إلى.. بياتريس
كتبت كثيراً عن الصوفية وأقطابها فى التراث العربى الإسلامى والفارسى خاصةً.
فقيل لى :هل أنت صوفى؟؟
فكان جوابى :إنها ثقافات أنهل منها ،فللقلب وقت ٌ، وللعقل أوقاتٌ.
وهاهو دافينشى يُشاركنى قلبى وعقلى.
ليوناردو دافينشى ..عصيٌّ على النسيان ،تتصدر لوحته الخالدة الموناليزا قاعة كبيرة من قاعات متحف اللوفر بباريس ..يشاهدها الملايين ..
ولكن لى حديث يطول عن أحد مواهبه الخفية .
من اهتماماتى فى سنوات التكوين ،الإطلاع على تاريخ الفن من نحت وعمارة تصوير وفنون تشكيلية .
كنت أحرص على زيارة المتاحف وأجمع نماذج من اللوحات العالمية والمصرية ،وكان دافنشى من الفنانين العظام الذين فتنت بهم وبأعمالهم .
عرفتُ ليوناردو دافنشى ..رساماً ذائع الصيت ولوحاته "الموناليزا ،العشاء الأخير ،ليدا والبجعة ....إلخ
ولدىّ موسوعة تارخ الفن الذى أصدرها الدكتور ثروث عكاشة ...وكتالوجات لكبار الفنانين عبر العصور ،ودراسات عن أعمالهم للنقاد العرب أو الأجانب مترجمة إلى العربية.
لكن الجديد ..فى هذا الفنان العظيم.. قدرته الفائقة فى القص واختراع الأساطير وسرد الحكايات .
فعلاً ..لم أكن مصدقاً وجود هذا النبوغ فى دافنشى ..لكنه كان حقيقياً وثابتاً بالكتابة .
وقدعثرت على هذا الكتاب النادر وقراته مرات ومرات ثم شغلتنى الأيام وراح من بالى ،ومن مدة حاولت مراجعة مكتبتى لكثرة مافيها من كتب ،فوجدت هذا الكتاب النادر .فعاودنى الحنين إلى العيش معه بضع ساعات وكانت هذه الكتابات المتواضعة.
ولنقرأ ماكتبه الدكتور ثروت عكاشة عن دافينشى ..المولود فى سنة 1452م والمتوفى فى سنة 1519م فى كتابه "فنون عصر النهضة 1-الرينيسانس" طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987م ، من ص153إلى ص 158
'إن كل ما بلغه جوتو ومازاتشيو في تمثيل القيم اللمسية، وكل ما حقّقه فرا أنجيليكو وفرافيليبو في مجال التعبير، وكل ما ابتكره بولايولو في صعيد الحركة وفيروكيو في استخدام الضوء والظل، كل ذاك قد تمثّله ليوناردو Leonardo Da Vinci وزاد عليه، مُملياً عن موهبة وعن تجربة شأن غيره ممن سبقوه. فإذا استثنينا فيلاسكيز الإسباني ورمبرانت الهولندي فلن نجد مَنْ جَلّى القيم اللمسية على هذا النحو من الجلاء اللافت غير ليوناردو على نحو ما نرى في لوحته الشهيرة "موناليزا"، وإذا ما نحن خلّينا جانباً الفنان الفرنسي ديجا Degas فلن نجد مصوّراً طوّع عنصر الحركة مثل ما طوّعها ليوناردو في لوحته التي لم تتم عن "تقديم المجوس الهدايا للمسيح الطفل" التي يحتفظ بها متحف أوفتزي، كما لم يبلغ ليوناردو في تمثيله للأضواء والظلال على النحو الذي فعله في لوحة "القديسة حنّة والعذراء والمسيح الطفل"، فأنى لنا بمثل هذا الذي نراه في أعمال ليوناردو من سحر للشباب يستهوينا، ومن فتوّة للرجال تستغوينا، ومن وقار للشيخوخة يطوي أسرار الدنيا بين جوانحه؟ فلم يسبق ليوناردو مَنْ صوّر رقة العذرية ونقاءها وخَفَرها وهي تستقبل حياتها، أو مضاء حَدْس المرأة في عنفوانها وصدق خبرتها. وإذا تأمّلنا عجالاته التخطيطية عن العذراء فلن نجد لها ضريباً، فليوناردو هو الفنان الوحيد الذي يمكن أن يُقال عنه بأمانة وصدق إن ليس ثمّة شيء لمسته يداه لم يتحوّل إلى جمال باق سواء أكان رسم قطاع لجمجمة أو بنية نبتة من الأعشاب أو دراسة لمجموعة من العضلات، فهو بإحساسه العميق بالخط وبالأضواء والظلال قد حوّل هذه العناصر جميعاً دون قصد إلى قيم ناطقة بالحياة، فقد رسم ليوناردو معظم عجالاته البارعة لإيضاح مسائل علمية بحتة كانت عندها تستولي على تفكيره.
ومع أنه كان مصوّراً عظيماً نابغاً فلم يكن أقل قدرة منه نحّاتاً ومهندساً وموسيقياً ومخترعاً، وهذا الذي أنجزه من أعمال فنية أثناء حياته لم يستغرق غير لحظات اختلسها من وقته الذي وقفه ساعياً وراء المعارف العلمية والنظرية. والثابت أنه لم يكن ثمة ميدان من ميادين العلوم الحديثة لم يخطر بباله سواء أكان ذلك عن رؤى كالتي يراها الحالم أو إرهاصاً كالذي يسبق الرسالات، كما لم يكن ثمة مجال للتأمل الخصب لم يبرز فيه رجل حر التفكير مثله، ولم يكن هناك مجال من مجالات الجهر البشري لم يسهم فيه ويتفوق، فكل ما كان يبغيه من حياته هو أن تتاح له الفرصة لكي يحقق ما ينفع العالم ويفيده. وهكذا يبدو لنا أن انكفاء ليوناردو على التصوير لم يستحوذ على المقام الأول من نشاطه، بل لم يكن غير لون من ألوان التعبير يفزع إليه مَنْ له مثل عبقريته عندما يجد أنه لا شاغل له غير ذلك، وحين لا يكون غيرها هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن أسمى الدلالات الروحية من خلال أسمى الدلالات المادية.
وعلى الرغم مما كان يملك من قدرة فنية فائقة كان يملك إحساساً مرهفاً بكل ما له دلالة جوهرية يفوق تلك القدرة، الأمر الذي يقف به متريّثاً بين يدي تصاويره جاهداً في أن يعكس هذه الدلالات في تفصيل مفرط عن إحساسه الذي تعجز يده عن تجسيمه. من أجل هذا كان نادراً أن يمضي في الكثير من لوحاته إلى إكمالها، وبهذا فقدت البشرية جملة من التصاوير كمّاً لا كيفا. وكثيراً ما نذهب إلى أن العبقرية هبة واحدة تصدر عن موهوب واحد، ولكن في رأي البعض هي هبات مختلفة تصدر عن الموهوب نفسه. وهذا ما نعلّل به صدور تلك الأعمال المختلفة عن ليوناردو، علمية وهندسية وطبية ومعمارية إلى جانب أعماله التصويرية.
وما أبعدنا عن الإنصاف حين نأخذ على ليوناردو قلّة ما خلّفه من تصاوير، فلقد كان معنيّاً بما هو أجلّ من التصوير، وحسبه ما خلّفه من إنجازات فنية قليلة تعيش عليها الإنسانية إلى يومنا هذا. فلقد كان له فضل الكشف عمّا في تصوير الأسطح من جاذبية، ثم هو إلى هذا كان خبيراً بأصول التشريح مُلمّا بشؤون الطبيعة. وقد اجتمع فيه ما لا يجتمع لإنسان، فلقد كان على حظ من دقّة الملاحظة لا تعرف الملل، والسعي وراء الحقائق دون كلل، هذا إلى ما كان يستمتع به من حسّ فنّي مرهف. ثم كان ليوناردو مصوّراً لا يقف عند المظهر الخارجي للأشياء بل يتعمّق الأمور حتى ينفذ إلى داخلها مكلّفاً نفسه العناء في تعرّف الدوافع المحرّكة للمخلوقات. وهو بهذا يعدّ الفنان الأول الذي ابتدع الأسس العلمية لدراسات النسب في الإبداع عامة، وآلية الحركة. ثم إليه يُعزى أول تأليف في علم الفراسة حتى استطاع أن يخلص من تلك الدراسة إلى ما يعلّل الانفعالات، وهو ما يدلّنا بلا شك على صلة وثيقة بينه وبين المخلوقات. ويروي عنه في هذا الصدد المؤرّخ فاساري أنه كان يراه أحياناً في السوق يشتري الأقفاص من الطيور لا لشيء إلا ليُطلق سراحها. وإنا لنحسّ في تصاوير ليوناردو دقّة المواءمة فلا يفوته شيء وإن هان، ودليل ذلك عنايته بالجزئيات اليسيرة عنايته بما هو أهمّ، مثل تنويعات ظلاله وضيائه الرهيفة، كما فاق غيره في استخدامه الخطوط وسيلة من وسائل التعبير، مُضفياً عليها رهافة بالغة، حتى بتنا لا نلاحظ ما يماثل الحدود المحوّطة بأشكاله، تلك الحدود التي تتفاوت لمساتها إلحاحاً على اللوحة.
وكان الفن والعلم أشدّ ارتباطاً عند ليوناردو منهما في عصرنا الحالي، ولذا نظر إلى فنه على أنه ضوء للفلسفة والعلم. وحتى ظهور ليوناردو كانت مواهب الإنسان وملكاته في خدمة الدين، ومنذ أن كان ليوناردو غدت هذه المواهب والملكات في خدمة الحياة. وعند هذا كانت نهاية العصور الوسطى حين أصبح العالم تهيمن عليه القوى العلمية نفسها التي انبثقت عن العصور الوسطى. ولقد كان يرى فيما أنه ليس ثمة ارتباط بين الدين والعلم على العكس مما كان يرى غيره من علماء العصور الوسطى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فلا يعنّي نفسه بالتوفيق بين منطوق العلم ومنطوق الدين.
كان الفكر والرسم عند ليوناردو ليسا غير وسيلتين لتعرّف كنه الحقيقة بعد أن يوسعهما تحليلاً ليزيداه تبصيراً، بدءاً من الأسهل وانتهاء بالنظرة التركيبية..البدء بالجزئي وضمّ إليه مثله ليتكون منه الموضوع المراد تركيبه. وفي الفن هو ضم الجزئيات المكوّنة للرسم أو الصورة حتى يتكوّن منها شكلاً كاملاً. وذلك على العكس من المنهج التحليلي الذي يعتمد على الاتجاه من الكل إلى الأجزاء. (م.م.م.ث). ، فتتكشّف له ينابيع الإبداع الفني والعلمي، وهو النهج الذي احتذاه فيما يفكّر ويرسم. وعلى الرغم من أنه كان يهدف في أعماله الفنية إلى التعبير عن الجمال وفقاً لمفهوم "المثل الأعلى الجمالي" في عصر النهضة إلا أنه كان يرى الجمال لوناً من ألوان الفضول الذهني أكثر منه إشباعاً للروح، إذ كان الجمال بين يديه كاللغز عليه أن يحلّ طلاسمه. ومن هنا كان يسائل نفسه أنّى له أن يُفصح عن الجمال حتى يغدو حقيقة مُدركة، إفصاحه عن أية مسألة غامضة بعد أن يسبر غورها لتصبح هي الأخرى حقيقة واضحة. وهكذا حرّك اللغز الذي ينطوي على الجمال من فطنته بمثل ما حرّكته معمّيات التشريح والتحليق في الجو، فلقد كان حريصاً على أن يتعرّف كنه الجمال وسرّه لكي يؤتى القدرة على الإفصاح عنه حين يريد، وبهذا اطّرح جانباً ما يقوم على الرؤية التجريدية والنظرية، وعكف على المجالات التخطيطية إلى جانب الرسوم التفصيلية متجاهلاً النسق الهندسي للشكل، سابراً غور التجارب، فكان أن وقع على عنصر الزمن واستنبط أن كل المكوّنات في حركة دائبة وتغيّر متّصل.
لم يلتزم ليوناردو في الخطوط تفصيلاً ولا تحديداً، ففي هذا الالتزام قيد يجعل الشكل آلياً حرفياً، وكان هذا هو الفرق بين منهجه وأسلوبه ومنهج فناني العصور الوسطى وأسلوبهم الذي كان يخضع لتقاليد وأنماط موروثة. كذلك كان ليوناردو فيما يرسم شاعراً إلى جانب كونه مصوراً، فالمصور والشاعر كلاهما يُصْدر عن إيحاء ذهني لا يحرص على كمال المبني ولكن يحرص على تمام المعنى، وكلاهما مُبْدعٌ لا مقلّد محترف. ولكي تخرج الصورة من بين يدي المصور غاية في الإبداع عليه أن يعتمد الاعتماد كله على خياله موائماً بين حركات الجسم وما تنطوي عليه خلجات نفسه بِشْراً أو همَماً، سعادة أم بؤساً.
ولم يعرف ليوناردو الحب ولم يتذوّقه ولكنه استعاض عن هذا بما وُهب من عبقرية عمرت قلبه مكان العاطفة، لهذا كان أكثر واقعية مما عليه الواقعيون من مصوّري اليوم. وكان استقصاؤه للمعرفة أشدّ ما يكون توقّداً إذ كان شغله الشاغل، ما يكاد يقع على شيء حتى يتناوله بالدرس والتحليل وسبر الغور. وعلى الرغم من هذا التطلّع الدارس وانحسار العاطفة فلقد خرجت لنا تصاويره وعليها مسحة من شاعرية لا تقل شأناً عن تلك المسحة التي نراها لمشبوبي العاطفة من المصورين.
ولم يعرف ليوناردو الحب ولم يتذوّقه ولكنه استعاض عن هذا بما وُهب من عبقرية عمرت قلبه مكان العاطفة، لهذا كان أكثر واقعية مما عليه الواقعيون من مصوّري اليوم. وكان استقصاؤه للمعرفة أشدّ ما يكون توقّداً إذ كان شغله الشاغل، ما يكاد يقع على شيء حتى يتناوله بالدرس والتحليل وسبر الغور. وعلى الرغم من هذا التطلّع الدارس وانحسار العاطفة فلقد خرجت لنا تصاويره وعليها مسحة من شاعرية لا تقل شأناً عن تلك المسحة التي نراها لمشبوبي العاطفة من المصورين.
ولقد كلّفه هذا نضالاً شاقاً طويلاً ليتبوّأ منزلة ملحوظة بين رجال عصره كان سداها ولحمتها الهيبة لا المحبة، إذ كانوا مشدوهين بما يتم على يديه من كل مُعْجز خارق للعادة. والغريب أن هذا الرجل لم يلق حظّه بين معاصريه مصوّراً، فلقد كان لورنزو مديتشي حاكم فلورنسا التي على أرضها نشأ ليوناردو ينظر إليه باعتباره موسيقياً ومخترع آلات تستلفت النظر ولا عهد لأهل عصره بها. وكذا لم يجد فيه لودوفيكو سفورزا عاهل ميلانو غير معماري ومُعدّ للحفلات العامة. ووجدنا البابا ليو العاشر من أسرة مديتشي لا يُهيَئ لمواطنه الفلورنسي مكاناً بين المشرفين على المشروعات الفنية البابوية في روما، بل عهد إليه بما هو بعيد عن الفن فأناط به استصلاح أراضي مستنقعات جنوبي روما!
ولقد كان الفضل في ذيوع شهرته مصوّراً يرجع إلى أبيه الذي كان يمتهن المحاماة وتسجيل العقود إذ كان أول من أبرم له عقداً بينه وبين أحد رعاة الفنون حينذاك لعمل لوحة "تقديم المجوس الهدايا للمسيح الطفل". وكذا يعود الفضل في ذيوع صيته مصوّراً إلى لويس الثاني عشر ملك فرنسا الذي كان من حَدَبِه على ليوناردو واحتضانه إياه ظهور لوحة "العشاء الأخير" إلى الوجود. ولم نَر واحداً من حكام إيطاليا يرعاه ويحتضنه غير إيزابيلا ديستي، فأخذ يتجول هنا وهناك إلى أن انتهى به المطاف إلى فرنسا حيث مقام الملك لويس الثاني عشر الذي رعاه وضمّه إلى بلاطه.
وقد يعزو الدارسون هذا إلى ما كان بين ليوناردو وبين البيئة الفلورنسية التي كانت تُظلّه من تنافر فكراً وروحاً، فلقد كان لا شك غريباً على عصره، أعني عصر النهضة الذي عاش فيه بمُثُله ومذاهبه، وكان ما يزال متأثّراً بالتيار الفكري الذي شاع في نهاية العصور الوسطى. وهذا لا يعني أنه لم يكن ذا نظرة مستقبلية، فهو الذي أرسى القواعد لما جاء بعد أفول المبادئ الأفلاطونية التي أعقبت غروب عصر النهضة فكان بما أرسى يُعدّ البشير بإشراق فكر جديد. وهو على هذا لم يحظ بما حظي به أبناء علية القوم من تلقّي العلم على أيدي أساتذة عصره، فقد نشأ بجهده الذاتي فعلّم نفسه بنفسه، وإذا هو بذلك يخلق في نفسه روح التحدّي لهؤلاء الذين تلقّوا على أيدي الأساتذة، مردّداً عبارته المعروفة بأن الطبيعة هي معلّمه الأول والأخير الذي لقن عنه علمه وفنه.
أما عن آرائه الفلسفية فمن ورائها اثنان كان لهما أثران: الإيجابي والسلبي. أما عن الأثر الأول أعني الإيجابي فيُعزى إلى أرسطو الأثير بين الدارسين خلال العصور الوسطى، وكان ليوناردو يعتنق مذهبه. أما عن الأثر الثاني أي السلبي فمردّه إلى ما كان ليوناردو يأخذه على الفيلسوف اليوناني أفلاطون. فعلى حين نرى اسم أفلاطون لا يتردّد على لسانه فلا يجري به قلمه في مذكراته غير مرة واحدة، نرى أرسطو يكاد اسمه يتردّد مرات عشراً. ومما يُذكر في هذا الصدد أنه لم يتأثّر بما ترجمه مارسيليو فيتشينو رائد المذهب الإنساني عن أفلاطون وقتذاك، وكان يسخر من مؤلّفاته ويسفّهها لا سيما ما جاء عن أفلاطون في علوم الهندسة، ويُؤثر عنه أنه كان يقول: ما لأفلاطون والهندسة؟ فالهندسة علم يقاس بالمسطرة والفرجار لا بالرأي والفكر المجرد. ولقد رأى ليوناردو في الأرسطية مذهباً يقوم على التجارب الحسيّة لا على الأفكار المجردة التي كان يؤمن بها الأفلاطونيون الجدد في عصر النهضة ويرونها الأساس لكل شيء، وهي التي بنوا عليها نظرية "الجمال المثالي".
أما عن الآداب الكلاسيكية فلم يكن يعنى من بينها إلا بما هو حسّي لينفذ إلى الحقائق المادية، فانكب على قراءة أوفيد متأثراً بحكمه وتأمّلاته، وإذا هو يعجب بما ذكره الشاعر هوراس عن حركة الأفلاك، وكذا أعجب بوصف لوكريشيوس للأسلحة البدائية، وشغل بما وصف به فرجيل الدروع، وكان أشد إعجاباً بلوكيانوس فيما جاء عنه من وصف للمنجنيقات والمعابر المائية التي كانت تستخدمها الجيوش في الانتقال من شاطئ إلى شاطئ. ولقد شدّه إليهم المؤرخون مثل ليفي وجوستنيان أكثر مما شدّه إليه الشعراء، ولكن أكثر من كان يشدّه إليهم العلماء وخاصة بلينيوس الأكبر بكتابه "عن التاريخ الطبيعي".
الحكايات والأساطير ،عبرالعصور وفى جميع البلدان،ينبوع ثرى لاينضب .تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل ،فيها الحكمة والموعظة والطرافة والفكر والفكاهة والسخرية والفلسفة .ربما كان ابن المقفع فى خالدته "كليلة ودمنة " ممن حاولوا أن يقولوا رأيهم عبر حكايات الحيوانات ،خشية من النهاية المحزنة مع الطغيان الفكرى وسوء الفهم وكيّل الاتهامات بالزندقة والإلحاد والمروق عن الملة والردة والتفريق بين صاحب الرأى وزوجته وشيوع الاستبداد السياسى والسلطوى والقهر المنظم الذى ساد ويسود ،حتى اللحظة، لكل صاحب رأى وفكر يخالف رأى و فكر السلطان ،ورغماً عن ذلك ،كانت نهاية ابن المقفع أبشع نهاية لصاحب رأى وفكر .
ويقص لنا دافينشى أسطورته الجميلة "عصفور الحسّون المغرد " فيقول :
عاد الحسون إلى عشه حاملاً دودة صغيرة بفمه ،ولم يجد صغاره .
وظن أن شخصاً ما قد سرقهم أثناء غيابه .
وأخذ الحسون يبحث عنهم فى كل مكان وهو يبكى ويصرخ ،وكان صدى نداءاته البائسة يسمع فى جميع أنحاء الغابة ،ولكن لم يكن هناك من يجيب عليه .وذات يوم قال له طائر البرقش:
يبدو لى أننى رأيت صغارك فوق منزل الفلاح.وانطلق الحسون مفعماً بالأمل ،وبعد وقت قصير وصل إلى منزل الفلاح . وهبط على السقف ..لم يكن أحد هناك ،ونزل إلى الجرن ..لقد كان خاوياً . ولكنه لمح ،وهو يرفع رأسه ،قفصاً خارج النافذة . لقد كان صغاره سجناء بداخله . وعندما شاهدوه متعلقاً بقضبان القفص ،أخذوا يزقزقون طالبين منه أن يحملهم بعيداً،وحاول هو أن يحطم بمنقاره وساقيه حواجز السجن ،ولكن محاولته ذهبت هباء . وفى اليوم التالى ،عاد الحسون من جديد إلى القفص حيث كان أبناؤه ،ونظر إليهم عبر الحواجز وأطعمهم واحداً واحداً للمرة الأخيرة .
وواقع الأمر ،أنه قد حمل لصغاره العشب السام ، وهكذا لقيت الطيور الصغيرة حتفها .وقال " من الأفضل أن يموتوا بدلاً من أن يفقدوا حريتهم".كانت الحرية ..وكما أكدت فى العديد من سطورى ومواضيعى ومشاركاتى ..لاتوهب فهى لصيقة بالإنسان ،فالحرية هى الإنسان ،فهو المخلوق الوحيد من بين مخلوقات الله الذى حمل أمانة الحرية فهو حر .والمحكوم عليه بالحرية .
هكذا أراده الإله.
وهكذا خلقه . الحرية أو الموت ..
إعجابى بمسيرة الفنون عبر عصورها المختلفة ،وتطلعى إلى الإلمام بكل شيىء ، ومحاولة إشباع نهمى وجوعى إلى مناهل المعرفة أياً كانت ،من رسم ونحت وعمارة وتصوير وموسيقى وفلسفة وأدب والسعى المتجدد نحوالمعرفة والتواصل مع كل رافد من روافد الثقافة القديم منها والحديث والمستجد ..
كل هذا النهم هى مجاهدة منى لتقريب الهوة بين النقص والكمال .
لكن ليوناردو دافينشى صاحب موهبة فذة أنعم الله عليه بها ،فلم يتركهاولم يهدرها وحاول أن ينقلها لنا ،نشاركه المتعة والمعاناة .فى سنة 1909م لم يسلم دافينشى من التحليل النفسى لسيجموند فرويد فكتب عنه دراسة قيمة نشرها فى سنة 1910م وترجمها وقدمها الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة "شقيق الدكتورثروت عكاشة إذا لم تخنى ذاكرتى الخؤون " ونشرتها الأنجلو المصرية سنة 1970 م وكان ثمن النسخة 30قرشاً مصرياً ،وهو فى هذا التاريخ "مبلغ ضخم جداً "لكننى تحدثت مع والدى رحمه الله أن يزيد فى مصروفى خمسة قروش ، لأتمكن فى خلال أسبوع شراء هذا الكتاب ، ولم يمهلنى والدى فأعطانى المبلغ كاملا واشتريت الكتاب .فقد كان يوقظ فىّ كل شيىء جميل ويدعونى بقوة إليه ،ويبعدنى عن كل شر يحدق بى .كنت ،فى مراهقتى ،مفتوناً بلوحة الجيوكوندا أو الموناليزا ومهتماً بها .فقد رأيت فيها جمالاً باهراً وابتسامة عريضة ورضى وقناعة وأقرأ ماكتبه فرويد" عندما يتأمل الإنسان ليوناردو تقفز إلى أذهاننا هذه الابتسامة الأخاذة المحيرة على شفتى نماذجه النسائية ،ابتسامة لاتتغير فوق شفتين طويلتين مقوستين ،وقد أصبحت هذه الابتسامة إحدى علامات أسلوبه المميزة فى التصوير حيث أطلق عليها "ليونارديسك" وقد جاء أثرها القوى الغامض عندما رسم وجه فلورتتين موناليزا جيوكوندو الجميل وقد حاول الكثيرتفسيرهذه الابتسامة دون توفيق.........................وقد قضى ليوناردو أربع سنوات فى رسم هذه الصورة من 1503م-1507م خلال مدة إقامه الثانية فى فلورنسا بعد أ ن تخطى سن الخمسين "
وأنقل أسطورة من أساطير دافينشى .
وكما أن الأسد يوقظ صغاره بصيحة مدوية ،يوقظ المديح المعقول فضائل أبنائنا النائمة ،ويحثهم على الاستذكار بطموح ،وهو يبعد كل ما هو غير جميل وغير طيب."
ولد أبو محمد، على بن أحمد بن سعيد بن حزم ،فى قرطبة ،صبيحة الأربعاء آخر يوم من رمضان عام 384هجرية - 7من نوفمبر 994ميلادية ،وكما يذكر فى كتابه "طوق الحمامة .فى الألفة والآلاف"ومما أذكره عن هذا العلاّمة أنه وقد عاش فترة اضطراب السلطة فى الأندلس وكان أحد ضحاياها فعانى السجن والقهر والذل .
وكان المذهب المالكى وشيوخه وفقهاؤه الذين لهم الصولة والجولة والكلمة المسموعة ،وتقلبهم مع كل حاكم جديد وإصدار الفتاوى التى تتغير بحسب الأحوال .
فصار المذهب المالكى هو السائد،فتوى وتشريع وتعليم وأحكام ،ومناهضة الحكام لأى مذهب سواه والعمل على تحجيمه بل ومعاقبة من يدين بغير الولاء للمذهب المالكى بعقوبات متعددة والتشهير به ومدى خطورته على تدين الناس وإفساد عقيدتهم .وهكذا عاش ابن حزم فترة صعبة ثائراً وصاحب فكر ورؤية جديدة وكيلت له الإتهامات فى عقيدته ودينه وقناعاته الفكرية .لأنه لايميل إلى المذهب المالكى ويبشر بمذهب جديد.ومن ثم كان التعتيم والإقصاء للمذهب الظاهرى الذى كان أحد أعمدته مع الشنترينى ،وطمس معالمه ومقاومة من يدرسه أو يقوم عليه .
هكذا أصبح رجالات وشيوخ وفقهاء وعلماء المذهب المالكى فى خدمة السلطان وبكلمته صار المذهب الوحيد الواجب نشره ،تعليماً وفتاوى وتشريعاً وأحكاماً، أما ماعداه من مذاهب أخرى فلابد من خنقها .عرفتُ ابن حزم الأندلسى فقيهاً وقاضياً ومؤرخاً وتراثه الفكرى الذى يتنوع بين الفلسفة والتاريخ النقدى للأديان والفرق والمذاهب وكتابه الفارق "طوق الحمامة فى الألفة والألاف" الذى قرأته مراراً وتكراراً فهو فى نظرى أعظم وأروع وأعمق وأشمل كتاب كُتب عن الحب ،وقد كتبه وهو فى الثامنة والعشرين من عمره .
ويحكى د.زكى مبارك ..أنه لما قام بنشر هذا الكتاب ،هاجت العمائم وماجت واضطربت أمور شيوخ الأزهر وأنكروا أن يكون هذا الكتاب من تأليف الفقيه الكبير ابن حزم صاحب" الإحكام فى أصول الأحكام "؛فالحب لديهم عار وأى عار والكتابة عنه عبث وقلة أدب ولايجوز أن يكتب ابن حزم هذا الكلام الفارغ الذى لايليق بالعلماء .
واجتمع شيخ الأزهر وعلماؤه للرد على هذ الفرية وانفض الاجتماع ولم يصدر بياناً .وأعجبنى جداً كتابه"الأخلاق والسير فى مدواة النفوس" ،رأيت فيه تجارب عالم وثقافة متعمق فى الحياة وخبير بالنفوس البشرية وحكمة الشيوخ ورزانة العقل وسعة الأفق .بل رأيتها وصية من عالم جليل إلى الأجيال ،تتناقلها جيل بعد جيل .
وأذكر من هذا الكتاب " من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها ،ولم يرافق فى الطريق إلا أكرم صديق "
والكتاب على صغر حجمه ،عظيم الأهمية ،عميق التأثير .
يدور الزمان وتتوالى الأيام ويأتى ليونادو دافينشى ليكتب لنا "وصية الصقر "أسطورة من أساطيره الخالدة." كان هناك صقر عجوز من سلالة نبيلة يعيش وحيداً منذ سنوات طويلة ،فى أعلى صخرة شاهقة ،وشعر بأن ساعته الأخيرة قد دنت . فأطلق صيحة مدوية واستدعى أبناءه الذين كانوا يعيشون على السفح وعندما اجتمعوا كلهم حوله ،نظر إليهم واحداً واحداً وقال :
- لقد أطعمتكم وربيتكم ،لأنكم منذ كنتم صغاراً ،كنتم قادرين على التطلع إلى الشمس .
ولقد تركت إخوتكم يموتون جوعاً لأنهم لم يتحملوا التطلع إليها.
لهذا فأنتم جديرون بالتحليق إلى أعلى من كل الطيور .
إن من لايحب الموت يجب ألا يقترب من عشكم .
يجب أن تهابكم كافة الحيوانات،وأنتم لن تؤذوا من يحترمكم ،ولكن دعوه يأكل من فضلات فريستكم .
إننى الآن على وشك أن أترككم ،ولكنى لن أموت هنا فى عشى .
سأطير إلى أعلى ،حيثما تستطيع أن تحملنى أجنحتى سأتوجه ناحية الشمس كما لو كنت ذاهباً إليها .
إن أشعتها الملتهبة ستحرق ريشى العجوز ،وسأهوى إلى الأرض ، وسأسقط فى الماء .
ولكن بفعل هذا الماء ،وبمعجزة ،سأولد مرة أخرى ،سأعود شاباً مستعداً لبدء وجود جديد .
هذه هى طبيعة الصقور وهذا مصيرنا .
ولما فرغ الصقر النبيل من كلماته ،حلق ودار فى عظمة وضراعة حول الصخرة حيث كان أبناؤه ،ثم فجأة اتجه مستقيماً ناحية السماء لكى تحرق الشمس أجنحته المنهكة ."
لقد استسلم الجميع وهرولوا وبدون وعى نحو الإرتماء فى أحضان حكومات جائرة ،بدلاً من الإتحاد فى وجه الظلم والفقر والمرض والفساد والمحسوبية والرشوة والنصب والاحتيال.
كنا فى بداية السبعينيات من القرن الماضى "طلاب جامعات " نبحث عن العدل والحق والخير ،جامعة القاهرة التى هزت عرش "السادات" وأزعجت مضجعه وأحداث يناير 1977م الخالدة .
تشهد بثورة طلابية عارمة تجسّد فيه جسد الشعب هذا ،المترهل ،المشتت ،المتفكك،المحطم ،الضائع ،وقد استجمع كل قواه ليشكل كُلاً متجانسا ،لافرق بين صغير وكبير ولامسلم ولاقبطى ،فقد نهض مارداً عملاقاً ،فى شتى أنحاء البلاد ،فى وجه الظلام والجبروت والطغيان ،تحول الجبن إلى شجاعة ،والتفرق إلى وحدة ،والإنقسام إلى إتحاد ،والخمول إلى صحوة .
تجمعت إرادة الجماهير إرادة حرة لكى تقول لضعاف النفوس والمتشككين والمخانيث أشباه الرجال،هانحن ندافع عن وجودنا ،عن هويتنا ،عن ذواتنا ،عن حاضرنا ،عن مستقبلنا .
كنا جبالاُ بشرية تتحرك لتدك معاقل الشر .
تذكرت آنذاك ماقاله الشابى :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ***فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلى *** ولابد للقيد أن ينكسر .
إنها إرادة شعب مأزوم ثائر يريد الحياة الحرة الكريمة .
لقد اندمج الجميع فى إرادة واحدة ..إرادة جبارة تستمد عونها ومددها من إرادة الله ،أصبحت إرادة قوية قادرة تقول للشيىء كن فيكون . فلم يجد السادات سوى الإحتماء بالجيش وحظر التجول واحتلال الدبابات الميادين والشوارع وتكميم الأفواه وفتح المعتقلات والمحاكمات العسكرية والتصريحات النارية وتخوين رجالها وسبهم بأقذع الشتائم وأحط الإتهامات ..كان يزعم أنها انتفاضة حرامية !!!
وقال التاريخ كلمته :أنهم ومن معه اللصوص والحرامية والقطط السمان التى مصت دماء الشعب .
كان حظى أن نلت ضربة قاصمة كادت تودى بى ،لكن المعجزات تصنع المستحيل ..
لقد عشتُ حتى اللحظة ..ومات الطغاة .
وها هو دافينشى يأتينى ،من عمق التاريخ ،ويحكى لى أسطورة من أساطيره الباهرة ،التى تعيد لى ذكرى حواديت جدتى يرحمنا الله وإيانا وإياكم ،التى تحض على الثورة ،فالثورة ضد الظلم مكون أساسى أبدى فى الطبيعة الإنسانية ،فلايصح القول ولايستقيم أن نصنف الشعوب ، أن هناك شعوب ثورية وشعوب غير ثورية .
ولنتأمل الثورات الهادرة "فى كل لحظة ، فى مشارق الأرض ومغاربها .
يقول دافينشى فى أسطورته ..الثور ..
"كان هناك ثور طليق يرتكب المآسى بين القطعان والجماعات . ولم تعد هناك شجاعة لدى الرعاة لكى يسوقوا الأغنام إلى المرعى،بسبب ذلك الحيوان المتوحش الذى كان يحضر فجأة هائجاً وقد خفض رأسه ،لكى يطعن بقرونه كل ما يصادفه فى طريقه . بيد أن الرعاة كانوا يعرفون أن الثور يكره اللون الأحمر ،ومن ثم قرروا فى يوم أن ينصبوا له شركاً.فلفوا قطعة كبيرة من القماش الأحمر حول جذع شجرة ثم اجتبئوا. ولم يجعلهم الثور ينظرونه طويلاً ،حيث حضر وهو ينفث من خياشيمه . وعندما رأى ذلك الجذع الأحمر ،خفض رأسه وانطلق فى ثورة ،ورشق قرونه فى الشجرة محدثاً دوياً كبيراً ،وأصبح عديم الحراك .
