سيصحو الفرح والأسى يزول ..وسيأتى الموعود من زمن طويل 

الرتاجات الثقيلة سوف تنفجر –فابتهج!-
والحب والصداقة بلا خداع،سيأتيانك إلى عزلتك الضارية ،كصوتى العاشق للحرية 

جدران السجون سوف تتحطم ..فاطمئن
وعلى الباب سوف تنتظرك الحرية لتتلقاكوأخوتك المسرعون لتحيتك ،سيقدمون لك-مبتهجين- السيف.



(7) 
طائر صغير


"فى أرضِ أجنبية أحتفظ 
بجسد الطقوس والأشياء القديمة من مسقط رأسى ؛ 
سعيداً أطلق سراح طائرصغير 
احتفالاً بالربيع. 

أنا الآن متحرر للعزاء،
وشاكر للرب العظيم
فعلى الأقل منحتُ الحرية فى هذا العالم."

الحرية ..الحرية ..هذه المعشوقة الخالدة التى تذهب الأرواح والدماء فداها .
كم من الثورات قامت ..
وكم من الأرواح زهقت ..
وكم من الدماء سالت من أجل عيون الحرية ..
لا أنسى ما قاله فيلسوف فرنسا سارتر "الحرية الشىء الوحيدالذى لايمكن التنازل عنه " .
هذه الحرية هى روح الإنسان ،فإذا تنازل عنها،كان جسداً بلاروح ،ووجوداً كالعدم ..
كان حماس بوشكين للحرية حماساً لايفتر ولايلين ،وذهبت روحه وموهبته الفذة فداءاً للحرية .

أزعم أن الشاعر أى شاعر موهوب .. هو رسول الحرية ،ونذير للناس ،وعلامة فارقة فى تاريخ أمته .
فى يوم من الأيام ،فى الصبا الأول ، أتى شقيقى ،الأصغر منى، بقفص حديدى ووضع فيه عصافير ملونة ..
كنت أتأملها بحزن شديد ..وأتساءل ..لماذا يستمتع بعض الناس بسجن الطيور ؟؟
ولماذا يستمر هذا السجن حتى تموت؟ 
روحى مخنوقة كما الطيور الصغيرة مخنوقة داخل هذه الأسلاك الحديدية ..
محبوسة مسجونة فى حيز ضيق خانق.كلما همّت بالطيران أعجزها القفص .
كلما استعدت للخروج ضاقت عليها تقارب الأسلاك.
كلما غرّدت طلباً للحرية أقعدها الأسر.

وفى لحظة اشتد بى الحزن وأشفقت عليهم ،هذه الكائنات الرقيقة ،فقمت بفتح باب القفص وطارت العصافير .
وعاد شقيقى فوجد القفص ،وقد خلا من عصافيره الملونة ..ونشبت بينى وبينه مشادة عنيفة ،أثرت على علاقتنا فيما بعد .
فدوماً أقف بجانب الحرية وهو يعاندنى ..ويتهكم علىّ :أهلاً بالحرية !!
وها هو بوشكين.
هذا الرائع .
هذا الثائر .
هذا الشهيد فى سبيل الحرية ..وهو المحروم منها ..ويد الطاغى تكتم أنفاسه ..
ويتعذب ويتحسر على حريته، بل حرية الشعب الروسى المقهورة تحت سنابك جياد القياصرةالمستبدين .


وفى سطور قليلة ..يعطينا درساً لايُنسى ..
إنه وإن كان محروماً من الحرية، إلا أنه يحاول أن يهب مخلوقات الله ما حُرم منه ويطلق سراح طائر صغير، احتفالاً بالربيع ..
وكأنى به من قرنين من السنين ...يتنبأ بربيع الثورات العربية .



(8)

وفى دراسته الرائعة وترجمته الفارهة لأشعار بوشكين "الغجر وأعمال أخرى " 
يقول الشاعر رفعت سلام :

"وكبديل عن الأدب الذى يزين الحياة والطبيعة رأى بوشكين.. الجمال فى الطبيعة والحياة نفسيهما ،ووعى أن الحياة هى مصدر الأدب الحقيقى ؛وهنا تكمن -أيضاً- قوته وأهميته الكبرى فى تاريخ الأدب الروسى .

لقد اكتشف الشعر الكامن فى الواقع ،ورأى أن الأدب يصبح ممكناً فحسب باعتباره أدب الواقع.

ومن هنا كان أدبه غريباً على كل ماهو حالم ومثالى وكاذب وضبابى ؛ إنه مشبع حتى الأعماق بروح الواقع ،لايلطخ وجه الحياة بالمساحيق ،بل يكتشفها كما هى ،ويقترن هذا التأكيدللحياة "الأرضية- المنافية للتصورات المجردة والرومانتيكة الباهتة - بتفاؤل شجاع يليق بفارس أسطورى يشق رحم القنانة صوب الحرية .

فقد وجه شعره فكر الشعب إلى تلك الأشياء التى يجب أن تشغله ،كما صرف هذا الشعر فكر الشعب عن كل ما هو غامض وشبحى ،وحلمى بصورة مرضية ،وعن كل مارأى فيه الشعراء -فيما مضى -مثال الجمال والكمال السامى "

هكذا كان بوشكين رائداً فى أدب الواقع ،الأدب الذى يجلو وجه الحياة بدون تزييف ولاتزويق ولامداهنة ولاتسطيح .الأدب الذى يصنع الحياة الحرة الكريمة ولايداهن الحكام ولايتملق السلطة ولاينسج الأوهام ولايخدع الشعب .

وكفانا خير دليل على هذا الخداع ،ماعشنا فيه سنوات طويلة طويلة نرزح تحت عبء التفاهات السقيمة والأحلام الوردية المريضة والهلاوس المفزعة والقهر المنظم وتخدير العقول وانهاك الأبدان بإثارة الشهوات..حتى ظهرت الحقيقة العفنة واضحة وضوح الشمس فى كبد السماء، فثار الشعب المصرى بكل أطيافه ..وكانت ثورة شعبية مباركة فى 25يناير 2011م

إنه يعرف جيداً أن تزييف الوعى هو قضاء مبرم لملكات الشعب وصيروته إلى الأبد فى نير العبودية ومستنقع التخلف،رهين الطغاة مسجون الروح.


فالأحلام لاتصنع واقعاً، إلا إذا كانت هناك النفوس الأبية الحرة التى تجاهد ليل نهار لتحقيق هذه الأحلام .



(9)
فى يوم الثلاثاء الموافق 18من يناير 1977م ،كنت طالباً فى السنة النهائية فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، سيدة جامعات أفريقيا، ومن الجامعات المعدودة على مستوى العالم .
سعادتى لاتنتهى ..فأنا فى جامعة القاهرة ،أعتز اعتزازاً فائقاً بانتسابى إليها.
ووسط العواصف التى تجتاح الوطن وتهزجذوره وتقتلع ثوابته ،وطلاب جامعة القاهرة يقودون المعارضةالشرسة ضد السادات ويهزون عرشه الذى استكان عليه ووزلزلت الأرض تحت قدميه والجدال الدائر بين مختلف الأطياف السياسية داخل الحرم الجامعى والكتابات التى تندد بالأوضاع المنهارة والجوع الذى يتفشى يوماً بعد يوم ،والثورة على الأبواب والمطالبة بإصلاح شامل لكافة مناحى الحياة ..
فقد تم التبشير بعد حرب أكتوبر 1973م بالرخاء وأنهار اللبن والعسل والرفاهية والعدالة الإجتماعية وحرية النشر وإلغاء الرقابة وسيادة القانون ومكافحة الفساد ومحاكمة المفسدين وحرية التعبير عن الرأى والمشاركة الفعالة فى صنع القرار .
أحلام الشعب التى ينتظرها فى وطن كريم وكرامة إنسانية .
مع الطلاب ،أهتف وأندد وأشارك فى حوارات حقيقية، تسعى لخلق عالم جديد وعقل جديد، بدلاً من العقول العاجزة عن تحقيق مطالب الشعب وسقوطها فى مستنقع الرخاوة والعطب والعفن ..
كنا شباباً تفيض أرواحنا بروح الوطنية والنهم لإصلاح جذرى لمشكلات الوطن وفضح الأرستقراطية الحاكمة التى تعيش فى أبراج، لا تسمع ولاترى أنات الشعب وأنينه ،ولاتشعر بالبطون الخاوية .
كنا نريد فضح الشرور المتربعة على كراسى الحكم ..
كنا ندعو لانتفاضة تقوض هذا النظام المترهل ونغنى للحرية .
غليان فى النفوس وحراك ثورى لايهدأ.
وشهدت هذه الفترة أهوال المخاض الثورى والتى كشفت وبقوة عن سلطة تتشبت بالحكم مهما كان الثمن .
وبدأت الملاحقات والقمع الشديد لكل بادرة تمرد ..
ولن أنسى ما رأيته من القبض على زملاء وزميلات ..
فقد كان عقد السبعينيات من أعظم العقود الثورية ومدى تاثيرها على المد الطلابى العارم فى مواجهة سلطة غاشمة لاترى إلا عبيداً لايرفعون الصوت ولايملكون من أمرهم شيئاً إلا السمع والطاعة .
وخرجت المظاهرات ،فى تكتل وتوحد، أذهل السلطة وأسقط كل الحسابات التى آمنت بها ،ولم يجد السادات إلا الجيش يحتمى به ،ويسيطر على الشعب الثائر ونزلت الدبابات الميادين وانتشر الجنود والضباط وحظر التجول والضرب من حديد لمن يتمرد أو يثور ،وفتحت المعتقلات وتم القبض على المئات بل الآلاف من الطلبة والعمال والمثقفين .
كانت أيام المجد والحرية.
ونلت شرف المشاركة وضربة هراوة غليظة على ظهرى وفخذىّ من جندى شرطة ،علمته السلطة ودربته على القسوة والتنكيل بأبناء الوطن المطالبين بالحياةالحرة الكريمة والعدالة والكرامة .
وفى الذكرى السادسة والثلاثين لثورة الجياع أو إنتفاضة الحرامية كما حاول تشويهها السادات والنيل منها .أتذكر أيام المجد والحرية .
داعياً ألا تتوقف ثورات الشعب ضد أى طغيان يعرقل تحقيق أحلامها وطموحاتها ،مهما رفعت السلطة الحاكمة من شعارات خداعة ومزيفة، لاقصد منها سوى التضليل وإحكام القبضة على رقاب الشعب وخديعته بالمعسول من الأقوال وتملقه بالأفعال التى لاتسمن ولاتغنى من جوع.
وها هو بوشكين يهتف : 
إذا ماخدعت بالحياة .
فلا تكتئب ولاتتهور !
وفى يوم الحزن ،فلتكن معتدلاً
فالأيام البهيجة ستاتى ،صدقنى .

فالقلب يعيش فى الغد؛
والحاضر هنا منكود؛
وفى لحظة يمضى الحزن !
ومايمضى سيكون غالياً
.


______________
المراجع ثابتة بصلب المقالات والأشعار أيضا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق