لحق بربه ،جلّ عُلاه ،فى 28/10/1973م
..........................................................
حوار ثوري مع طه حسين
نزار قبانى
ضـوءُ عينَيْـكَ أمْ هُمْ نَجمَتانِ؟
كُلُّهمْ لا يَـرى .. وأنـتَ تَراني
لسـتُ أدري مِن أينَ أبدأُ بَوْحي
شجرُ الدمـعِ شـاخَ في أجفاني
كُتِبَ العشقُ ، يا حبيبـي ، علينا
فـهـوَ أبكـاكَ مثلما أبكـانـي
عُمْرُ جُرحي .. مليونَ عامٍ وعامٍ
هلْ تَرى الجُرحَ من خِلال الدُخانِ؟
نَقَشَ الحـبُّ في دفاتـرِ قـلبـي
كُـلَّ أسمـائِهِ ... وما سَـمَّـاني
قالَ : لا بُدَّ أن تَمـوتَ شـهـيداً
مثلَ كُلِّ العشّـاقِ ، قلتُ عَسَـاني
وطويـتُ الدُّجـى أُسـائلُ نفسي
أَبِسَيْفٍ .. أم وردةٍ قد رمـاني ؟
كيفَ يأتي الهوى، ومن أينَ يأتي؟
يعـرفُ الحـبُّ دائماً عـنواني
صَدَقَ الموعدُ الجميلُ .. أخيـراً
يا حبيبي ، ويا حَبيـبَ البَيَـانِ
ما عَلَينـا إذا جَلَسْـنا بـِرُكـنٍ
وَفَتَحْنـا حَـقائِـبَ الأحـزانِ
وقـرأنـا أبـا العـلاءِ قـليـلاً
وقَـرَأنـا (رِسَـالةَ الغُـفْـرانِ)
أنا في حضـرةِ العُصورِ جميعاً
فزمانُ الأديبِ .. كـلُّ الزّمانِ ..
* * *
ضوءُ عينَيْكَ .. أم حوارُ المَـرايا
أم هُـما طائِـرانِ يحتـرِقانِ ؟
هل عيـونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ
أم عيـونُ الأديبِ نَهرُ أغاني ؟
آهِ يا سـيّدي الذي جعلَ اللّيـلَ
نهاراً .. والأرضَ كالمهرجانِ ..
اِرمِ نـظّارَتَيْـكَ كـي أتملّـى
كيف تبكي شـواطئُ المرجـانِ
اِرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنـتَ أعمى
إنّمـا نحـنُ جـوقـةُ العميـانِ
* * *
أيّها الفارسُ الذي اقتحمَ الشـمسَ
وألـقـى رِداءَهُ الأُرجـوانـي
فَعلى الفجرِ موجةٌ مِـن صهيـلٍ
وعلى النجـمِ حافـرٌ لحصـانِ ..
أزْهَرَ البـرقُ في أنامِلكَ الخمـسِ
وطارَتْ للغـربِ عُصفـورَتـانِ
إنّكَ النهـرُ .. كم سـقانا كؤوسـاً
وكَسـانا بالـوردِ وَ الأقـحُـوانِ
لم يَزَلْ ما كَتَبْتَهُ يُسـكِـرُ الكـونَ
ويجـري كالشّهـدِ تحـتَ لساني
في كتابِ (الأيّامِ) نوعٌ منَ الرّسمِ
وفـيهِ التـفـكيـرُ بالألـوانِ ..
إنَّ تلكَ الأوراقِ حقـلٌ من القمحِ
فمِـنْ أيـنَ تبـدأُ الشّـفـتـانِ؟
وحدُكَ المُبصرُ الذي كَشَفَ النَّفْسَ
وأسْـرى في عَـتمـةِ الوجـدانِ
ليـسَ صـعباً لقـاؤنـا بإلـهٍ ..
بلْ لقاءُ الإنسـانِ .. بالإنسـانِ ..
* * *
أيّها الأزْهَـرِيُّ ... يا سارقَ النّارِ
ويـا كاسـراً حـدودَ الثـوانـي
عُـدْ إلينا .. فإنَّ عصـرَكَ عصرٌ
ذهبـيٌّ .. ونحـنُ عصـرٌ ثاني
سَـقَطَ الفِكـرُ في النفاقِ السياسيِّ
وصـارَ الأديـبُ كالـبَهْـلَـوَانِ
يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ
ويـدعـو بالنّصـرِ للسّـلطانِ ..
عُـدْ إلينا .. فإنَّ مـا يُكتَبُ اليومَ
صغيرُ الـرؤى .. صغيرُ المعاني
ذُبِحَ الشِّعـرُ .. والقصيدةُ صارَتْ
قينـةً تُـشتَـرى كَكُـلِّ القِيَـانِ
جَـرَّدوها من كلِّ شيءٍ .. وأدمَوا
قَـدَمَيْهـا .. باللّـفِ والـدّورانِ
لا تَسَـلْ عـن روائـعِ المُـتنبّي
والشَريفِ الرّضـيِّ ، أو حَسَّانِ ..
ما هوَ الشّعرُ ؟ لـن تُلاقي مُجيباً
هـوَ بيـنَ الجنـونِ والهذيـانِ
* * *
عُـدْ إلينا ، يا سيّدي ، عُـدْ إلينا
وانتَشِلنا من قبضـةِ الطـوفـانِ
أنتَ أرضعتَنـا حليـبَ التّحـدّي
فَطحَنَّـا الـنجـومَ بالأسـنانِ ..
واقـتَـلَعنـا جـلودَنـا بيدَيْنـا
وفَـكَكْنـا حـجـارةَ الأكـوانِ
ورَفَضْنا كُلَّ السّلاطينِ في الأرضِ
رَفـَضْنـا عـِبـادةَ الأوثـانِ
أيّها الغاضبُ الكبيـرُ .. تأمَّـلْ
كيفَ صارَ الكُتَّـابُ كالخِرفـانِ
قَنعـوا بالحياةِ شَمسَاً .. ومرعىً
و اطمَأنّـوا للمـاءِ و الغُـدْرانِ
إنَّ أقسـى الأشياءِ للنفسِ ظُلماً ..
قَلَمٌ في يَـدِ الجَبَـانِ الجَبَـانِ ..
يا أميرَ الحُروفِ .. ها هيَ مِصرٌ
وردةٌ تَسـتَحِمُّ في شِـريـانـي
إنّني في حِمى الحُسينِ، وفي اللّيلِ
بقايـا من سـورةِ الـرّحمـنِ .
تَسـتَبِدُّ الأحـزانُ بي ... فأُنادي
آهِ يا مِصْـرُ مِـن بني قَحطـانِ
تاجروا فيكِ.. ساوَموكِ.. استَباحوكِ
وبَـاعُـوكِ كَـاذِبَاتِ الأَمَـانِـي
حَبَسـوا الماءَ عن شـفاهِ اليَتامى
وأراقـوهُ في شِـفاهِ الغَـوانـي
تَركوا السّـيفَ والحصانَ حَزينَيْنِ
وباعـوا التاريـخَ للشّـيطـانِ
يشترونَ القصورَ .. هل ثَمَّ شـارٍ
لقبـورِ الأبطـالِ في الجَـولانِ ؟
يشـترونَ النساءَ .. هل ثَمَّ شـارٍ
لدمـوعِ الأطـفالِ في بَيسـانِ ؟
يشترونَ الزوجاتِ باللحمِ والعظمِ
أيُشـرى الجـمـالُ بالميزانِ ؟
يشـترونَ الدُّنيا .. وأهـلُ بلادي
ينكُشـونَ التُّـرابَ كالدّيـدانِ ...
آهِ يا مِصـرُ .. كَم تُعانينَ مِنـهمْ
والكبيـرُ الكبيـرُ .. دوماً يُعاني
لِمَنِ الأحمـرُ المُـراقُ بسَـيناءَ
يُحاكي شـقـائـقَ النُعـمانِ ؟
أكَلَتْ مِصْـرُ كِبْدَها .. وسِـواها
رَافِـلٌ بالحـريرِ والطيلَسَـانِ ..
يا هَوَانَ الهَوانِ.. هَلْ أصبحَ النفطُ
لَـدَينا .. أَغْـلى من الإنسـانِ ؟
أيّها الغارقـونَ في نِـعَـمِ اللهِ ..
ونُعـمَى المُرَبْرَباتِ الحِسـانِ ...
قدْ رَدَدْنا جحافلَ الـرّومِ عنكـمْ
ورَدَدْنا كِـسـرى أنـوشِـرْوانِ
وحَـمَيْنا مُحَـمَّـداً .. وعَـلِيَّـاً
وحَـفِظْنـا كَـرامَـةَ القُـرآنِ ..
فادفعـوا جِـزيَةَ السّيوفِ عليكُمْ
لا تعيـشُ السّـيوفُ بالإحسانِ ..
* * *
سامِحيني يا مِصرُ إنْ جَمَحَ الشِّعرُ
فَطَعْمُ الحـريقِ تحـتَ لِسـاني
سامحيني .. فأنتِ أمُّ المروءَاتِ
وأمُّ السّماحِ والغُفرانِ ..
سامِحيني .. إذا احترَقتُ وأحرَقْتُ
فليسَ الحِيادُ في إمكاني
مِصرُ .. يا مِصرُ .. إنَّ عِشقي خَطيرٌ
فاغفري لي إذا أَضَعْتُ اتِّزاني ...
*******
(2)
القاهرة..
العاشر من رمضان 1393هجرية .
السادس من اكتوبر 1973 ميلادية والجيش المصري يعبر قناة السويس ويرفع العلم في صحراء سيناء، وأنظار العرب من المحيط إلى الخليج مصوبة إلى جبهات القتال الثلاث: المصرية والسورية والأردنية وقلوبهم تخفق بشدة في انتظار ما سوف تسفر عنه الحرب الرابعة مع العدو الصهيونى.
ظهر يوم السبت 27 اكتوبر 1973م، أصيب د. طه حسين عميد الآدب العربي والذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى خمسين عاما، بوعكة في بيته في ،رامتان، ولما جاء الطبيب عالج النوبة وعاد صاحب ،الأيام، إلى حالته الطبيعية. وعندئذ وصلت من الامم المتحدة بنيويورك برقية تعلن فوزه بجائزة حقوق الانسان، غير أنه لم يسعد كثيرا بتلك البرقية. وبإشارة من يده تعرفها جيدا ًزوجته الفرنسية السيدة سوزان، علق على ذلك قائلا: وأية أهمية لذلك!
في الليل، بعد أن غادر الطبيب وسكرتيره الخاص ،قال لزوجته وهو يستعيد ذكريات السنوات العسيرة التي عاشها مناضلا من أجل أفكاره ضد االتخلف والتزمت:
أية حماقة!!!! هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟!!!!!
صبيحة يوم الأحد 28 أكتوبر من العام المذكور، شرب د. طه حسين، بصعوبة كبيرة شيئا من الحليب، ثم لفظ انفاسه.
*******
(3)
أثناء حياته الطويلة (83 عاما) وعقب رحيله، كُتِب عن د. طه حسين وعن أفكاره ومعاركه الأدبية،الكثير والكثير ونال الباحثون عن الدراسات المتعمقة عن حياته وإبداعاته العديد والعديد من شهادات الماجستير والدكتوراه، بل أفردت المجلات الثقافية آنذاك أعدادا خاصة مثل مجلة الثقافة والهلال،
كنت سعيدا ًغاية السعادة وأنا أبحث عن هذه الأعداد الخاصة بل أصبحت هذه الأعداد الخاصة المرجع الرئيسى والأساسى بمكتبتى .
وتضم مكتبتى جميع أعماله ،فى ركن خاص بها ، فقد عشقتُ كتابات الدكتور/ طه حسين ،وسعيتُ فى قراءة كل إبداعاته المتنوعة ، قد نختلف وقدنتفق فى مدى تأثيره فى مسيرة الأدب العربى ،ولن أنسى_فى لقاء معه _ ما قاله الدكتور / محمد النويهى :
أن الدكتور / طه حسين هو أبرز من وعى الشعر العربى فى مختلف عصوره ، وهو الذى مهَد الطريق لمن يجىء بعده ، وفضله على الأجيال لا يُنسى .
وفى أثناء تجوالى سنة 1982 م الذى لن ينتهى إلا برحيلى عن الدنيا ،وتفقدى عناوين الكتب الجديدة بمكتبة دار المعارف بطنطا وهى المكتبة التى تحظى بشرف طباعة وعرض كتب الدكتور طه حسين .
استرعى نظرى كتاب ( avec toiمعك) فأخذته وتصفحته لكن طال تصفحى واندماجى مع سطوره وحكاياته والترجمة الرقيقة الممتعة التى أحسنها الأستاذ/ بدر الدين عرودكي،الذى ترجمها عن الفرنسية وراجعها الأستاذ/محمود أمين العالم.
ماذا تقول سوزان عن لحظة موت طه حسين؟
كتبت واصفة مشاعرها في تلك اللحظة العصيبة:
" جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءا غريبا .
ما أكثر ما كنت أتخيل هذه اللحظة الصعبة، كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث.
كان الواحد منا مثل الآخر مجهولا ًومتوحداً، كما كنا في بداية طريقنا."
*******
(4)
منذ سنوات .. طرحتُ،فى أحد المواقع الأدبية المتخصصة ، محاولة جديدة لقراءة معاصرة لكتاب "فى الشعر الجاهلى "للدكتور طه حسين ،ونشرت الكتاب فى طبعته الأولى ،وأردفته بتقرير النيابة العامة للنائب العام ،آنذاك، محمد نور . نقلتهما وكتبتهما من مجلة القاهرة ومجلة فصول المصريتين ،وقد أخذا منى مجهوداً جباراً .
كان هدفى الأول ومقصدى،الكتابة عن حرية الكاتب فى طرح آرائه ،وإلى أى مدى تتسع آفاق الحرية فى قبول آرائه أو رفضها والتصدى لها،وإلى أى مدى يتقبل المجتمع هذه الطروحات.
كان دافعى ،آنذاك، مايتعرض له صديقى وأستاذى الدكتور نصرحامد أبوزيد ،رحمنا ورحمه الله وإياكم ، من محاكمات نالت منه وما أسفرت عنه ،فيما بعد، من محاكمة غير عادلة، لأفكاره وطروحاته، وصمته بالردة وفرّقت بينه وبين زوجته الدكتورة إبتهال يونس ،ثم سفره إلى منفاه بهولندا .
كنت أحاول أن أعقد مقارنة بين عصرين من 1926م (تاريخ نشر الشعر الجاهلى ) وبين 1995م ،سنة بدء المشاكل بين أبى زيد وجامعة القاهرة، وأدباء ونقاد عصره لكتابه (مفهوم النص) ثم الأحكام القضائية التى صدرت مُنهيةً حياة قلم حر جرئ وعقل مستنير وفكر واعٍ ودارس متعمق لتراثناوأحد المفكرين الإسلاميين الكبار ،وسواء قبلنا آراءه أو اختلفنا معها ،يبقى له اجتهاده الرصين شاهداً على نبوغه وتفوقه وتميزه .
لكن محاولتى باءت بالفشل الذريع لخروج المشاركين و المنتقدين _لى ولطه حسين _ على كل قواعد النقد وحدود الأدب وألجمتنى الصمت حتى هذه اللحظة.
***************
(5)
أزعم أن كل جديد فى الأفكار والاختراعات يُلاقى صعوبة منذ الوهلة الأولى وقد لاتقبله العقول _آنذاك_ بسهولة ويسر ويخطرنى ما قرأته من مقاومة أهل الحجاز ،فى بداية قيام الدولة السعودية ، لإدخال خدمة التليفون ومعارضةالشيوخ والفقهاء،والفتوى بتحريمها .
ما أقصده وأسعى إليه أن الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصاديةوالدين والعقائد عوامل فعالة فى قبول أو رفض منجزات العلم وجديد الأفكار .
فعندما أصدر الدكتور طه حسين كتابه"فى الشعر الجاهلى سنة 1926م قامت الدنيا ولم تقعد،وصدرت المقالات والكتب تهاجم بضراوة وقسوة ماكتبه طه حسين .
كما أزعم "وهذا رأيى استقيته من الظروف المحيطة به" أن النواحى السياسية ،كانت إحدى العوامل الرئيسية فى طى صفحة كتاب طه حسين وحفظ التحقيق معه وعدم محاكمته وصدور تقرير النيابة العامة بذلك.
وليس خافياً على الدارسين الكرام ،موضوع كتاب " الإسلام وأصول الحكم "للشيخ على عبدالرازق ،وما أثاره طرد الشيخ على عبدالرزاق من هيئة علماء الأزهر ،وكان ذلك قبل نشر كتاب"فى الشعر الجاهلى " فلايُعقل وفى خلال سنوات قلائل أن تكون هناك محاكمات للأفكار والمطاردة لها حتى وإن تنكبت السبيل ..
وفى ظنى أن استقرار الأمور واستتباب الأمن العام هدف يسعى إليه الحكام بكل الطرق المشروعة والغير مشروعة للحفاظ على عروشهم وامتيازاتهم ،سيما وأن مصر محتلة احتلالاً دام طويلاً ،والحاكم بأمره المندوب السامى البريطانى يهمه انقسام الشعب وشغله بأمور كثيرة حتى يتفرغ للنهب والسرقة .
************
(6)
كانت مصر فى بداية صحوة وطنية وظروف عالمية متغيرة ،الحرب العالمة الأولى ،سقوط الأمبرطورية العثمانية ،ثورة الشعب سنة 1919م،نجاح الثورة البلشفيةسنة 1917م حروب العرب للاستقلال من حكم العثمانيين ،صراع القوى العظمى على تقسيم الكعكة العثمانية ، ربما كل هذه الأسباب مجتمعة أو بعضاً منها ،مع الشأن الداخلى المتردى والقمع الاستعمارى والفقر والمرض والجهل ،من الأسباب التى أحاطت بوأد فتنة "فى الشعر الجاهلى "فى المهد ،فليس ببعيد ثورة الأزهر على أحد علمائه والحكم بطرده من معيته.
ومن الملاحظ ..أنه وفى عصرين مختلفين، أن تكون الكلمة الفاصلة للقضاء والنيابة العامة فى مواضيع فكرية بحتة ..
وهذا مما يثير الدهشة ،فلم يثبت أن أى من الجهتين قد أحالت الكتاب"فى الشعر الجاهلى أو مفهوم النص" إلى لجنة علمية محكمة من كبار العلماء "كل فى تخصصه "لكتابة تقرير علمى موضوعى ،وإنما تصدرت المشهد بالكامل ولم تستعن بأهل الخبرة ،كما تقضى بذلك نصوص وأحكام القانون ،واعتبرت نفسها هى الخبير الأعلى فى مواضيع علمية شائكة ،هى أبعد ماتكون عنها وخارج نطاق تخصصهاالعلمى .!!!!!
وكأن التفكير "هو اجتهاد بشرى ،قد يُخطئ وقديصيب "جريمة معاقب عليها ،مثلها مثل القتل والضرب والسرقة وجزاؤها السجن أو الغرامة !!!!
****
(7)
لم تكن الثورة التى أحدثها كتاب (فى الشعر الجاهلى )للدكتور /طه حسين ،جديدة على العالم العربى الإسلامى أو فى شرق الأرض ومغاربها ، فحراس الفضيلة بالمرصاد لمن يخرج عن القطيع ، وتكال له الإتهامات جُزافا وتُنصب له المشانق وتُعد المحارق ، فتاريخُنا لايكاد يبتعد كثيراً أو قليلاً عما يدور فى العالم أجمع ، فلم نكن بمنجاة عن التأثر والتأثير ، فسقراط شرب السم مفضلا إياه على العدول عن آرائه ومنهج تفكيره ، وقال قولته المشهورة (اشرب السم ولايقولون أن سقراط خالف قانون روما ) ومات من سقووه السم واندثروا، وبقى سقراط على مدى العصور حياً بفكره وعقله ، اختلفنا أو اتفقنا معه ، فهو تُراث انسانى عريق .
لا أختلف عن الآخرين بل أنا منهم لحماً ودماً وثقافةً ووجوداً ، أشقى بشقوتهم ، وأسعد بسعادتهم ، وأعلو بعلوهم ، واسقط بسقوطهم ، أبحث عن نفسى ووجودى وبدايتى ونهايتى ، وحاضرى ومستقبلى .
مشغول البال ومهموم العقل ومكدود الفكر .
من أنا ؟
ومن أكون ؟
ولماذا الحاضر يبدو مظلما شديد الإظلام ؟
كيف الخروج من المتاهة ؟؟
تشعبت بنا السبلُ ،وضاقت عقولُنا عن سماع الآخر أياً كان ، وسالت من أفواهنا زخم الكلام ،وشراسة الأقوال، وحِدة التعابير، وكيْل الإتهامات بلا رادعٍ من حق أو وازعٍ من ضمير ، كأننا نبحثُ عن أنفسنا فى غرفةٍ مظلمةٍ ، وقد فقدنا البصروالبصيرة ،كأننا فى حندس نتصادم ، كما يقول شيخُنا وإمامُنا وشاعرُنا العظيم ،الإنسانى الخالد _ المعرى _
لم أكن بمنأى عن اللخبطة التى نعيشها جميعاً فى عالمنا العربى الكبير ، والتنقيب عن ثغرة للخروج والتماس النورواستشراف الأمل وتجسيد النهضة .
لم أحد عن النهوض وبقوة نحو الدفاع عن ماضىَ وإشراقة الأمل تنبعث منه ، قد أُخطىء وقد أُصيب ،لكن يكفينى شرف المحاولة ويكفينى أننى أسعى لاستجلائها.
قرأتُ تاريخى ،وعشتُ حاضرى ،وأتطلعُ لمستقبلٍ زاهرٍ ،وجدتُ الجمال والحب والعشق،وجدت الحرية الضائعة المهدورة المُطاردة تبحثُ عن ملاذ آمن ، وكنت مثلها ضائعاً ،فعشقتها وتغنيتُ بها ،ورضيت بى عاشقاً، مكسور الجناح ،فقير الفكر ، خاوى المال ،عاطل الوسامة، كثيرالأسئلة ،معطوب العقل ،مثير الضجيج.
قلتُ لنفسى :ابتعدى عن العبودية المختارة ،وتحررى من ركام السنوات الحزينة السوداء ،وتعوَدى على قبول الهجوم القاسى بلا تذمرٍ ولاضيقٍ،_ فكُلنا باحثُ عن الحقيقة _،لكنها أحيانا تنفرُ منى ،وتهربُ من بين أصابعى ،ثم تؤوب مرةً ثانيةً إلى رُشدها، لأنها لا تهوى الوعظ والنصائح .
على هامش الشعر الجاهلى ،أُثرثر مُحدثاً ضوضاءا وشغباً ،وسوف أستكمل ما بدأتُ .
(8)
"أنا لا أملك نفسى من أن أقول صراحة أن هذا الكلام ثمين ، ولا أغالى إن قلت أنه أعرق فى الإسلام من كل كلام قرأته قبل هذا ، ولايعيبه إلا شىء واحد وهو أنه مفرغ فى قالب الخروج عن الجماعة على حين أنه مذهب القرآن الذى هو دستور هذه الجماعة .
فلو كان قال أنه سيعالج البحث فى الأدب العربى وتاريخه ناسيا قوميته وكل مشخصاتها ، ودينه وكل ما يتصل به ، وغير متقيد بشىء ، ولا مذعن لشىء ،إلا مناهج البحث الصحيح ، جاريا بذلك على مذهب القرآن لا ديكارت لكانت كلماته هذه عدت أجمل تفسير لآيات الكتاب التى ور دت خاصة بمنج البحث عن الحقائق.
ونحن نقول أن قول الدكتور طه حسين أن ورود اسمى إبراهيم وإسماعيل فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى ، معناه أنه لايمكن اثبات وجودهما إذا جرى التاريخ على أسلوبه فى اثبات وجود الرجال وتحقيق الحوادث المعزوة إليهم ،مستقلا عن نصوص الكتب السماوية .
لأن التاريخ وسائر العلوم قد أعلنت استقلالها عن الأديان منذ ثلاثة قرون ، فالتاريخ يطلب فى اثبات وجود الرجال أدلة حسية ، وآثارا مادية فوق ما تذكره عنهم الكتب الدينية وبخاصة بالنسبة للأفراد المتغلغلين فى القدم كابراهيم واسماعيل .
والقول بأن ابراهيم واسماعيل لم يثبت وجودهما تاريخا ليس معناه أن التاريخ قرر بأنهما لم يوجدا ، ولكن معناه أنه لايستطيع اثبات وجودهما اثباتا ينطبق على أسلوبه الحسى ، وهذا العجز من العلم لاينفى انهما كانا موجودين وأنهما بنيا الكعبة .
فنحن نحترم هذا العجز من العلم ، ونشجعه على الاعتراف به ، بل ولانقبل منه أن يدعى علم مالاينطبق أسلوبه عليه وإدراك ما لا تصل وسائله إليه "
محمد فريد وجدى .
نقد كتاب الشعر الجاهلى .
مذكور فى "كتاب طه حسين فى معاركه الأدبية "" ، رقم 21،تأليف سامح كريم، نشر كتاب الإذاعة والتليفزيون ،مصر ، الطبعة الأولى 1974،ص85،84