في أحشائي بعض من روحك
بقلم
الأديبة التونسية
نادية البريني
_________
وصلت بعد جهد.
تردّدت في النّزول كأنّها تريد تأجيل المواجهة أو إلغاءها
وأخيرا اندفع خارج السّيّارة جسدها المتناسق المحتشد في ثوب أسود أعلن حداد نفسها وصرخة جسدها
بنقيض هذا السّواد رفلت يوم خطبتها.
الصّبيّة الصّغيرة ذات الجدائل السّوداء كبرت وفاض ماء شبابها الذّي أشعّ في جسدها الغضّ
لا تدري كيف اهتدت أنوثتها إليه أو كيف اهتدى إلى أنوثتها؟
كان اللّقاء...
وكان الحبّ.
تكاد تنزلق في بؤرة الماضي فتأسرها الأيّام الخوالي لكنّها لا تريد أن تضعف.
تقدّمت باستعلاء أنثويّ.
رفضت أن يرافقها أيّ من أفراد أسرتها.
أرادت أن تواجه الموقف بمفردها.
التقيا في رواق المحكمة.تبادلا نظرات لم تكن خرساء بل نطقت بمكنون صدريهما.
اقترب منها،مدّ يده لمصافحتها،أصابتها رعشة سرت في كامل جسدها عندما لامست أنامله يدها.
ويحها عليها أن تطفئ لهيبا يضطرم داخلها وشغفا يعصف بها.
سحبت يدها بحركة مضطربة لتغلق منافذ الماضي وواصلت سيرها لكنّه لحق بها.
ارتدت الصّمت وتجاهلت نداء القلب.جلدتها عاطفتها جلدا لكنّها تجلّدت.
لن ترفع التّحدّي.
موعد البعثة قد تقرّر.
حلم راودها منذ الطّفولة وكبر بتفوّقها الدّراسيّ وتخصّصها في مجال ولعت به منذ الصّغر وهو الفلك.
سترحل بعد شهرين مثلما قرّرت اللّجنة التّي اختارتها لتتعمّق في أبحاثها الميدانيّة.
أمسكها من ذراعها،لم تستطع الإفلات هذه المرّة،حاصرتها نظراته،أربكتها.
لم هذا العناد وكلّ ذرّة من ذرّات جسدها تنتفض لمجرّد رؤيته؟
بادرها:ما اعتقدت أنّ إصرارك سيقودنا إل هنا.
حسبت أنّك ستكونين أكثر رويّة وحكمة في التّعامل مع الوضع.
بقيت على صمتها.خشيت أن تفضحها ارتعاشة صوتها وتخونها أنوثتها.
استطرد:لا تظنّي أنّ رغبتي في بقائك نابعة من أنانيّة رجل تسيطر عليه رغباته وأهواؤه.
لم أكن يوما كذلك فلم هذه القسوة؟
لم تتركي لي فرصة تبرير موقفي بل ثرت وغادرت البيت.
فوجئت أمس بعد أن قدّمت أوراق اعتمادي مدرّسا في إحدى الجامعات الفرنسيّة بدعوة من المحكمة لحضور جلسة طلاق رفعتها ضدّي.
كنت قد قرّرت السّفر معك،تعلمين أنّه لا غنى لي عنك،أردت فقط أن نتجنّب الغربة وآلامها ونحيا بين من نحبّ من الأهل والأصدقاء لكن...
تلقّت صفعة قويّة.
كانت قد أعلنت التّحدّي فوجدت نفسها أسيرة حبّه وحِلمه.
تمتمت بصوت ضعيف وقد أربكتها اعترافاته وتضحياته من أجلها "في أحشائي بعض من روحك".
صدمه الخبر.
أحسّ بطعنة اخترقت الجسد وأصابت مكمن الرّوح.
إنّها طعنة قاتلة.
أقادها العناد إلى أن تخفي عنه حملها؟
كيف تقرّر الرّحيل دونه وفي أحشائها جنين من صلبه؟.
تركها وواصل سيره إلى قاعة الجلسة


حقوق المرأة والخوف من الحرية
(1)

يقول الليبرالى التونسى الطاهر الحداد (1899م-1935م) فى كتابه "إمرأتنا فى الشريعة والمجتمع" طبعة المجلس الأعلى للثقافة مصر1999م ص135
" إننا
إذا كنا نحتقر المرأة ولانعبأ بما هى فيه من هوان ،وإذا كنا نحبها ونحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلا صورة من حبنا أنفسنا وسعينا فى تكميل ذاتنا"
كانت قضية المرأة الشاغل الشاغل فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ،واجتهد الكتاب والمفكرون فى محاولة جادة لتصحيح وضعية المرأة وتحسين حالها ،إذ أن إصلاح حالها ضرورة ملحة ،وليس هذا مقصوراً عليهافقط، وإنما لإصلاح حال المجتمع بأسره.
واستطاعت قضية المرأة بفضل المفكرين المستنيرين أن تكون من أهم القضايا التى أخذ الحديث البناء عنها لايقتصر على فئة بعينها، بل كل فئات المجتمع وحصلت المرأة على بعض حقوقها المسلوبة منها عبر عصور وعصور .

لكن هل حصلت المرأة وفى بدايات الألفية الثالثة على حقوقها ومرادها ومبتغاها ؟
الإجابة وبقوة: لا وألف لا ،فلازالت المرأة ترسف فى الأغلال بل وتقهقرت للوراء لكى تهدم مانادى به المصلحون، وتختفى فلايبين منها إلا شبحٌ يمشى فى الشوارع والحارات .
ويشهد التاريخ أن تونس الخضراء قد أعطت المرأة من الحقوق الإنسانية ما ساهم فى رفعتها وإعلاء شأنها ،وكانت تونس منطقة شائكة توجه إليها الطعنات تلو الطعنات ،والهجوم الفكرى الساقط والضحل ،ممن لايريدون حلاً إنسانياً راقياً لوضعية المرأة ،ولما ساهمت فيه فى تحرير المرأة من استبداد وتدنى وانحطاط طالها فى فترات متعاقبة .

(2)
وأن تكتب عن المساواة بين الرجل والمرأة ابنة من بنات تونس الخضراء ،فهذا الموقف يأخذنا إلى منعطفات تاريخية لايمكن إغفالها .
كيف وقد كنا نظن ،فى منتصف القرن الماضى، أن المرأة التونسية قد حصلت من الحقوق الإنسانية مالم تحصل عليه ،آنذاك،المرأة فى باقى عالمنا العربى الإسلامى !!!
وأن تأتى الصرخة مدوية ،من هذا البلد الحبيب، كى توقظنا من أحلام السكارى وأن الحقوق مسلوبة ولابد من مواصلة الكفاح لتحقيقها .
ولايعنى قولى هذا الإنكار أو التغميض عن الصرخات المدوية أو التقليل من شأنها ،فى باقى بلداننا من المحيط إلى الخليج.

ولايفوتنى أن أؤكد أن البوح النسائى الحارق والصادر من أعماق مقموعة وفى عدالة مطالبهن الإنسانية لا يقتصر على 
نادية البرينى فى تنديدها بالقمع المفروض وتكميم الأفواه وحصار الروح ،وإنما سعت إليه ،وفى كل كتاباتها العربية والفرنسية وبرغبة عارمة ،منيرة الفهرى وهى أيضاً تونسية ،وقد سبق حديثى عنها فى أحد نصوصها الفارقة .

ونتساءل معها :
هل الكفاح النسائى مازال متوهجاً للحصول على حريته الإنسانية كاملةً غير منقوصة؟؟
وهل بعد هذه السنوات الطويلة ،تشعر المرأة بوطأة الاستبداد والقهر الذكورى والمجتمعى ؟


بعد القراءة لقصة نادية البرينى " في أحشائي بعض من روحك"
تأكد لى يقيناً أن الأزمة قائمة وأن ماكتبته نادية البرينى لايمكن أن يمر مرور الكرام بل لابد من وقفة جادة ومتأنية ،و
لايغرننا هذا الثوب الشفيف من العواطف الجياشة والمشاعر المتوقدة التى تسود النص ،فهذه البراعة فى تغليف قضية المساواة لايمكن أن تتأتى إلا فى ثوب قشيب مزهر جذاب ،وإلا صار منشوراً تقريرياً لايسمن ولايغنى من جوع.
لقد قرأتُ معظم ماكتبته نادية البرينى وهى المشغولة بوضعية المرأة المقهورة فى عملها، والمقهورة فى بيتها، والمقهورة مع نفسها .
إنها تعيش ،بكل أحاسيسها ومشاعرها وعقلها وروحها ،مأساة المرأة رغم البريق الفكرى والإعلامى والأضواء المبهرة والزاعقة واللغة المنافقة التى تسعى لتجميل الصورة ومحو الوجه القبيح الذى يتحكم ليس فقط فى الجسد ، وإنما فى الروح أيضاً .
إن المساواة التى تسعى نحوها بطلات نادية البرينى حقٌ إنسانىٌ لاينكره إلا أعمى القلب وسيىء الضمير .

(3)

من أجمل ما طالعنى فى هذه القصة صورة المرأة /الزوجة /الأنثى المرسومة بعناية فائقة وبخطوط واضحة وبألوان زاهية .
بطلة قصتنا نموذج حضارى إنسانى من الطراز الأول " 
جسدها المتناسق المحتشد في ثوب أسود" "الصّبيّة الصّغيرة ذات الجدائل السّوداء كبرت وفاض ماء شبابها الذّي أشعّ في جسدها الغضّ" "تقدّمت باستعلاء أنثويّ"
نموذج أنثوى يفيض جمالاً وحسناً ، من جسدٍ متناسقٍ إلى استعلاء أنثوى وعقلٍ طموحٍ وروحٍ ثائرة.

تأبى البطلة ،وبقوة ،إلاأن تقرر مصيرها بعقلها بفكرها بإراداتها الحرة بسعيها إلى استكمال رحلة حياتها الفكرية .
وترفض تدخل أهلها فى حياتها.
هى تملك مصيرها ومسيرها ولاتخشى شيئاً ،فهى الكفيلة على نفسها الحريصة عليها المتمسكة بقيمها ومبادئها .

ولم تذكر نادية البرينى للبطلة اسماً وتكلمت عنها بضمير الغائب ،هى راوية لها ،تمسك بأطراف الحديث عنها .
إنها تضعنا فى مواجهة حاسمة بين طرفى صراع إنسانى بين عقلين ،كلاهما يريد الغلبة وتحقيق أهدافه ومآربه .

هل أقول أن ماتسعى إليه البطلة /الزوجة هو التمرد على وضعية المرأة فى بداية الألفية الثالثة ؟
هل هذا التمرد على قوانين وتقاليد المجتمع سيؤتى ثماره مستقبلاً؟
وهل مايزعمه المجتمع من حصول المرأة على كافة حقوقها ،هو ضربٌ من الخيال ووهمٌ لايصدقه إلا الساذجون وأنصاف العقول؟

ولكونى أعمل فى القضاء والقوانين والمحاكم يدور بنفسى سؤالٌ يملأ مساحات كبيرة من روحى وعقلى .
لماذا نلجأ إلى المحاكم والقضاء كلما ألّم بما مشكلٌ من المشاكل الفكرية أو الاجتماعية أو السياسية ؟
وهل نحن لانمتلك القدرة على حل مشاكلنا دون اللجؤ للقضاء والمحاكم؟

وفى مقابل المرأة الذكية الطامحة الطموحة إلى استكمال تعليمها ،نجد الرجل الذى يجاهد على ماتبقى عنده من حكمة وتبرير موقفه الرافض لما تسعى إليه،
لكن بعد فوات الآوان يحاول الإصلاح .
لكن هيهات هيهات .. فقد رفعت البطلة راية التحدى ،
إما أن تحصل على حقوقها كاملةً أو تتنازل عنها إلى الأبد.

المفارقة الجديرة بالملاحظة ،فى قصة نادية البرينى ،أنها رسمت معالم أنثاها رسماً مبهراً آسراً،فهى تكتب عن النصف الضائع الذى يطلقون عليه الجنس اللطيف ،النصف مأكول الحقوق مهضوم المساواة .
نادية البرينى/ المرأة /تكتب عن بنات جنسها بروح متمردة وعقل مفتوح وصدر متألم ..

وعندما تصف الزوج /الذكر لانرى له معالماً أو حدوداً لشخصيته ،فهوالجنس المسيطر المهيمن الذى لاحدود لصفاته ولامعالم لشخصيته ،هو الصوت الآمر والحاكم بأمره ولانجد له اسماً.

(4)
يعجبنى ويشدنى شداً وتأسرنى أسراً اللغة القوية الموحية التى تكتب بها نادية البرينى .
أشعر فيها بالتماسك والتناسق والنصاعة والوضوح والبيان ،فيه الرقة والعذوبة وفيها الصرامة والجهامة ،فيها الضعف والرغبة وفيها الجفاء والشدة .

ومن المؤكد أن بطلة نادية البرينى لم تنس أمومتها المقبلة وغلب عليها ضعفها ورقتها ،الذى يراه الكثيرون عقدة النقص فيها وخضوعها للرجل وهى تقول له:" في أحشائي بعض من روحك".


وقبل أن أترك هذه السطور التى أراها 
قراءةً متواضعةً على نصٍ شامخٍ يفتح أمامى مغاليق الكثير من قضية المرأة ووضعيتها فى الألفية الثالثة ،ليس فقط فى تونس الخضراء، وإنما فى مجتمعنا العربى والإسلامى ويجعلنى أعاود النظر من جديد فى قضايا المرأة .

أتفق مع البطلة فى سعيها الحثيث نحو استكمال تعليمها وتحقيق ذاتها وتمسكها بما تبتغيه وتمردها على القيود المصطنعة ولجؤها للقضاء، مادام العقل الذكورى متحكماً وضارباً بحقوق المرأة عرض الحائط .

كنت أتمنى أن يكون الرجل الذكى هو من يعطى ويساعد ويؤازر ويعاضد المرأة فى آمالها وطموحها وأحلامها وحقوقها المشروعة ولايدفعها دفعاً إلى الاحتماء بالقضاء ورفع الدعاوى للحصول على بعض حقوقها.

وصدق الطاهر الحداد " 
وإذا كنا نحبها ونحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلا صورة من حبنا أنفسنا وسعينا فى تكميل ذاتنا"