وهكذا قتله الرعاة "
وعلى سبيل المثال..
الأسد ،الثور ،الثعبان ،التمساح،الذئب ،الحمل ،الحصان وحيد القرن ،النمس ،القرد ،الدب ،القاقوم ،الحمار ،الثعلب ،اللبؤة، الفأر ،الفيل ،،ابن عرس ،الصقر، حيوان الخلد،عصفور العلعلة ،الفراشة ، البومة ،زهرة الزنبق،المحارة ، النمل ، حبة القمح، البيض،الغراب، الديك،النحل، موسى الحلاقة، اليرقة ، العنكبوت، العنب،................... بل هناك الكثير والكثير .
لقد أعادنى إلى كليلة ودمنة هذا العمل الخالد لابن المقفع.
فماذا يعنى هذا التشابه بين ماكتبه ابن المقفع وماكتبه دافينشى؟؟
من حكايات دافينشى
زهرة الزنبق
نمت زهرة زنبق جميلة على الشاطىء الأخضر لنهر تنسينو .وكانت الزهرة مرتفعة ومستقيمة فوق ساقها ،وتنعكس تويجتها البيضاء على سطح الماءوأراد الماء أن يستحوذ عليها.
وكانت كل موجة تمر ،تحمل معها صوة هذه التويجات البيضاء وتنقل رغبتها إلى الموجات التى تصل بعدها لتشاهدها الزهرة .
وهكذا أخذ النهر كله يتموج ،وأصبحت الموجات مضطربة وسريعة ،وعندما لم تستطع قطف الزهرة الراسخة فى الأرض المرتفعة فوق ساقها المتينة ،اندفعت بقوة تجاه الشاطىء،وسحبت الشاطىء كله إلى أسفل ومعه الزهرة الصافية الوحيدة
سألوا ذات مرة ،أحد الفلاحين المسنين:
- من هو الحيوان الأكثر بهجة من الجميع؟
فأجاب الفلاح:
- إنه الديك..الديك والبهجة هما الشىء نفسه.
إنه يبهج عندما يطلع النهار ،ويصيح ، ويبهج عندما تسطع الشمس ،ويصيح،ويجرى ويقفز ويتقاتل ويمزح وهو يصيح دائماً فى سعادة وسرور .
والفناء كله يسمع الديك فتعمه البهجة .
وتعنى لدى دافينشى "حب الفضيلة . ""ذات مرة كان هناك ناسك يعيش فى الغابة ولا أنيس له غير عصفور العلعلة .
وفى يوم من الأيام توجه إليه فارسان وطلبا منه أن يصحبهما إلى القصر ، حيث سيدهما الذى كان يعانى من مرض شديد .
وذهب الناسك يتبعه العصفور فى صحبة الفارسين وسرعان ما أدخل إلى حجرة المريض.وهناك كان يوجد أربعةأطباء يهزون رؤوسهم وهم يتهامسون .
_ وهمس الذى كان يبدو أكبرهم مركزاً:_ لافائدة ..للأسف ،إنه يحتضر .
ولمح الناسك العجوز الذى كان يقف بالباب ،العصفور الذى كان قد حط على الجدار ،وأخذ يرقب المريض من أعلى .
وحينئذ قال الناسك :
إنه سيشفى . فتعجب الأطباء فيما بينهم وقالوا ولكن كيف يستطيع هذا الريفى أن يؤكد شيئاً كهذا ؟
وفتح الرجل الذى يحتضر عينيه وشاهد العصفور الذى كان ينظر إليه وحاول أن يبتسم .
وشيئاً فشيئاً بدأت وجنتاه تحمران ،وأخذت قواه تعود إليه ،وقال بين دهشة جميع الحاضرين :
كإننى أشعر ببعض التحسن.
وبعد مدة ،حيث كان سيد القصر قد استعاد صحته تماماً،توجه إلى الغابة ليشكر الساحر العجوز .
فقال له الناسك:
- لاتشكرنى .هذا العصفور هو الذى جعلك تبرأ من مرضك،ثم أضاف قائلاً :
إن عصفور العلعلة طائر حساس للغاية :فعندما يتواجد أمام مريض ولاينظر إليه ويدير رأسه إلى الناحية الأخرى ،فهذا يعنى أنه ليس هناك أمل فى الشفاء ،وعلى العكس فإنه إذا نظر إليه كما فعل معك فمعنى ذلك أن المريض لن يموت .وبالأحرى فإن نظرات عصفور العلعلة تساعد المريض على الشفاء .
وحب الفضيلة هو مثل عصفور العلعلة الحساس فهو لاينظر إلى الأشياء السيئة الحزينة ، ولكنه يتعايش مع الأشياء النبيلة والشريفة.
إن وطن الطيور هو الغابة المورقة ،ووطن الفضيلة هو القلب الطيب .إن الحب الحقيقى يتضح فى الملمات ،وهو مثل شعاع الضوء الذى ينير بقدر عمق الظلام ."
كتبت كثيراً عن الصوفية وأقطابها فى التراث العربى الإسلامى والفارسى خاصةً.
فقيل لى :هل أنت صوفى؟؟
فكان جوابى :إنها ثقافات أنهل منها ،فللقلب وقت ٌ، وللعقل أوقاتٌ.
وهاهو دافينشى يُشاركنى قلبى وعقلى.
ليوناردو دافينشى ..عصيٌّ على النسيان ،تتصدر لوحته الخالدة الموناليزا قاعة كبيرة من قاعات متحف اللوفر بباريس ..يشاهدها الملايين ..
ولكن لى حديث يطول عن أحد مواهبه الخفية .
(1)
من اهتماماتى فى سنوات التكوين ،الإطلاع على تاريخ الفن من نحت وعمارة تصوير وفنون تشكيلية .
كنت أحرص على زيارة المتاحف وأجمع نماذج من اللوحات العالمية والمصرية ،وكان دافنشى من الفنانين العظام الذين فتنت بهم وبأعمالهم .
عرفتُ ليوناردو دافنشى ..رساماً ذائع الصيت ولوحاته "الموناليزا ،العشاء الأخير ،ليدا والبجعة ....إلخ
ولدىّ موسوعة تارخ الفن الذى أصدرها الدكتور ثروث عكاشة ...وكتالوجات لكبار الفنانين عبر العصور ،ودراسات عن أعمالهم للنقاد العرب أو الأجانب مترجمة إلى العربية.
لكن الجديد ..فى هذا الفنان العظيم.. قدرته الفائقة فى القص واختراع الأساطير وسرد الحكايات .
فعلاً ..لم أكن مصدقاً وجود هذا النبوغ فى دافنشى ..لكنه كان حقيقياً وثابتاً بالكتابة .
وقدعثرت على هذا الكتاب النادر وقراته مرات ومرات ثم شغلتنى الأيام وراح من بالى ،ومن مدة حاولت مراجعة مكتبتى لكثرة مافيها من كتب ،فوجدت هذا الكتاب النادر .فعاودنى الحنين إلى العيش معه بضع ساعات وكانت هذه الكتابات المتواضعة.
ليوناردو دافينشى
حكايات وأساطير
شرح وإعداد
برونو ناردينى
الرسوم
أدريانا سافيوتزى ماتزا
ترجمة :أحمد يسرى عبدالكريم
الطبعة العربية
تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب
بالإشتراك مع مؤسسةجونتى للطباعة والنشر بفلورنسا -إيطاليا
حكايات وأساطير
شرح وإعداد
برونو ناردينى
الرسوم
أدريانا سافيوتزى ماتزا
ترجمة :أحمد يسرى عبدالكريم
الطبعة العربية
تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب
بالإشتراك مع مؤسسةجونتى للطباعة والنشر بفلورنسا -إيطاليا
وهذا الكتاب من القطع الكبير جداً ومن الورق المصقول 124صفحةوالرسوم بالألوان و72 حكاية وأسطورة .
(2)
ورغم النبوغ فى فن التصوير إلا أن لدافينشى جوانب أخرى .ولنقرأ ماكتبه الدكتور ثروت عكاشة عن دافينشى ..المولود فى سنة 1452م والمتوفى فى سنة 1519م فى كتابه "فنون عصر النهضة 1-الرينيسانس" طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987م ، من ص153إلى ص 158
'إن كل ما بلغه جوتو ومازاتشيو في تمثيل القيم اللمسية، وكل ما حقّقه فرا أنجيليكو وفرافيليبو في مجال التعبير، وكل ما ابتكره بولايولو في صعيد الحركة وفيروكيو في استخدام الضوء والظل، كل ذاك قد تمثّله ليوناردو Leonardo Da Vinci وزاد عليه، مُملياً عن موهبة وعن تجربة شأن غيره ممن سبقوه. فإذا استثنينا فيلاسكيز الإسباني ورمبرانت الهولندي فلن نجد مَنْ جَلّى القيم اللمسية على هذا النحو من الجلاء اللافت غير ليوناردو على نحو ما نرى في لوحته الشهيرة "موناليزا"، وإذا ما نحن خلّينا جانباً الفنان الفرنسي ديجا Degas فلن نجد مصوّراً طوّع عنصر الحركة مثل ما طوّعها ليوناردو في لوحته التي لم تتم عن "تقديم المجوس الهدايا للمسيح الطفل" التي يحتفظ بها متحف أوفتزي، كما لم يبلغ ليوناردو في تمثيله للأضواء والظلال على النحو الذي فعله في لوحة "القديسة حنّة والعذراء والمسيح الطفل"، فأنى لنا بمثل هذا الذي نراه في أعمال ليوناردو من سحر للشباب يستهوينا، ومن فتوّة للرجال تستغوينا، ومن وقار للشيخوخة يطوي أسرار الدنيا بين جوانحه؟ فلم يسبق ليوناردو مَنْ صوّر رقة العذرية ونقاءها وخَفَرها وهي تستقبل حياتها، أو مضاء حَدْس المرأة في عنفوانها وصدق خبرتها. وإذا تأمّلنا عجالاته التخطيطية عن العذراء فلن نجد لها ضريباً، فليوناردو هو الفنان الوحيد الذي يمكن أن يُقال عنه بأمانة وصدق إن ليس ثمّة شيء لمسته يداه لم يتحوّل إلى جمال باق سواء أكان رسم قطاع لجمجمة أو بنية نبتة من الأعشاب أو دراسة لمجموعة من العضلات، فهو بإحساسه العميق بالخط وبالأضواء والظلال قد حوّل هذه العناصر جميعاً دون قصد إلى قيم ناطقة بالحياة، فقد رسم ليوناردو معظم عجالاته البارعة لإيضاح مسائل علمية بحتة كانت عندها تستولي على تفكيره.
ومع أنه كان مصوّراً عظيماً نابغاً فلم يكن أقل قدرة منه نحّاتاً ومهندساً وموسيقياً ومخترعاً، وهذا الذي أنجزه من أعمال فنية أثناء حياته لم يستغرق غير لحظات اختلسها من وقته الذي وقفه ساعياً وراء المعارف العلمية والنظرية. والثابت أنه لم يكن ثمة ميدان من ميادين العلوم الحديثة لم يخطر بباله سواء أكان ذلك عن رؤى كالتي يراها الحالم أو إرهاصاً كالذي يسبق الرسالات، كما لم يكن ثمة مجال للتأمل الخصب لم يبرز فيه رجل حر التفكير مثله، ولم يكن هناك مجال من مجالات الجهر البشري لم يسهم فيه ويتفوق، فكل ما كان يبغيه من حياته هو أن تتاح له الفرصة لكي يحقق ما ينفع العالم ويفيده. وهكذا يبدو لنا أن انكفاء ليوناردو على التصوير لم يستحوذ على المقام الأول من نشاطه، بل لم يكن غير لون من ألوان التعبير يفزع إليه مَنْ له مثل عبقريته عندما يجد أنه لا شاغل له غير ذلك، وحين لا يكون غيرها هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن أسمى الدلالات الروحية من خلال أسمى الدلالات المادية.
وعلى الرغم مما كان يملك من قدرة فنية فائقة كان يملك إحساساً مرهفاً بكل ما له دلالة جوهرية يفوق تلك القدرة، الأمر الذي يقف به متريّثاً بين يدي تصاويره جاهداً في أن يعكس هذه الدلالات في تفصيل مفرط عن إحساسه الذي تعجز يده عن تجسيمه. من أجل هذا كان نادراً أن يمضي في الكثير من لوحاته إلى إكمالها، وبهذا فقدت البشرية جملة من التصاوير كمّاً لا كيفا. وكثيراً ما نذهب إلى أن العبقرية هبة واحدة تصدر عن موهوب واحد، ولكن في رأي البعض هي هبات مختلفة تصدر عن الموهوب نفسه. وهذا ما نعلّل به صدور تلك الأعمال المختلفة عن ليوناردو، علمية وهندسية وطبية ومعمارية إلى جانب أعماله التصويرية.
وما أبعدنا عن الإنصاف حين نأخذ على ليوناردو قلّة ما خلّفه من تصاوير، فلقد كان معنيّاً بما هو أجلّ من التصوير، وحسبه ما خلّفه من إنجازات فنية قليلة تعيش عليها الإنسانية إلى يومنا هذا. فلقد كان له فضل الكشف عمّا في تصوير الأسطح من جاذبية، ثم هو إلى هذا كان خبيراً بأصول التشريح مُلمّا بشؤون الطبيعة. وقد اجتمع فيه ما لا يجتمع لإنسان، فلقد كان على حظ من دقّة الملاحظة لا تعرف الملل، والسعي وراء الحقائق دون كلل، هذا إلى ما كان يستمتع به من حسّ فنّي مرهف. ثم كان ليوناردو مصوّراً لا يقف عند المظهر الخارجي للأشياء بل يتعمّق الأمور حتى ينفذ إلى داخلها مكلّفاً نفسه العناء في تعرّف الدوافع المحرّكة للمخلوقات. وهو بهذا يعدّ الفنان الأول الذي ابتدع الأسس العلمية لدراسات النسب في الإبداع عامة، وآلية الحركة. ثم إليه يُعزى أول تأليف في علم الفراسة حتى استطاع أن يخلص من تلك الدراسة إلى ما يعلّل الانفعالات، وهو ما يدلّنا بلا شك على صلة وثيقة بينه وبين المخلوقات. ويروي عنه في هذا الصدد المؤرّخ فاساري أنه كان يراه أحياناً في السوق يشتري الأقفاص من الطيور لا لشيء إلا ليُطلق سراحها. وإنا لنحسّ في تصاوير ليوناردو دقّة المواءمة فلا يفوته شيء وإن هان، ودليل ذلك عنايته بالجزئيات اليسيرة عنايته بما هو أهمّ، مثل تنويعات ظلاله وضيائه الرهيفة، كما فاق غيره في استخدامه الخطوط وسيلة من وسائل التعبير، مُضفياً عليها رهافة بالغة، حتى بتنا لا نلاحظ ما يماثل الحدود المحوّطة بأشكاله، تلك الحدود التي تتفاوت لمساتها إلحاحاً على اللوحة.
وكان الفن والعلم أشدّ ارتباطاً عند ليوناردو منهما في عصرنا الحالي، ولذا نظر إلى فنه على أنه ضوء للفلسفة والعلم. وحتى ظهور ليوناردو كانت مواهب الإنسان وملكاته في خدمة الدين، ومنذ أن كان ليوناردو غدت هذه المواهب والملكات في خدمة الحياة. وعند هذا كانت نهاية العصور الوسطى حين أصبح العالم تهيمن عليه القوى العلمية نفسها التي انبثقت عن العصور الوسطى. ولقد كان يرى فيما أنه ليس ثمة ارتباط بين الدين والعلم على العكس مما كان يرى غيره من علماء العصور الوسطى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فلا يعنّي نفسه بالتوفيق بين منطوق العلم ومنطوق الدين.
كان الفكر والرسم عند ليوناردو ليسا غير وسيلتين لتعرّف كنه الحقيقة بعد أن يوسعهما تحليلاً ليزيداه تبصيراً، بدءاً من الأسهل وانتهاء بالنظرة التركيبية..البدء بالجزئي وضمّ إليه مثله ليتكون منه الموضوع المراد تركيبه. وفي الفن هو ضم الجزئيات المكوّنة للرسم أو الصورة حتى يتكوّن منها شكلاً كاملاً. وذلك على العكس من المنهج التحليلي الذي يعتمد على الاتجاه من الكل إلى الأجزاء. (م.م.م.ث). ، فتتكشّف له ينابيع الإبداع الفني والعلمي، وهو النهج الذي احتذاه فيما يفكّر ويرسم. وعلى الرغم من أنه كان يهدف في أعماله الفنية إلى التعبير عن الجمال وفقاً لمفهوم "المثل الأعلى الجمالي" في عصر النهضة إلا أنه كان يرى الجمال لوناً من ألوان الفضول الذهني أكثر منه إشباعاً للروح، إذ كان الجمال بين يديه كاللغز عليه أن يحلّ طلاسمه. ومن هنا كان يسائل نفسه أنّى له أن يُفصح عن الجمال حتى يغدو حقيقة مُدركة، إفصاحه عن أية مسألة غامضة بعد أن يسبر غورها لتصبح هي الأخرى حقيقة واضحة. وهكذا حرّك اللغز الذي ينطوي على الجمال من فطنته بمثل ما حرّكته معمّيات التشريح والتحليق في الجو، فلقد كان حريصاً على أن يتعرّف كنه الجمال وسرّه لكي يؤتى القدرة على الإفصاح عنه حين يريد، وبهذا اطّرح جانباً ما يقوم على الرؤية التجريدية والنظرية، وعكف على المجالات التخطيطية إلى جانب الرسوم التفصيلية متجاهلاً النسق الهندسي للشكل، سابراً غور التجارب، فكان أن وقع على عنصر الزمن واستنبط أن كل المكوّنات في حركة دائبة وتغيّر متّصل.
لم يلتزم ليوناردو في الخطوط تفصيلاً ولا تحديداً، ففي هذا الالتزام قيد يجعل الشكل آلياً حرفياً، وكان هذا هو الفرق بين منهجه وأسلوبه ومنهج فناني العصور الوسطى وأسلوبهم الذي كان يخضع لتقاليد وأنماط موروثة. كذلك كان ليوناردو فيما يرسم شاعراً إلى جانب كونه مصوراً، فالمصور والشاعر كلاهما يُصْدر عن إيحاء ذهني لا يحرص على كمال المبني ولكن يحرص على تمام المعنى، وكلاهما مُبْدعٌ لا مقلّد محترف. ولكي تخرج الصورة من بين يدي المصور غاية في الإبداع عليه أن يعتمد الاعتماد كله على خياله موائماً بين حركات الجسم وما تنطوي عليه خلجات نفسه بِشْراً أو همَماً، سعادة أم بؤساً.
ولم يعرف ليوناردو الحب ولم يتذوّقه ولكنه استعاض عن هذا بما وُهب من عبقرية عمرت قلبه مكان العاطفة، لهذا كان أكثر واقعية مما عليه الواقعيون من مصوّري اليوم. وكان استقصاؤه للمعرفة أشدّ ما يكون توقّداً إذ كان شغله الشاغل، ما يكاد يقع على شيء حتى يتناوله بالدرس والتحليل وسبر الغور. وعلى الرغم من هذا التطلّع الدارس وانحسار العاطفة فلقد خرجت لنا تصاويره وعليها مسحة من شاعرية لا تقل شأناً عن تلك المسحة التي نراها لمشبوبي العاطفة من المصورين.
ولم يعرف ليوناردو الحب ولم يتذوّقه ولكنه استعاض عن هذا بما وُهب من عبقرية عمرت قلبه مكان العاطفة، لهذا كان أكثر واقعية مما عليه الواقعيون من مصوّري اليوم. وكان استقصاؤه للمعرفة أشدّ ما يكون توقّداً إذ كان شغله الشاغل، ما يكاد يقع على شيء حتى يتناوله بالدرس والتحليل وسبر الغور. وعلى الرغم من هذا التطلّع الدارس وانحسار العاطفة فلقد خرجت لنا تصاويره وعليها مسحة من شاعرية لا تقل شأناً عن تلك المسحة التي نراها لمشبوبي العاطفة من المصورين.
ولقد كلّفه هذا نضالاً شاقاً طويلاً ليتبوّأ منزلة ملحوظة بين رجال عصره كان سداها ولحمتها الهيبة لا المحبة، إذ كانوا مشدوهين بما يتم على يديه من كل مُعْجز خارق للعادة. والغريب أن هذا الرجل لم يلق حظّه بين معاصريه مصوّراً، فلقد كان لورنزو مديتشي حاكم فلورنسا التي على أرضها نشأ ليوناردو ينظر إليه باعتباره موسيقياً ومخترع آلات تستلفت النظر ولا عهد لأهل عصره بها. وكذا لم يجد فيه لودوفيكو سفورزا عاهل ميلانو غير معماري ومُعدّ للحفلات العامة. ووجدنا البابا ليو العاشر من أسرة مديتشي لا يُهيَئ لمواطنه الفلورنسي مكاناً بين المشرفين على المشروعات الفنية البابوية في روما، بل عهد إليه بما هو بعيد عن الفن فأناط به استصلاح أراضي مستنقعات جنوبي روما!
ولقد كان الفضل في ذيوع شهرته مصوّراً يرجع إلى أبيه الذي كان يمتهن المحاماة وتسجيل العقود إذ كان أول من أبرم له عقداً بينه وبين أحد رعاة الفنون حينذاك لعمل لوحة "تقديم المجوس الهدايا للمسيح الطفل". وكذا يعود الفضل في ذيوع صيته مصوّراً إلى لويس الثاني عشر ملك فرنسا الذي كان من حَدَبِه على ليوناردو واحتضانه إياه ظهور لوحة "العشاء الأخير" إلى الوجود. ولم نَر واحداً من حكام إيطاليا يرعاه ويحتضنه غير إيزابيلا ديستي، فأخذ يتجول هنا وهناك إلى أن انتهى به المطاف إلى فرنسا حيث مقام الملك لويس الثاني عشر الذي رعاه وضمّه إلى بلاطه.
وقد يعزو الدارسون هذا إلى ما كان بين ليوناردو وبين البيئة الفلورنسية التي كانت تُظلّه من تنافر فكراً وروحاً، فلقد كان لا شك غريباً على عصره، أعني عصر النهضة الذي عاش فيه بمُثُله ومذاهبه، وكان ما يزال متأثّراً بالتيار الفكري الذي شاع في نهاية العصور الوسطى. وهذا لا يعني أنه لم يكن ذا نظرة مستقبلية، فهو الذي أرسى القواعد لما جاء بعد أفول المبادئ الأفلاطونية التي أعقبت غروب عصر النهضة فكان بما أرسى يُعدّ البشير بإشراق فكر جديد. وهو على هذا لم يحظ بما حظي به أبناء علية القوم من تلقّي العلم على أيدي أساتذة عصره، فقد نشأ بجهده الذاتي فعلّم نفسه بنفسه، وإذا هو بذلك يخلق في نفسه روح التحدّي لهؤلاء الذين تلقّوا على أيدي الأساتذة، مردّداً عبارته المعروفة بأن الطبيعة هي معلّمه الأول والأخير الذي لقن عنه علمه وفنه.
أما عن آرائه الفلسفية فمن ورائها اثنان كان لهما أثران: الإيجابي والسلبي. أما عن الأثر الأول أعني الإيجابي فيُعزى إلى أرسطو الأثير بين الدارسين خلال العصور الوسطى، وكان ليوناردو يعتنق مذهبه. أما عن الأثر الثاني أي السلبي فمردّه إلى ما كان ليوناردو يأخذه على الفيلسوف اليوناني أفلاطون. فعلى حين نرى اسم أفلاطون لا يتردّد على لسانه فلا يجري به قلمه في مذكراته غير مرة واحدة، نرى أرسطو يكاد اسمه يتردّد مرات عشراً. ومما يُذكر في هذا الصدد أنه لم يتأثّر بما ترجمه مارسيليو فيتشينو رائد المذهب الإنساني عن أفلاطون وقتذاك، وكان يسخر من مؤلّفاته ويسفّهها لا سيما ما جاء عن أفلاطون في علوم الهندسة، ويُؤثر عنه أنه كان يقول: ما لأفلاطون والهندسة؟ فالهندسة علم يقاس بالمسطرة والفرجار لا بالرأي والفكر المجرد. ولقد رأى ليوناردو في الأرسطية مذهباً يقوم على التجارب الحسيّة لا على الأفكار المجردة التي كان يؤمن بها الأفلاطونيون الجدد في عصر النهضة ويرونها الأساس لكل شيء، وهي التي بنوا عليها نظرية "الجمال المثالي".
أما عن الآداب الكلاسيكية فلم يكن يعنى من بينها إلا بما هو حسّي لينفذ إلى الحقائق المادية، فانكب على قراءة أوفيد متأثراً بحكمه وتأمّلاته، وإذا هو يعجب بما ذكره الشاعر هوراس عن حركة الأفلاك، وكذا أعجب بوصف لوكريشيوس للأسلحة البدائية، وشغل بما وصف به فرجيل الدروع، وكان أشد إعجاباً بلوكيانوس فيما جاء عنه من وصف للمنجنيقات والمعابر المائية التي كانت تستخدمها الجيوش في الانتقال من شاطئ إلى شاطئ. ولقد شدّه إليهم المؤرخون مثل ليفي وجوستنيان أكثر مما شدّه إليه الشعراء، ولكن أكثر من كان يشدّه إليهم العلماء وخاصة بلينيوس الأكبر بكتابه "عن التاريخ الطبيعي".
(3)
من حوالى سبعة عشر عاماً أويزيد قليلاً،كانت بصحبتى ابنتى بسمة وتبلغ آنذاك 8سنوات ،وفى زيارة لأحد الأصدقاء وذهبنا إليه فى بيته ،فقالت لنا زوجته :إنه فى الغيط يروى الغلة "القمح" وأرشدتنا إلى الطريق .وسرت أنا وابنتى وأحكى لها عن الأرض والفلاح والزرع وأشير لها على الأرض المزروعة .
ووصلنا إلى أرض صديقى ووجدناه ..ملوث بالطين وملابسه متسخةومبلولة.. أشعث الرأس. مغبر السحنة . فنظرت ابنتى وهمست ببراءة الطفولة :
إنه متعاص بالطين وهدومه مبلولة وشكله وحش .
فضحكت وقلت لها :عمك ده أحسن من مليون واحد هدومه نضيفة..ده بيزرع الحياة وبيدى للدنيا كل الخير .
وتكلمت مع الصديق وبنتى واقفة تبص له فضحك وقال لها :أهلا يابسوم "اسم الدلع" معلشى أعمل إيه كان نفسى أبقى أفندى وأبقى لابس بدلة وكرافتة وشكلى يبقى حلو ،لكن أنا بحب الأرض وباعشق طينها .
وعدت أنا وابنتى ودخلنا حجرة المكتبة وقلت لها :هاتى كتاب حكايات وأساطير الموجود فى الرف الأول .
وفعلاً راحت وأحضرت الكتاب ،فقلت لها حاولى تفتحى الكتاب عند ص 15 وعايز أسمع منك حكاية"الورقة والمداد" يعنى الحبر .وأخذت تقرأ :
"كانت قطعة من الورق موضوعة أعلى مكتب مع أوراق أخرى شبيهة لها،وذات يوم وجدت مليئة بالعلامات .فقد خط عليها قلم مبلل بمداد شديد السواد،العديد من الرسوم والكلمات.
-وقالت الورقة فى أستياء للمداد :ألم يكن فى وسعك أن توفر على هذه المهانة ؟لقد جعلتنى أتسخ بجحيمك الأسود ،لقد أتلفتنى إلى الأبد!!
-وأجابها المداد قائلاً: انتظرى ..أننى لم أجعلك تتسخين ،ولكننى كسوتك بالشعارات . إنك لست بقطعة من الورق الآن ،ولكنك أصبحت رسالة .إنك تحرسين فكر الإنسان ،لقد أصبحت أداة ثمينة .
والواقع أنه بعد فترة وجيزة ،لمح شخص وهو يعيد ترتيب الأشياء الموضوعة على المكتب ،تلك الأوراق المتفرقة وجمعها ليلقى بها إلى النار . ولكن فجأة انتبه إلى الورقة المتسخة بفعل المداد ومن ثم ألقى بالأوراق الأخرى ،وأعاد وضع الورقة التى كانت تحمل رسالة الذكاء إلى مكانهابحيث تسهل رؤيتها"وانتهت ابنتى من القراءة وقمت بالشرح والتفسير وتوضيح الأمر بأن المظهر خداع وحاولى إلا تنخدعى بسهولة .
وذات يوم زارنا هذا الصديق ،فكانت بسوم أول من استقبلته و أدخلته البيت وسلمت عليه بل وجلست بجواره طول الزيارة .
إنه متعاص بالطين وهدومه مبلولة وشكله وحش .
فضحكت وقلت لها :عمك ده أحسن من مليون واحد هدومه نضيفة..ده بيزرع الحياة وبيدى للدنيا كل الخير .
وتكلمت مع الصديق وبنتى واقفة تبص له فضحك وقال لها :أهلا يابسوم "اسم الدلع" معلشى أعمل إيه كان نفسى أبقى أفندى وأبقى لابس بدلة وكرافتة وشكلى يبقى حلو ،لكن أنا بحب الأرض وباعشق طينها .
وعدت أنا وابنتى ودخلنا حجرة المكتبة وقلت لها :هاتى كتاب حكايات وأساطير الموجود فى الرف الأول .
وفعلاً راحت وأحضرت الكتاب ،فقلت لها حاولى تفتحى الكتاب عند ص 15 وعايز أسمع منك حكاية"الورقة والمداد" يعنى الحبر .وأخذت تقرأ :
"كانت قطعة من الورق موضوعة أعلى مكتب مع أوراق أخرى شبيهة لها،وذات يوم وجدت مليئة بالعلامات .فقد خط عليها قلم مبلل بمداد شديد السواد،العديد من الرسوم والكلمات.
-وقالت الورقة فى أستياء للمداد :ألم يكن فى وسعك أن توفر على هذه المهانة ؟لقد جعلتنى أتسخ بجحيمك الأسود ،لقد أتلفتنى إلى الأبد!!
-وأجابها المداد قائلاً: انتظرى ..أننى لم أجعلك تتسخين ،ولكننى كسوتك بالشعارات . إنك لست بقطعة من الورق الآن ،ولكنك أصبحت رسالة .إنك تحرسين فكر الإنسان ،لقد أصبحت أداة ثمينة .
والواقع أنه بعد فترة وجيزة ،لمح شخص وهو يعيد ترتيب الأشياء الموضوعة على المكتب ،تلك الأوراق المتفرقة وجمعها ليلقى بها إلى النار . ولكن فجأة انتبه إلى الورقة المتسخة بفعل المداد ومن ثم ألقى بالأوراق الأخرى ،وأعاد وضع الورقة التى كانت تحمل رسالة الذكاء إلى مكانهابحيث تسهل رؤيتها"وانتهت ابنتى من القراءة وقمت بالشرح والتفسير وتوضيح الأمر بأن المظهر خداع وحاولى إلا تنخدعى بسهولة .
وذات يوم زارنا هذا الصديق ،فكانت بسوم أول من استقبلته و أدخلته البيت وسلمت عليه بل وجلست بجواره طول الزيارة .
(4)
الحكايات والأساطير ،عبرالعصور وفى جميع البلدان،ينبوع ثرى لاينضب .تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل ،فيها الحكمة والموعظة والطرافة والفكر والفكاهة والسخرية والفلسفة .ربما كان ابن المقفع فى خالدته "كليلة ودمنة " ممن حاولوا أن يقولوا رأيهم عبر حكايات الحيوانات ،خشية من النهاية المحزنة مع الطغيان الفكرى وسوء الفهم وكيّل الاتهامات بالزندقة والإلحاد والمروق عن الملة والردة والتفريق بين صاحب الرأى وزوجته وشيوع الاستبداد السياسى والسلطوى والقهر المنظم الذى ساد ويسود ،حتى اللحظة، لكل صاحب رأى وفكر يخالف رأى و فكر السلطان ،ورغماً عن ذلك ،كانت نهاية ابن المقفع أبشع نهاية لصاحب رأى وفكر .
ويقص لنا دافينشى أسطورته الجميلة "عصفور الحسّون المغرد " فيقول :
عاد الحسون إلى عشه حاملاً دودة صغيرة بفمه ،ولم يجد صغاره .
وظن أن شخصاً ما قد سرقهم أثناء غيابه .
وأخذ الحسون يبحث عنهم فى كل مكان وهو يبكى ويصرخ ،وكان صدى نداءاته البائسة يسمع فى جميع أنحاء الغابة ،ولكن لم يكن هناك من يجيب عليه .وذات يوم قال له طائر البرقش:
يبدو لى أننى رأيت صغارك فوق منزل الفلاح.وانطلق الحسون مفعماً بالأمل ،وبعد وقت قصير وصل إلى منزل الفلاح . وهبط على السقف ..لم يكن أحد هناك ،ونزل إلى الجرن ..لقد كان خاوياً . ولكنه لمح ،وهو يرفع رأسه ،قفصاً خارج النافذة . لقد كان صغاره سجناء بداخله . وعندما شاهدوه متعلقاً بقضبان القفص ،أخذوا يزقزقون طالبين منه أن يحملهم بعيداً،وحاول هو أن يحطم بمنقاره وساقيه حواجز السجن ،ولكن محاولته ذهبت هباء . وفى اليوم التالى ،عاد الحسون من جديد إلى القفص حيث كان أبناؤه ،ونظر إليهم عبر الحواجز وأطعمهم واحداً واحداً للمرة الأخيرة .
وواقع الأمر ،أنه قد حمل لصغاره العشب السام ، وهكذا لقيت الطيور الصغيرة حتفها .وقال " من الأفضل أن يموتوا بدلاً من أن يفقدوا حريتهم".كانت الحرية ..وكما أكدت فى العديد من سطورى ومواضيعى ومشاركاتى ..لاتوهب فهى لصيقة بالإنسان ،فالحرية هى الإنسان ،فهو المخلوق الوحيد من بين مخلوقات الله الذى حمل أمانة الحرية فهو حر .والمحكوم عليه بالحرية .
هكذا أراده الإله.
وهكذا خلقه . الحرية أو الموت ..
(5)
إعجابى بمسيرة الفنون عبر عصورها المختلفة ،وتطلعى إلى الإلمام بكل شيىء ، ومحاولة إشباع نهمى وجوعى إلى مناهل المعرفة أياً كانت ،من رسم ونحت وعمارة وتصوير وموسيقى وفلسفة وأدب والسعى المتجدد نحوالمعرفة والتواصل مع كل رافد من روافد الثقافة القديم منها والحديث والمستجد ..
كل هذا النهم هى مجاهدة منى لتقريب الهوة بين النقص والكمال .
لكن ليوناردو دافينشى صاحب موهبة فذة أنعم الله عليه بها ،فلم يتركهاولم يهدرها وحاول أن ينقلها لنا ،نشاركه المتعة والمعاناة .فى سنة 1909م لم يسلم دافينشى من التحليل النفسى لسيجموند فرويد فكتب عنه دراسة قيمة نشرها فى سنة 1910م وترجمها وقدمها الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة "شقيق الدكتورثروت عكاشة إذا لم تخنى ذاكرتى الخؤون " ونشرتها الأنجلو المصرية سنة 1970 م وكان ثمن النسخة 30قرشاً مصرياً ،وهو فى هذا التاريخ "مبلغ ضخم جداً "لكننى تحدثت مع والدى رحمه الله أن يزيد فى مصروفى خمسة قروش ، لأتمكن فى خلال أسبوع شراء هذا الكتاب ، ولم يمهلنى والدى فأعطانى المبلغ كاملا واشتريت الكتاب .فقد كان يوقظ فىّ كل شيىء جميل ويدعونى بقوة إليه ،ويبعدنى عن كل شر يحدق بى .كنت ،فى مراهقتى ،مفتوناً بلوحة الجيوكوندا أو الموناليزا ومهتماً بها .فقد رأيت فيها جمالاً باهراً وابتسامة عريضة ورضى وقناعة وأقرأ ماكتبه فرويد" عندما يتأمل الإنسان ليوناردو تقفز إلى أذهاننا هذه الابتسامة الأخاذة المحيرة على شفتى نماذجه النسائية ،ابتسامة لاتتغير فوق شفتين طويلتين مقوستين ،وقد أصبحت هذه الابتسامة إحدى علامات أسلوبه المميزة فى التصوير حيث أطلق عليها "ليونارديسك" وقد جاء أثرها القوى الغامض عندما رسم وجه فلورتتين موناليزا جيوكوندو الجميل وقد حاول الكثيرتفسيرهذه الابتسامة دون توفيق.........................وقد قضى ليوناردو أربع سنوات فى رسم هذه الصورة من 1503م-1507م خلال مدة إقامه الثانية فى فلورنسا بعد أ ن تخطى سن الخمسين "
وأنقل أسطورة من أساطير دافينشى .
الأسد
"لم تكن عين الأشبال الصغيرة قد تفتحت بعد. وبعد ثلاثة أيام وهم بين أرجل الأم ،يلتمسون طريقهم فقط بحثاً عن اللبن ولايشعرون بأى نداء . وكان الأسد قد انتحى جانباً وهو يراقبهم .وفجأة نهض وهز لبدته الجميلة ،وصدرعنه زئير جبار مثل الرعد . وسرعان مافتحت الأشبال الصغيرة أعينها ،على حين هربت جميع الحيوانات المتوحشة الموجودة فى السهل المعشب فى فزع شديد . وكما أن الأسد يوقظ صغاره بصيحة مدوية ،يوقظ المديح المعقول فضائل أبنائنا النائمة ،ويحثهم على الاستذكار بطموح ،وهو يبعد كل ما هو غير جميل وغير طيب."
(6)
ولد أبو محمد، على بن أحمد بن سعيد بن حزم ،فى قرطبة ،صبيحة الأربعاء آخر يوم من رمضان عام 384هجرية - 7من نوفمبر 994ميلادية ،وكما يذكر فى كتابه "طوق الحمامة .فى الألفة والآلاف"ومما أذكره عن هذا العلاّمة أنه وقد عاش فترة اضطراب السلطة فى الأندلس وكان أحد ضحاياها فعانى السجن والقهر والذل .
وكان المذهب المالكى وشيوخه وفقهاؤه الذين لهم الصولة والجولة والكلمة المسموعة ،وتقلبهم مع كل حاكم جديد وإصدار الفتاوى التى تتغير بحسب الأحوال .
فصار المذهب المالكى هو السائد،فتوى وتشريع وتعليم وأحكام ،ومناهضة الحكام لأى مذهب سواه والعمل على تحجيمه بل ومعاقبة من يدين بغير الولاء للمذهب المالكى بعقوبات متعددة والتشهير به ومدى خطورته على تدين الناس وإفساد عقيدتهم .وهكذا عاش ابن حزم فترة صعبة ثائراً وصاحب فكر ورؤية جديدة وكيلت له الإتهامات فى عقيدته ودينه وقناعاته الفكرية .لأنه لايميل إلى المذهب المالكى ويبشر بمذهب جديد.ومن ثم كان التعتيم والإقصاء للمذهب الظاهرى الذى كان أحد أعمدته مع الشنترينى ،وطمس معالمه ومقاومة من يدرسه أو يقوم عليه .
هكذا أصبح رجالات وشيوخ وفقهاء وعلماء المذهب المالكى فى خدمة السلطان وبكلمته صار المذهب الوحيد الواجب نشره ،تعليماً وفتاوى وتشريعاً وأحكاماً، أما ماعداه من مذاهب أخرى فلابد من خنقها .عرفتُ ابن حزم الأندلسى فقيهاً وقاضياً ومؤرخاً وتراثه الفكرى الذى يتنوع بين الفلسفة والتاريخ النقدى للأديان والفرق والمذاهب وكتابه الفارق "طوق الحمامة فى الألفة والألاف" الذى قرأته مراراً وتكراراً فهو فى نظرى أعظم وأروع وأعمق وأشمل كتاب كُتب عن الحب ،وقد كتبه وهو فى الثامنة والعشرين من عمره .
ويحكى د.زكى مبارك ..أنه لما قام بنشر هذا الكتاب ،هاجت العمائم وماجت واضطربت أمور شيوخ الأزهر وأنكروا أن يكون هذا الكتاب من تأليف الفقيه الكبير ابن حزم صاحب" الإحكام فى أصول الأحكام "؛فالحب لديهم عار وأى عار والكتابة عنه عبث وقلة أدب ولايجوز أن يكتب ابن حزم هذا الكلام الفارغ الذى لايليق بالعلماء .
واجتمع شيخ الأزهر وعلماؤه للرد على هذ الفرية وانفض الاجتماع ولم يصدر بياناً .وأعجبنى جداً كتابه"الأخلاق والسير فى مدواة النفوس" ،رأيت فيه تجارب عالم وثقافة متعمق فى الحياة وخبير بالنفوس البشرية وحكمة الشيوخ ورزانة العقل وسعة الأفق .بل رأيتها وصية من عالم جليل إلى الأجيال ،تتناقلها جيل بعد جيل .
وأذكر من هذا الكتاب " من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها ،ولم يرافق فى الطريق إلا أكرم صديق "
والكتاب على صغر حجمه ،عظيم الأهمية ،عميق التأثير .
يدور الزمان وتتوالى الأيام ويأتى ليونادو دافينشى ليكتب لنا "وصية الصقر "أسطورة من أساطيره الخالدة." كان هناك صقر عجوز من سلالة نبيلة يعيش وحيداً منذ سنوات طويلة ،فى أعلى صخرة شاهقة ،وشعر بأن ساعته الأخيرة قد دنت . فأطلق صيحة مدوية واستدعى أبناءه الذين كانوا يعيشون على السفح وعندما اجتمعوا كلهم حوله ،نظر إليهم واحداً واحداً وقال :
- لقد أطعمتكم وربيتكم ،لأنكم منذ كنتم صغاراً ،كنتم قادرين على التطلع إلى الشمس .
ولقد تركت إخوتكم يموتون جوعاً لأنهم لم يتحملوا التطلع إليها.
لهذا فأنتم جديرون بالتحليق إلى أعلى من كل الطيور .
إن من لايحب الموت يجب ألا يقترب من عشكم .
يجب أن تهابكم كافة الحيوانات،وأنتم لن تؤذوا من يحترمكم ،ولكن دعوه يأكل من فضلات فريستكم .
إننى الآن على وشك أن أترككم ،ولكنى لن أموت هنا فى عشى .
سأطير إلى أعلى ،حيثما تستطيع أن تحملنى أجنحتى سأتوجه ناحية الشمس كما لو كنت ذاهباً إليها .
إن أشعتها الملتهبة ستحرق ريشى العجوز ،وسأهوى إلى الأرض ، وسأسقط فى الماء .
ولكن بفعل هذا الماء ،وبمعجزة ،سأولد مرة أخرى ،سأعود شاباً مستعداً لبدء وجود جديد .
هذه هى طبيعة الصقور وهذا مصيرنا .
ولما فرغ الصقر النبيل من كلماته ،حلق ودار فى عظمة وضراعة حول الصخرة حيث كان أبناؤه ،ثم فجأة اتجه مستقيماً ناحية السماء لكى تحرق الشمس أجنحته المنهكة ."
(7)
من عجائب القدر وسخرياته المريرة ،والكفاح المستمر فى إستنبات بذرة جديدة تقاوم عوامل التعرية التى تصيب نفوسنا وتشد من أزرنا وتستعجل شمس يوم جديد ،كى تعود إلينا كرامتنا الإنسانية ونتحرر من طغيان أنظمة مستبدة تتحكم فى مصائرنا ونرفع رايات النصر بحريتنا المهدرة عبر عصور وعصور ،أننا نجد أنفسنا سجناء وطن يلفظ أنفاسه الأخيرة ،وأصبحنا مجبرين على العيش فيه ونطلب العون من الله على هذا العيش وهذه الحياة .لقد استسلم الجميع وهرولوا وبدون وعى نحو الإرتماء فى أحضان حكومات جائرة ،بدلاً من الإتحاد فى وجه الظلم والفقر والمرض والفساد والمحسوبية والرشوة والنصب والاحتيال.
كنا فى بداية السبعينيات من القرن الماضى "طلاب جامعات " نبحث عن العدل والحق والخير ،جامعة القاهرة التى هزت عرش "السادات" وأزعجت مضجعه وأحداث يناير 1977م الخالدة .
تشهد بثورة طلابية عارمة تجسّد فيه جسد الشعب هذا ،المترهل ،المشتت ،المتفكك،المحطم ،الضائع ،وقد استجمع كل قواه ليشكل كُلاً متجانسا ،لافرق بين صغير وكبير ولامسلم ولاقبطى ،فقد نهض مارداً عملاقاً ،فى شتى أنحاء البلاد ،فى وجه الظلام والجبروت والطغيان ،تحول الجبن إلى شجاعة ،والتفرق إلى وحدة ،والإنقسام إلى إتحاد ،والخمول إلى صحوة .
تجمعت إرادة الجماهير إرادة حرة لكى تقول لضعاف النفوس والمتشككين والمخانيث أشباه الرجال،هانحن ندافع عن وجودنا ،عن هويتنا ،عن ذواتنا ،عن حاضرنا ،عن مستقبلنا .
كنا جبالاُ بشرية تتحرك لتدك معاقل الشر .
تذكرت آنذاك ماقاله الشابى :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ***فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلى *** ولابد للقيد أن ينكسر .
إنها إرادة شعب مأزوم ثائر يريد الحياة الحرة الكريمة .
لقد اندمج الجميع فى إرادة واحدة ..إرادة جبارة تستمد عونها ومددها من إرادة الله ،أصبحت إرادة قوية قادرة تقول للشيىء كن فيكون . فلم يجد السادات سوى الإحتماء بالجيش وحظر التجول واحتلال الدبابات الميادين والشوارع وتكميم الأفواه وفتح المعتقلات والمحاكمات العسكرية والتصريحات النارية وتخوين رجالها وسبهم بأقذع الشتائم وأحط الإتهامات ..كان يزعم أنها انتفاضة حرامية !!!
وقال التاريخ كلمته :أنهم ومن معه اللصوص والحرامية والقطط السمان التى مصت دماء الشعب .
كان حظى أن نلت ضربة قاصمة كادت تودى بى ،لكن المعجزات تصنع المستحيل ..
لقد عشتُ حتى اللحظة ..ومات الطغاة .
وها هو دافينشى يأتينى ،من عمق التاريخ ،ويحكى لى أسطورة من أساطيره الباهرة ،التى تعيد لى ذكرى حواديت جدتى يرحمنا الله وإيانا وإياكم ،التى تحض على الثورة ،فالثورة ضد الظلم مكون أساسى أبدى فى الطبيعة الإنسانية ،فلايصح القول ولايستقيم أن نصنف الشعوب ، أن هناك شعوب ثورية وشعوب غير ثورية .
ولنتأمل الثورات الهادرة "فى كل لحظة ، فى مشارق الأرض ومغاربها .
يقول دافينشى فى أسطورته ..الثور ..
"كان هناك ثور طليق يرتكب المآسى بين القطعان والجماعات . ولم تعد هناك شجاعة لدى الرعاة لكى يسوقوا الأغنام إلى المرعى،بسبب ذلك الحيوان المتوحش الذى كان يحضر فجأة هائجاً وقد خفض رأسه ،لكى يطعن بقرونه كل ما يصادفه فى طريقه . بيد أن الرعاة كانوا يعرفون أن الثور يكره اللون الأحمر ،ومن ثم قرروا فى يوم أن ينصبوا له شركاً.فلفوا قطعة كبيرة من القماش الأحمر حول جذع شجرة ثم اجتبئوا. ولم يجعلهم الثور ينظرونه طويلاً ،حيث حضر وهو ينفث من خياشيمه . وعندما رأى ذلك الجذع الأحمر ،خفض رأسه وانطلق فى ثورة ،ورشق قرونه فى الشجرة محدثاً دوياً كبيراً ،وأصبح عديم الحراك .
وهكذا قتله الرعاة "
(8)
توقفت كثيرا أمام حكايات وأساطير دافينشى وكأنى به يلتمس العون من الحيوانات كى تحمل إلى القارئ ما يريده من فلسفة أو حكمة أو مبادئ،وقمت بعمل إحصاء لما ورد من أسماء الحيوانات والطيور والنباتات والحشرات.وعلى سبيل المثال..
الأسد ،الثور ،الثعبان ،التمساح،الذئب ،الحمل ،الحصان وحيد القرن ،النمس ،القرد ،الدب ،القاقوم ،الحمار ،الثعلب ،اللبؤة، الفأر ،الفيل ،،ابن عرس ،الصقر، حيوان الخلد،عصفور العلعلة ،الفراشة ، البومة ،زهرة الزنبق،المحارة ، النمل ، حبة القمح، البيض،الغراب، الديك،النحل، موسى الحلاقة، اليرقة ، العنكبوت، العنب،................... بل هناك الكثير والكثير .
لقد أعادنى إلى كليلة ودمنة هذا العمل الخالد لابن المقفع.
فماذا يعنى هذا التشابه بين ماكتبه ابن المقفع وماكتبه دافينشى؟؟
من أساطير دافينشى
كان الضفدع يمد رأسه بين آن وآخر ويقضم قليلاً من الأرض.
وذات يوم سألته دعسوقة(نوع من الخنافس) :
- لماذا أنت نحيف هكذا؟.
فأجاب الضفدع :- لأننى أشعر بالجوع دائما.
- فتعجبت الحشرة المهذبة وقالت:
- ولكنك تتغذى فقط على الأرض!لماذا لاتأكل حتى تشبع؟
فقال البخيل بنبرة حزينة :
- لأن الأرض أيضاً يمكن أن تنفذ فى يوم من الأيام!!
(9)
البخيل
كان الضفدع يمد رأسه بين آن وآخر ويقضم قليلاً من الأرض.
وذات يوم سألته دعسوقة(نوع من الخنافس) :
- لماذا أنت نحيف هكذا؟.
فأجاب الضفدع :- لأننى أشعر بالجوع دائما.
- فتعجبت الحشرة المهذبة وقالت:
- ولكنك تتغذى فقط على الأرض!لماذا لاتأكل حتى تشبع؟
فقال البخيل بنبرة حزينة :
- لأن الأرض أيضاً يمكن أن تنفذ فى يوم من الأيام!!
من حكايات دافينشى
زهرة الزنبق
نمت زهرة زنبق جميلة على الشاطىء الأخضر لنهر تنسينو .وكانت الزهرة مرتفعة ومستقيمة فوق ساقها ،وتنعكس تويجتها البيضاء على سطح الماءوأراد الماء أن يستحوذ عليها.
وكانت كل موجة تمر ،تحمل معها صوة هذه التويجات البيضاء وتنقل رغبتها إلى الموجات التى تصل بعدها لتشاهدها الزهرة .
وهكذا أخذ النهر كله يتموج ،وأصبحت الموجات مضطربة وسريعة ،وعندما لم تستطع قطف الزهرة الراسخة فى الأرض المرتفعة فوق ساقها المتينة ،اندفعت بقوة تجاه الشاطىء،وسحبت الشاطىء كله إلى أسفل ومعه الزهرة الصافية الوحيدة
(10)
من أساطير دافينشى
ذات مساء هبط الذئب من الغابة فى يقظة وحذر حيث جذبته رائحة قطيع .
وبخطوات بطيئة اقترب من الحظيرة المليئة بالنعاج،وكان يتحسس المكان الذى يخطو فيه لكن لايوقظ الكلب النائم حتى بأقل القليل من الضوضاء.
ولكنه للأسف وضع قدمه فوق لوح من الخشب ،وجعله يطقطق .
ولكى يعاقب نفسه على هذا الخطأ ،رفع قدمه التى وقعت فى الخطأ ،وقضمها قضمة أدمتها .
ذات يوم ،أحضروا الطعام لأسد حبيس فى قفصه ،وكان عبارة عن حمل صغير .
لقد كان هذا الحمل بريئاً ومتواضعاً لدرجة أنه لم يخف من الأسد ،بل اقترب منه كما لو كان أمه ونظر إليه بعينين مفعمتين بالورع والدهشة .
ولم يجد الأسد فى نفسه الشجاعة ليقتله بعد أن جردته هذه البراءة التى تبعث على الثقة،من وحشيته، وظل يعانى من الجوع.
الذئب (الصواب)
ذات مساء هبط الذئب من الغابة فى يقظة وحذر حيث جذبته رائحة قطيع .
وبخطوات بطيئة اقترب من الحظيرة المليئة بالنعاج،وكان يتحسس المكان الذى يخطو فيه لكن لايوقظ الكلب النائم حتى بأقل القليل من الضوضاء.
ولكنه للأسف وضع قدمه فوق لوح من الخشب ،وجعله يطقطق .
ولكى يعاقب نفسه على هذا الخطأ ،رفع قدمه التى وقعت فى الخطأ ،وقضمها قضمة أدمتها .
(11)
الأسد والحمل (المذلة)
ذات يوم ،أحضروا الطعام لأسد حبيس فى قفصه ،وكان عبارة عن حمل صغير .
لقد كان هذا الحمل بريئاً ومتواضعاً لدرجة أنه لم يخف من الأسد ،بل اقترب منه كما لو كان أمه ونظر إليه بعينين مفعمتين بالورع والدهشة .
ولم يجد الأسد فى نفسه الشجاعة ليقتله بعد أن جردته هذه البراءة التى تبعث على الثقة،من وحشيته، وظل يعانى من الجوع.
(12)
البهجة
البهجة
سألوا ذات مرة ،أحد الفلاحين المسنين:
- من هو الحيوان الأكثر بهجة من الجميع؟
فأجاب الفلاح:
- إنه الديك..الديك والبهجة هما الشىء نفسه.
إنه يبهج عندما يطلع النهار ،ويصيح ، ويبهج عندما تسطع الشمس ،ويصيح،ويجرى ويقفز ويتقاتل ويمزح وهو يصيح دائماً فى سعادة وسرور .
والفناء كله يسمع الديك فتعمه البهجة .
(13)
الحزن
وسألوا الفلاح الحكيم أيضاً :
- والحيوان الأكثر حزناً؟
فأجاب :
- الحيوان الأكثر حزناً ،هو الغراب الأسود .
إن الحزن يشبهه تماماً. فعندما تخرج صغاره من البيض فى العش ،يهرب الغراب الأسود حينما يراها بدون ريش وقد ابيّض لونها ،يهرب بسبب الألم الكبير الذى يشعر به ،ويتركها .
وينزوى فوق شجرة قريبة ليبكى ،ويرفض إطعامها .
وعندما ينتبه فى النهاية إلى أن أول ريش أسود قد بدأ ينبت على أجسامها ،يعود إلى عشه.
الحزن
وسألوا الفلاح الحكيم أيضاً :
- والحيوان الأكثر حزناً؟
فأجاب :
- الحيوان الأكثر حزناً ،هو الغراب الأسود .
إن الحزن يشبهه تماماً. فعندما تخرج صغاره من البيض فى العش ،يهرب الغراب الأسود حينما يراها بدون ريش وقد ابيّض لونها ،يهرب بسبب الألم الكبير الذى يشعر به ،ويتركها .
وينزوى فوق شجرة قريبة ليبكى ،ويرفض إطعامها .
وعندما ينتبه فى النهاية إلى أن أول ريش أسود قد بدأ ينبت على أجسامها ،يعود إلى عشه.
(14)
ومن أساطير دافينشى التى تأسرنى بجمالها الفتان وموضوعها الراقى وبوحها الصادق الذى يتملكنى ،ألا وهى أسطورة "عصفور العُلعُلة ..وتعنى لدى دافينشى "حب الفضيلة . ""ذات مرة كان هناك ناسك يعيش فى الغابة ولا أنيس له غير عصفور العلعلة .
وفى يوم من الأيام توجه إليه فارسان وطلبا منه أن يصحبهما إلى القصر ، حيث سيدهما الذى كان يعانى من مرض شديد .
وذهب الناسك يتبعه العصفور فى صحبة الفارسين وسرعان ما أدخل إلى حجرة المريض.وهناك كان يوجد أربعةأطباء يهزون رؤوسهم وهم يتهامسون .
_ وهمس الذى كان يبدو أكبرهم مركزاً:_ لافائدة ..للأسف ،إنه يحتضر .
ولمح الناسك العجوز الذى كان يقف بالباب ،العصفور الذى كان قد حط على الجدار ،وأخذ يرقب المريض من أعلى .
وحينئذ قال الناسك :
إنه سيشفى . فتعجب الأطباء فيما بينهم وقالوا ولكن كيف يستطيع هذا الريفى أن يؤكد شيئاً كهذا ؟
وفتح الرجل الذى يحتضر عينيه وشاهد العصفور الذى كان ينظر إليه وحاول أن يبتسم .
وشيئاً فشيئاً بدأت وجنتاه تحمران ،وأخذت قواه تعود إليه ،وقال بين دهشة جميع الحاضرين :
كإننى أشعر ببعض التحسن.
وبعد مدة ،حيث كان سيد القصر قد استعاد صحته تماماً،توجه إلى الغابة ليشكر الساحر العجوز .
فقال له الناسك:
- لاتشكرنى .هذا العصفور هو الذى جعلك تبرأ من مرضك،ثم أضاف قائلاً :
إن عصفور العلعلة طائر حساس للغاية :فعندما يتواجد أمام مريض ولاينظر إليه ويدير رأسه إلى الناحية الأخرى ،فهذا يعنى أنه ليس هناك أمل فى الشفاء ،وعلى العكس فإنه إذا نظر إليه كما فعل معك فمعنى ذلك أن المريض لن يموت .وبالأحرى فإن نظرات عصفور العلعلة تساعد المريض على الشفاء .
وحب الفضيلة هو مثل عصفور العلعلة الحساس فهو لاينظر إلى الأشياء السيئة الحزينة ، ولكنه يتعايش مع الأشياء النبيلة والشريفة.
إن وطن الطيور هو الغابة المورقة ،ووطن الفضيلة هو القلب الطيب .إن الحب الحقيقى يتضح فى الملمات ،وهو مثل شعاع الضوء الذى ينير بقدر عمق الظلام ."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق