بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

ذاكرة تأبى النسيان

(1)
أذكر فى سنواتى الخضراء ،كم كنت شغوفاً بكتابات العشق والحب ودواوين الشعراء.
وأحفظ بيتين من الشعر "مقدمة لمسلسل إذاعى فى فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضى ،
والبيتان كما حفظتهما هما :
يزهر الورد فى الربيع ويلقى عندباب الخريف بعض ظلاله 
لاتلوموا الخريف إن عشق الورد وتاقت عيونه إلى جماله
ولا أدرى من هو الشاعر ؟؟


(2)


يُحكى أن رجلاً ضاقت به الأحوال ولم يعد يجد مايسد جوعه والفقر له بالمرصاد ليل نهار.
فخرج من بلده لايدرى إلى أى البلاد يُلقى عصا الترحال ، ومرت عليه أيام عصيبة وتعب تعباً شديداً ،لكنه كان يتعشم فى الله خيراً ،أن يُفرج الله عنه كربته .
ودخل بلداً فوجد قصراً منيفاً ..فاقترب منه فوجد على أسواره رؤوساً آدمية معلقة ،فأخذه الرعب وندم على خروجه من بلده مهما كانت الظروف .
وسأل أحد المارين ،عن هذا القصر والرؤوس المعلقة . 
فرد عليه :هذا قصر الحاكم وأما الرؤوس المعلقة ،فلها قصة ،وقصتها أن الحاكم عنده حمار يريد أن يعلمه الكلام والقراءة والكتابة .
فتقدم هؤلاء الرجال واحداًبعد الآخر لتعليم الحمار ولم يفلح أحد منهم ،فكان الجزاء قطع رؤوسهم كما ترى .
فقال الرجل لنفسه أنا أموت كل يوم مئات المرات ،فلأذهب إلى هذا الحاكم وأقابله الحاكم وأطلب منه القيام بهذه المهمة .
فقال له الحاكم :إذا لم يتعلم الحمار القراءة والكتابة والكلام ،سيكون مصيرك مصير الرؤوس المعلقة .
فقال له الرجل : أوافق ولكن لى شروط ؟ 
الأول :أن يكون لى بيتاً مجهزاً للعيش فيه.ثانياً : أن أتقاضى مبلغاً للصرف على نفسى والحمار .ثالثاً: أن تكون المدة عشرسنوات .رابعاً:أن تكون لى جارية تخدمنى .
فوافق الحاكم على هذه الشروط، لكن حذره من قطع رأسه، إذا لم يتمكن من تعليم الحمارالكلام و القراءة والكتابة .
وبدأ الرجل فى تنفيذ المهمة ..
فقيل له : هل جننت ؟
كيف تقبل هذه المهمة وأنت تعلم أن الحمار لن يقرأ ولن يكتب ولن يتكلم ، وهذا مستحيل لو مرت مئات السنين؟
فقال له:أنا أعلم ذلك جيداً لكننى تعبت جداً وشقيت ،وآن لى أن أستريح بعض الوقت،وهناك ثلاثة احتمالات ،ربما تحدث فى خلال العشر سنوات: أن يموت الحاكم ،أو يموت الحمار ،أو أموت أنا .
فقيل له :وإذا لم يحدث ؟
فرد قائلاً:سأكون قد استمعت بالدنيا وعشت سنوات رغدة والمعاملة الحسنة التى سألاقيها والصيت الذائع الذى يلاحقنى طوال هذه السنوات العشر.
حكاية من حكايات جدتى رحمها الله ..كانت تحكيها على مسامعنا"باللغة العامية" فى فترة الطفولة الغضة .
تذكرتها الآن ..وربما كانت إحدى حكايات جحا .


(3)

عندما قال ماركس فى مرحلته الأولى" أن الدين أفيون الشعوب "، لم يتبن أساساً مبدأ الرفض للدين رفضاً فلسفياً ،وإنما كان رفضاً سياسيا، حيث قرر أن دورالدين فى المجتمع الأوربى دورسلبى وقف بجانب المُستغِل"بكسر الغين"،وصنفه بين الأيدلوجيات الإستلابية التى تمارسها البنية الفوقية للمجتمع كمخدر تبريرى. "
ولم يكن ماركس بالذى ينكر الدين كليةً ،بل كان يقول:
" الإلحاد لامعنى له لأنه إنكار للإله بلامبررات ،إلا إذا كان الهدف أن يحل الإنسان محله..ويواصل ماركس.. الإشتراكية ليست فى حاجة إلى هذه الشطحات التجريدية الجوفاء والمضاربة على الإله" .
ولكن رجال الفقه العظام ،فى العالم العربى ،اتخذوا الدين مطية لصنع أمجادهم ،حتى ولو اتهموا الناس ظلماً وعدواناً . 
فالفرق بين ماركس وبينهم ،أن ماركس كان صريحاً فى نقد رجال الدين خدام السلطة ويسعى لتحرير الإنسان من قبضتهم الحديدية ،وليس إنكار الإله.
أما رجالنا الأشاوس،كانوا  يبررون للحكام، كيف يعتلون ظهور الشعب ؟؟وكيف يمكن التحكم فيهم ؟؟؟ويصير الدين لديهم أفيون الشعوب .

(4)


عشت طفولتى الغضة ..أساعد أسرتى فى زراعة أرضنا وريها وحصد ثمارها ..
كنت أهتم كثيراً بجاموستنا الطيبة العفية ،لا أتوانى عن إحضار أكلها وأخذها إلى حوض القرية لتشرب ،أركب ظهرها وأنزلها الترعة وأحممها . 
لم أكن أألف غيرها من الحيوانات الأخرى ،البقر ،الأغنام ،الخرفان ،الحمير ،الجمال .
أمى الأولى ..قيل لى كم شربت من لبنها ،كانت تساعد أمى على إرضاعى، فلم تكن أمى بالشابة الفتية ،وإنما صغيرة 16سنة ..
حتى اللحظة وأنا على مشارف الستين لاأشرب سوى لبن الجاموسة .
كانت عطّاءة وبلا حدود .أليفة مألوفة ، أشعر بها وكأن بينى وبينها رابط لاينفصم ..تستجيب لأوامرى ،ولاتتقبل أن يسحبها غيرى ،أو يحممها أو يسقيها ،وياويل من يقترب منها دون وجودى معه.
تحكى أمى :فى يوم أردنا حلب الجاموسة ولم تكن موجوداً،وحاولنا الاقتراب منهاإلا أنها هاجت وماجت ورفست كل من يقترب منها،وسعينا فى العثور عليك ..وبعد وقت طويل حضرت وبمجرد أن دخلت عليها الزريبة هدأت واستكانت وقمنا بحلبها.
علاقة أمن وأمان ..دعتنى فيما بعد البحث والتنقيب عن علاقة الإنسان بالحيوانات والطيور .

(5)

ابن خلدون وموسوعته الخالدة "العبر " وفى بدايات سن الإخضرار والتكوين قرأت عنه ماكتبه الدكتور على وافى.. محقق كتابه العبر بأجزائه .
حثنى هذا الكتاب على شراء مقدمة ابن خلدون والتى قامت على طبعها دار الشعب فى مصر .
وفى العقد الثامن من القرن الماضى ،وكان شقيقى الذى يلينى" أنور" قد سافر إلى العراق العظيم "حرر الله أسره وطهره من دنس الاحتلال" وفى خطاباته المرسلة إلىّ طلب منى أن أكتب له أسماء الكتب التى أريدها ،فطلبت منه أعمال السياب ونازك الملائكة وأعمال أودنيس ،فأتى بأعمال السياب كاملة ونازك وأتحفنى بكتاب الدكتور محمد عابد الجابرى " العصبية والدولة " وسهرت فيه الليالى محاولاً الإطلاع عليه ..وكانت هذه الرسالة القيمة من أول دراسات الجابرى التى فتحت وعيى على أعمال ابن خلدون الفذة .
وكانت دراساته المطولة عن معرفة القرآن الكريم ..آخر كتبه التى طالعتها مرةً بعد مرة .
رحم الله فقيدنا ،فقيد الفكر العربى، الأستاذ الكبير الدكتور محمد عابد الجابرى .. غفر الله له وأدخله فسيح جناته ..وألهم أحبابه الصبر والسلوان .
وإنا لله وإنا إليه راجعون

(6)
فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى ، تقدمت ببحث دراسات عليا "عن القصد الجنائى الخاص فى جرائم الآداب العامة أو الجرائم الجنسية"الزنا ،الاغتصاب ،هتك العرض ،الحث على الفجور ،الفعل الفاضح العلنى وغير العلنى ،ممارسة الدعارة ،التحرش الجنسى ...إلخ
كنت مهتماً بهذه الجرائم ،نظراً لقلة الدراسات فيها ،واستطعت بتوفيق من الله ،أن أبحث عن الجانب القانونى والجانب الإجتماعى ..وانتهيت إلى أن الظروف الإجتماعية التى تسود المجتمع ،من فقر ومرض وجهل وتعتيم وتقاليد رثة وحياة قاسية تأباها الكلاب ، أحد الدوافع إلى اقتراف هذه الجرائم .والإنحرافات الجنسية.
وارتكاناً إلى انغلاق المجتمع وعدم البوح بما ترتكب فيه من جرائم، ومحاولة التستر عليها بشتى الطرق،والتمسك بالعادات والتقاليد الرثة ،والتأويل الخاطىء لقيم الدين الإسلامى، وأن الله حليم ستار وربنا يستر على ولايانا ...إلخ وشيوع منظومة الستر وعدم التبليغ عن جرائم الإعتداء ،على القاصرات والقاصرين ،من ذويهم وأقاربهم .
كل هذا أدى فى النهاية إلى وأد التبليغ وانتشار الجريمة فى الخفاء كالنار فى الهشيم أو كما نقول فى الريف "كالميه تحت التبن "التبن هو سيقان أعواد القمح المهشمة " فأكوام التبن تتسرب تحتها المياه دون أن تحدث بللاً ،وتظل تتسرب دون أن يكتشفها أحد ،وفى النهاية يتعفن التبن وعدم صلاحيته لغذاء المواشى .
وفى مرحلة تالية .. تبين لى من خلال الإطلاع على قضايا الآداب العامة -قسم الإحصاء - الكثير من قضايا الاعتداء على القاصرات والقاصرين من الأب أو الخال أو العم أو الإخوة .
وتحدثت فى ندوة قانونية - أوائل الثمانينيات من القرن الماضى -عن ضرورة التصدى لهذه الظاهرة والتبليغ عنها ودراستها إجتماعياً ونفسياً ، وتقديم النتائج والحلول ،حتى تكون تحت بصر علم السياسة الجنائية وعلم الاجتماع الجنائى.ويتم القضاء على هذه الظاهرة التى تهدد تماسك بنيان المجتمع وتدعو إلى تفسخه وشيوع الفساد فيه..
فجريمة زنا المحارم أو الإعتداء على القاصرات والقاصرين، جنسياً ،من قبل ذويهم وأقاربهم ،من الجرائم الخطيرة وتأثيرها المتعاظم على تفسخ النظام الأسرى والترابط العائلى .
ومنذ سنوات، كنت بإحدى المحاكم.. ورأيت ثلاث بنات فى سن المراهقة "12إلى 15سنة " يتم التحقيق معهن فى واقعة بشعة وخطيرة ،وإقرارهن أن والدهم بعد موت أمهم ،كان يمارس معهم الجنس بالقوة وحبسهن وتهديدهن بالضرب المبرح ،بل الكى بالنار ،بل بالموت إن باحت إحداهن بما يفعله بهن.
وفجأة تعبت إحداهن تعباً شديداً ،فأتت إحدى الجارات واصطحبتها إلى المستشفى العام وبتوقيع الكشف عليها من قبل الطبيب المختص تبين حمل الفتاة والتى لم تبلغ 15سنة، وسألها الطبيب :هل أنتِ متزوجة أو على علاقة جنسية بأحد ؟؟فلم تستطع رداً وبسؤال الجارة قررت: أن الأم ماتت منذ سنة وتركت بناتها الثلاث مع والداهن وقلّ أن يزورهم أحد.
وبكت البنت وصرخت ،أن والداها هو الذى فعل بها ذلك، بل وبأختيها أيضاً ،فما كان من الطبيب أن أبلغ نقطة الشرطة بالمستشفى للتحقيق وإبلاغ النيابة العامة ..وتم القبض على والد البنات وصدر قرار من النيابة العامة بحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق وإحالة البنات للطب الشرعى لبيان عما إذاكن مازلن أبكاراً من عدمه ...إلخ.
وتابعت القضية التى كانت فضيحة مدوية هزت المجتمع من جذوره ،وأثبتت أن هناك خللاً أخلاقياً ومزيداًمن الجرائم البشعةوالإنحرافات الجنسية التى تتم فى الظلام ولايدرى عنها أحد ..وصدر الحكم بالحبس خمس سنوات مع الشغل .
لكن ما شغلنى حقاً هو مصير البنات الثلاث .
نعم ،بدلاً من الإختباء وراء القيم والمُثل العليا والحديث عن طهارة المجتمع العربى الإسلامى وفساد المجتمعات الأخرى "فهم بشر، ونحن بشر ،نخطئ كما يخطئون " ،
لابد من وقفة متأنية وحازمة مع هذه الجريمة البشعة الخطيرة والعمل على الوقاية منها وتنبيه المجتمع إلى فظاعتها ،دينياً وإجتماعياً وأسرياً ومعالجة أوجه القصور ،إجتماعياً وإقتصادياً وتربوياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق