أزعم أن الدكتور عبدالرحمن بدوى لم ينل التقدير الذى يليق بفكره وأبحاثه ،فى عالمنا العربى، ومؤلفاته ودراساته وترجماته وجميعهم لهم السبق فى إثراء العقل العربى والسباحة المتعمقة فى المسكوت عنه منذ حصل على الدكتوراه عن الزمن الوجودى وحتى وفاته بباريس بفرنسا، الذى هاجر إليها وعاش فيها عمراً طويلاً .
قرأت له بعض كتبه ورضيت به رافداً ثرياً من روافد ثقافاتى المتنوعة .
قرأتُ فى سنوات التكوين كتابه "تاريخ الإلحاد فى الإسلام "
وها أنا أنقل دراسته الفذة عن محمد بن زكريا الرازى .
1- شخصية من أكبر الشخصيات فى الحياة الفكرية الإسلامية على مر عصورها
... بدأ الإلحاد في الإسلام تحت تأثير عوامل فكرية خالصة : ففريق ألحد عن الدين لأسباب من العصبية القومية حملته على أن يتعصب لدين آبائه من المجوس و الثنوية المانوية ، كما فعل ابن المقفع و بشار ، و فريق تزندق فرارا من تكاليف الدين و طلبا لسلوك مسلك الحياة الماجنة الحرة السمحة ، دون أن يتأثر بشك فكري واضح ، كما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الشعراء ممن ينتسبون إلى " عصبة المجان " على حد تعبير أبي نواس ، و فريق ثالث تنازعه العاملان فجمع بين سلوك المجان و بين عصبية الشعوبيين ، مثل أبان بن عبد الحميد. و خلال هذا التطور رأينا المنحى يسير صوب الجانب الروحي أكثر فأكثر ، و إن كانت العوامل الفكرية العميقة لم تؤثر تأثيرها الحاسم بعد ، اللهم إلا عند ابن المقفع الذي يمثل خصوصا جانبا عقليا بارزا و إن تلفع بالغموض و التقية. ثم شاهدنا هذه الحركة المتصاعدة تبلغ أوجها عند ابن الراوندي : فبعد أن كانت مجرد مزاج روحي أو موقف فكري مؤقت غير واضح ، صارت مذهبا شاملا أقيم على أسس من العقل ، و أصبح ذا أنصار يؤمنون به لأسباب عقلية فكرية ، و كانت فكرة النبوة هي حجر الزاوية في هجوم هذا الإلحاد على الإسلام ، و يلوح أن الأمر قد اقتصر عليها و تحدد عندها فلم يتعدها إلى الشك في الألوهية نفسها ، بعد أن كان الأمر غامضا لا يعرف الملحد أين يوجه سهامه ، و من هنا كان الاضطراب في تصوير هؤلاء لأفكارهم و اتجاهاتهم ، و إن كانوا في بعض النواحي أجرأ من هؤلاء المتأخرين عليهم من أمثال ابن الراوندي و من تلاه. و لم ينطل على الناس نسبة الشك في النبوات إلى البراهمة و تحميلهم مسؤوليته ، فاعتنقوه على علاته ، بغض النظر عن أصحابه و ما عسى أن يرتبط بهذا الرأي من معتقدات أخرى لهؤلاء البراهمة المزعومين.
و هكذا تركزت نقطة الهجوم من جانب الملحدين في النبوة ، و لذا نجد الملاحدة في القرن الرابع و ما تلاه يقفون طويلا عند هذه المسألة. فنرى التوحيدي يذكر في " الإمتاع و المؤانسة " ( 1 ) أن أبا أسحق النصيبي كان " يشك في النبوات كلها " ، و نرى الكثيرين ينحرفون إلى المذاهب المبتدعة التي انتشرت في ذلك العهد انتشارا واسعا مثل الخرمية البابكية ( 2 ) ، حتى ليروي التوحيدي أيضا أن رجلا معروفا بدينه و إيمانه مثل ابن الباقلاني كان " على مذهب الخرمية ، و طرائق الملاحدة " ( 3 ) ، و إن كان في هذا القول شيء من الغلو لعله مقصود.
و انضم إلى هذه التيارات الظاهرة ، تيارات المذاهب المستورة المتأثرة بالغنوص ، خصوصا تلك المنتسبة إلى الشيعة مما ولد في القرن الرابع حركة عنيفة في الخواطر و الأفكار. و لسنا الآن بسبيل بيان هذه الاتجاهات الروحية القوية التأثير ، إنما نحن نتابع تطور حركة الإلحاد.
و هنا نلتقي بشخصية من أكبر الشخصيات في الحياة الفكرية الإسلامية على مر عصورها ، و نعني بها أبا بكر محمد بن زكريا الرازي.
و االرازي طبيبا و كيميائيا من الطراز الأول ، معروف جيدا للجميع بفضل الدراسات العديدة التي كتبت عنه من هذه الناحية ( 4 ). أما الرازي الفيلسوف فقد بدأت الدراسات عنه متأخرة ، فكانت أولى الدراسات الجدية في هذا الباب ما كتبه شيدر عنه في مقاله " مذهب المسلمين في الإنسان الكامل " ( 5 ) ، ثم كانت الدراسة التفصيلية لفلسفة الرازي الطبيعية التي كتبها الأستاذ سالومون بينس في كتابه القيم " نظرية الجوهر الفرد عند المسلمين " ( 6 ) ، فجاءت أوفى ما كتب عنه حتى اليوم. أما فلسفته الأخلاقية و فلسفته العامة في الوجود فلم تكن حتى اليوم موضع دراسة شاملة ، و قد كان هذا طبيعيا ما دامت النصوص الخاصة بهذه الفلسفة لم تنشر بعد. بيد أن المرحوم الدكتور كروس وجه عنايته إلى الرازي من هذه الناحية خصوصا ، و بدأ ينشر آثاره الفلسفية في مجلة " شرقيات " Orientalia ثم جمعها أخيرا في كتاب كان منتظرا أن يصدر في جزئين على الأقل ، لكن لم يصدر منه إلا الجزء الأول ، و حال انتحاره الأليم دون نشر الجزء الثاني ، فضلا عن أنه كان يكتب كتابا شاملا عن فلسفة الرازي كرسالة للدكتوراة يريد تقديمها لجامعة السوربون ، و يلوح أنه قد أتمه أو أوشك و لكنه لم ينشر ، و لعل القائمين على آثاره أن يعملوا على تحرير دساتيره و إعدادها للنشر.
و ما يعنينا هنا هو أن نبين الجانب الإلحادي في فلسفة الرازي هذه ، و قد عبر عنه - فيما يلوح – في كتابه في " العلم الإلهي " ثم في كتاب " مخاريق الأنبياء " ، و لكننا نعرف رأيه هذا خصوصا من المناظرات التي جرت بينه و بين أبي حاتم الرازي ، ثم ما أورده هذا الأخير في كتابه " أعلام النبوة " مقتبسا من كتاب " مخاريق الأنبياء " ، لابن زكريا الرازي ، و قد نشر هذه المواضيع مع ردود أبي حاتم كراوس في المجلد الخامس من مجلة " شرقيات " و أعاد نشر الجزء الأول منها في " رسائل فلسفية " لمحمد بن زكريا الرازي ( القاهرة سنة 1939 ص 295 – ص 316 ) ، نشرها مع رد أبي حاتم الرازي و جواب أحمد بن عبد الله الكرماني " عما أهمل أبو حاتم الجواب عنه من سؤال ابن زكريا الرازي ".
هوامش المؤلف :
1 – ج 1 ، ص 141 ، طبعة القاهرة سنة 1939 .
2 – انظر الفهرست لابن النديم ص 480 – 483 ، طبع مصر سنة 1348 هـ = سنة 1929 .
3 – المرجع نفسه ص 143 .
4 – راجع خصوصا ج س أ رانكنج : حياة الرازي و مؤلفاته المؤتمر الدولي الطبي السابع عشر ، لندن سنة 1914 :
G S A Ranking : The Life and Works of Rhazes -
ثم كتب تاريخ الطب العربي : فستنفلد و لوكلير إلخ.
5 – هـ هـ شيدر
Die islamische Lehre vom vollkommenen Menschen
في مجلة الجمعية المشرقية الألمانية ZDMG جـ 79 ( سنة 1925 ) ص 228 – ص 235 .
6 – برلين سنة 1936 ص 34 – 93
و هكذا تركزت نقطة الهجوم من جانب الملحدين في النبوة ، و لذا نجد الملاحدة في القرن الرابع و ما تلاه يقفون طويلا عند هذه المسألة. فنرى التوحيدي يذكر في " الإمتاع و المؤانسة " ( 1 ) أن أبا أسحق النصيبي كان " يشك في النبوات كلها " ، و نرى الكثيرين ينحرفون إلى المذاهب المبتدعة التي انتشرت في ذلك العهد انتشارا واسعا مثل الخرمية البابكية ( 2 ) ، حتى ليروي التوحيدي أيضا أن رجلا معروفا بدينه و إيمانه مثل ابن الباقلاني كان " على مذهب الخرمية ، و طرائق الملاحدة " ( 3 ) ، و إن كان في هذا القول شيء من الغلو لعله مقصود.
و انضم إلى هذه التيارات الظاهرة ، تيارات المذاهب المستورة المتأثرة بالغنوص ، خصوصا تلك المنتسبة إلى الشيعة مما ولد في القرن الرابع حركة عنيفة في الخواطر و الأفكار. و لسنا الآن بسبيل بيان هذه الاتجاهات الروحية القوية التأثير ، إنما نحن نتابع تطور حركة الإلحاد.
و هنا نلتقي بشخصية من أكبر الشخصيات في الحياة الفكرية الإسلامية على مر عصورها ، و نعني بها أبا بكر محمد بن زكريا الرازي.
و االرازي طبيبا و كيميائيا من الطراز الأول ، معروف جيدا للجميع بفضل الدراسات العديدة التي كتبت عنه من هذه الناحية ( 4 ). أما الرازي الفيلسوف فقد بدأت الدراسات عنه متأخرة ، فكانت أولى الدراسات الجدية في هذا الباب ما كتبه شيدر عنه في مقاله " مذهب المسلمين في الإنسان الكامل " ( 5 ) ، ثم كانت الدراسة التفصيلية لفلسفة الرازي الطبيعية التي كتبها الأستاذ سالومون بينس في كتابه القيم " نظرية الجوهر الفرد عند المسلمين " ( 6 ) ، فجاءت أوفى ما كتب عنه حتى اليوم. أما فلسفته الأخلاقية و فلسفته العامة في الوجود فلم تكن حتى اليوم موضع دراسة شاملة ، و قد كان هذا طبيعيا ما دامت النصوص الخاصة بهذه الفلسفة لم تنشر بعد. بيد أن المرحوم الدكتور كروس وجه عنايته إلى الرازي من هذه الناحية خصوصا ، و بدأ ينشر آثاره الفلسفية في مجلة " شرقيات " Orientalia ثم جمعها أخيرا في كتاب كان منتظرا أن يصدر في جزئين على الأقل ، لكن لم يصدر منه إلا الجزء الأول ، و حال انتحاره الأليم دون نشر الجزء الثاني ، فضلا عن أنه كان يكتب كتابا شاملا عن فلسفة الرازي كرسالة للدكتوراة يريد تقديمها لجامعة السوربون ، و يلوح أنه قد أتمه أو أوشك و لكنه لم ينشر ، و لعل القائمين على آثاره أن يعملوا على تحرير دساتيره و إعدادها للنشر.
و ما يعنينا هنا هو أن نبين الجانب الإلحادي في فلسفة الرازي هذه ، و قد عبر عنه - فيما يلوح – في كتابه في " العلم الإلهي " ثم في كتاب " مخاريق الأنبياء " ، و لكننا نعرف رأيه هذا خصوصا من المناظرات التي جرت بينه و بين أبي حاتم الرازي ، ثم ما أورده هذا الأخير في كتابه " أعلام النبوة " مقتبسا من كتاب " مخاريق الأنبياء " ، لابن زكريا الرازي ، و قد نشر هذه المواضيع مع ردود أبي حاتم كراوس في المجلد الخامس من مجلة " شرقيات " و أعاد نشر الجزء الأول منها في " رسائل فلسفية " لمحمد بن زكريا الرازي ( القاهرة سنة 1939 ص 295 – ص 316 ) ، نشرها مع رد أبي حاتم الرازي و جواب أحمد بن عبد الله الكرماني " عما أهمل أبو حاتم الجواب عنه من سؤال ابن زكريا الرازي ".
هوامش المؤلف :
1 – ج 1 ، ص 141 ، طبعة القاهرة سنة 1939 .
2 – انظر الفهرست لابن النديم ص 480 – 483 ، طبع مصر سنة 1348 هـ = سنة 1929 .
3 – المرجع نفسه ص 143 .
4 – راجع خصوصا ج س أ رانكنج : حياة الرازي و مؤلفاته المؤتمر الدولي الطبي السابع عشر ، لندن سنة 1914 :
G S A Ranking : The Life and Works of Rhazes -
ثم كتب تاريخ الطب العربي : فستنفلد و لوكلير إلخ.
5 – هـ هـ شيدر
Die islamische Lehre vom vollkommenen Menschen
في مجلة الجمعية المشرقية الألمانية ZDMG جـ 79 ( سنة 1925 ) ص 228 – ص 235 .
6 – برلين سنة 1936 ص 34 – 93
من كتاب تاريخ الإلحاد في الإسلام
S Pines : Beitrage zur islamischen Atomenlehre
2 – نظرية النبوة
و من الواضح أننا لا نستطيع أن نعطي صورة صادقة لمذهب ابن زكريا الرازي ، لأن النصوص الأصلية تعوزنا ، و كل ما لدينا في هذا الباب إنما يرجع إلى ما يورده الخصوم من عرض لمذاهبه و أقواله إما بنصها مبتورة من سياقها ، و إما اختصارا و بالمعنى فحسب ، فضلا عن ندرة هذه الآثار ، مما لا يسمح بتكوين رأي صحيح شامل. بيد أننا سنحاول جهدنا أن نتبين ذلك المذهب من تلك الشذرات و الروايات النادرة قدر المستطاع ، على ما نبديه من تحفظ شديد فيما يتصل بصدقها تماما.
و يبدو من هذه النصوص أن نظرية النبوة كانت الشغل الأكبر لنقد الرازي للأديان. فالرازي كان لا يؤمن بالنبوة ، و كان نقده لها يقوم على أساس اعتبارات عقلية و أخرى تاريخية.
أما من الناحية العقلية فإنه لا بد قد قال بالحجة العامة التي قال بها البراهمة المزعومون ، و هي التي أوردناها عن ابن الراوندي في القطعة رقم 3 من أن العقل يكفي وحده لمعرفة الخير و الشر فلا مدعاة إذا لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من جانب الله. و يؤيد هذا الافتراض ما نراه من مدح الرازي للعقل ، خصوصا في مستهل كتاب " الطب الروحاني " حيث قال : " إن البارئ – عز اسمه – إنما أعطانا العقل و حبانا به لننال و نبلغ به من المنافع العاجلة و الآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله و بلوغه ، و إنه أعظم نعم الله عندنا و أنفع الأشياء لنا و أجداها علينا ... و بالعقل أدركنا جميع ما ينفعنا و يحسن و يطيب به عيشنا و نصل إلى بغيتنا و مرادنا ... و به أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا الخفية المستورة عنا... و به وصلنا إلى معرفة البارئ عز و جل الذي هو أعظم ما استدركنا و أنفع ما أصبنا ... و إذا كان هذا مقداره و محله و خطره و جلالته فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته ، و لا نجعله – و هو الحاكم – محكوما عليه ، و لا – و هو الزمام – مزموما ، و لا – و هو المتبوع – تابعا ، بل نرجع في الأمور إليه و نعتبرها به و نعتمد فيها عليه ، فنمضيها على إمضائه و نوقفها على إيقافه " ( 1 ) . و من هذه الفقرة المهمة يتبين التشابه الكبير بينه و بين ابن الراوندي حين قال على لسان البراهمة : " إنه قد ثبت عندنا و عند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه ، و إنه هو الذي يعرف به الرب و نعمه ، و من أجله صح الأمر و النهي و الترغيب و الترهيب ". فإذا كان ابن الراوندي قد بنى على هذه المقدمة إبطاله للنبوة ، فيشبه أن يكون الرازي قد أراد هذا أيضا و رمى إليه ، خصوصا و هو يزيد في توكيد مناقب العقل فينسب إليه ليس فقط ما يتصل بالأخلاق ، كما اقتصر عليه ابن الراوندي بل و أيضا ما يتصل بالمسائل الإلهية ، فيقول إننا " به وصلنا إلى معرفة البارئ عز و جل و هذا يقطع بأن النبوة أصبحت لا مبرر لها ما دمنا نعرف بالعقل كل شيء أخلاقي و إلهي ، لأن النبوة لا تقوم بأكثر من هذا و لقد كان قول ابن الراوندي – لو أخذ وحده – خليقا بأن يرد عليه بالقول بأن الأنبياء يأتون لبيان الأمور المتصلة بالألوهية ، و لا يقتصرون على الناحية الأخلاقية وحدها. أما الرازي فقد أكد أن العقل هو المرجع في كل شيء ، و راح يشيد بلهجة لا نكاد نجد لها مثيلا عند كبار العقليين في كل العصور ، حتى في العصر الحديث : فالفلاسفة اليونانيون كانوا مع الإيمان بسلطان العقل يتركون للوحي و الإلهام مجالا لنوع من النبوة ، كما يظهر لدى أفلاطون ، فكأن الرازي إذا قد ذرّف على أستاذه و زاده ، مع أنه كان يشايع أفلاطون ، و في العصر الحديث ، لا تزال فكرة اللامعقول تلعب دورا كبيرا في معظم المذاهب الفلسفية.
و ليس من شك في أن الرازي إنما يشير إلى النبوة و الأديان حينما قال في تلك الفقرة عينها : " و إذ كان هذا مقداره و محله و خطره و جلالته ( لاحظ هذا التكرار الذي يرمي إليه الرازي عن قصد ليؤكد ما يشير إليه ) فحقيق علينا ألا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته ، أي ليس علينا أن " نجعله – و هو الحاكم – محكوما عليه ، و لا – و هو الزمام – مزموما ، و لا – و هو المتبوع – تابعا " ، و ذلك بالالتجاء إلى سلطة دينية خارجة عن العقل هي النبوة. لهذا يجب أن نفسر هذا الفصل كله من " الطب الروحاني " على أساس فكرة إبطال النبوة عند الرازي ، و إلا لم نفهم الغرض من كل هذه التوكيدات المتكررة المتوالية. و لقد كان الملاحدة يلجأون جميعا إلى الإشادة بالعقل كيما يكون في مقابل النبي. و لما كانت المقدمات التي تقوم عليها نظرية النبوة هي عينها التي تقوم عليها فكرة الإمامة و مهمة الأئمة عند الإسماعيلية فقد عنى الإسماعيلية بالرد على منكري النبوة ، و هذا يفسر لنا كون بعض الردود قد وردت في كتب الإسماعيلية. ذلك أن الإسماعيلية ، على اختلاف فرقها من إسماعيلية حقيقية و باطنية و قرامطية ، خصوصا فرقة السبعية ترد العلم كله إلى الأئمة المعصومين الذين يؤخذ عنهم وحدهم العلم. فكما يقول ابن الجوزي عن سبب تسمية فرقة " التعليمية " بهذا الاسم : " إن مبدأ مذهبهم إبطال الرأي ، و إفساد تصرف العقول ، و دعوة الخلق إلى التعليم في الإمام المعصوم ، و أنه " لا مدرك للعلوم إلا بالتعليم " ( 2 ). و قال أيضا : " و اعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض و باطنه الكفر و مفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم و عزل العقول عن أن تكون مدركته ( لعل الصواب : مدركة ) للحق " ( المرجع نفسه ، ص 262 س 19 و ما يليه ).
فكان من الطبيعي إذا و قد كان هذا مذهبهم أن يهاجموا كل من يتعرض بالنقد لنظرية النبوة ، ما دامت هذه النظرية تقوم على أساس تفضيل الله لبعض الناس كيما يكونوا مصدر المعارف و الهداية للناس.
و بعد أن أنكر الرازي النبوة على الأساس العقلي العام راح يفند إمكانها بطريقة مفصلة فقال في مناظرته مع أبي حاتم الرازي حينما ناظره في أمر النبوة : " من أين أوحيتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم ، و فضلهم على الناس ، و جعلهم أدلة لهم ، و أحوج الناس إليهم ؟ و من أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختارهم لهم ذلك و يشلى بعضهم على بعض و يؤكد بينهم العداوات و يكثر المحاربات و يهلك بذلك الناس ؟" ( 3 ) و النقد هنا يقوم على الاعتبارات التالية :
أولا : على أي أساس يفضل الله بعض القوم على بعض و يختص بالنبوة ؟.
ثانيا : أليس في هذا التفضيل مدعاة للشقاق بين الناس ، و قد حدث هذا فعلا بما جرى من تنازع بين أصحاب الأديان المختلفة ؟ أما عن المسألة الأولى فيرى الرازي أن الجكمة الإلهية تقتضي أن يتساوى الناس في استعدادهم لإدراك المنافع و المضار و تمييز الخير من الشر ، و أن لا يدع بينهم مجالا للتنازع بتفضيل بعض الأفراد ، إذ سيكون لكل فرد أتباع و شيع ، مما يؤدي إلى الشقاق. و إذا " فالأولى بحكمة الحكيم و رحمة الرحيم أن يلهم عباده أجمعين معرفة منافعهم و مضارهم في عاجلهم و آجلهم ، و لا يفضل بعضهم على بعض فلا يكون بينهم تنازع و لا اختلاف فيهلكوا. و ذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض ، فتصدق كل فرقة إمامها و تكذب غيره و يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف و يعم البلاء و يهلكوا بالتعادي و المحاربات. و قد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى " ( الموضع نفسه).
و هنا يرد عليه أبو حاتم مبينا اختلاف الناس و تفاوت مراتبهم ، " فإنا لا نرى في العالم إلا إماما و مأموما ، و عالما و متعلما ، في جميع الملل و الأديان و المقالات من أهل الشرائع و أصحاب الفلسفة التي هي أصل مقالتنا ، و لا نرى الناس يستغني بعضهم عن بعض ، بل كلهم محتاجون بعضهم إلى بعض ، غير مستغنين بغلامهم عن الأئمة و العلماء ، لم يلهموا ما ادعيت من منافعهم و مضارهم في أمر العاجل و الآجل ، بل أحوجوا إلى علماء يتعلمون منهم ، و أئمة يقتدون بهم ، و راضة يروضونهم. و هذا عيان لا يقدر على دفعه إلا مباهت ظاهر البهت و العناد. و إنما مع ذلك تدعى أنك خصصت بهذه العلوم التي تدعيها من الفلسفة ، و أن غيرك قد حرم ذلك و أحوج إليك ، و أوجبت عليهم التعلم منك و الاقتداء بك ( 4 ) ".
فأجابه الرازي : " لم أخص بها أنا دون غيري ، و لكني طلبتها و توانوا فيها. و إنما حرموا ذلك لإضرابهم عن النظر ، لا لنقص فيهم. و الدليل على ذلك أن أحدهم يفهم من أمر معاشه و تجارته و تصرفه في هذه الأمور ، و يهتدي بحيلته إلى أشياء تدق عن كثير منا ، و ذلك لأنه صرف همته إلى ذلك. و لو صرف همته إلى ما صرفت همتي أنا إليه و طلب ما طلبت لأدرك ما أدركت " ( 5 ). و في هذا الجواب نجد أصداء لأفلاطون و نظريته في التعليم ، خصوصا كما عرضها في محاورة " مينون " : فالأمر عند الرازي كما هو عند أفلاطون أمر إيقاظ و استغلال لاستعدادات موجودة بالفطرة في نفوس كل منا منذ ميلاده ، و مهمتنا نحن إيقاظ هذا الكامن و استغلال ما هو فطري. و مع هذا فإن الرأي عند الرازي أن الناس يولدون و عندهم استعدادات متساوية ، و إنما يأتي التفاوت فيما بعد من إيثار بعضهم تنمية ملكات على أخرى ، و توجيه عنايتهم إلى نواح دون نواح. و لذا فحينما سأله أبو حاتم : " هل يستوي الناس في العقل و الهمة و الفطنة ، أم لا ؟". أجاب : " لو اجتهدوا و اشتغلوا بما يعنيهم ( و في قراءة : يعينهم ، و لكنا نفضل الأولى ) لاستووا في الهمم و العقول " ( ص 296 س 19 – س 20 ) فيرد عليه أبو حاتم بكلام وجيه لا يعنينا هنا بيانه لأن الذي يهمنا هو بيان نظرية أبي بكر الرازي وحده.
أما عن المسألة االثانية فقد فصل الرازي القول فيها في كتابه " مخاريق الأنبياء " كما يتبين من الشذرات التي يوردها أبو حاتم ، فبين الاختلاف بين الأنبياء ، و كيف أدى إلى النزاع بين أصحابها. روى أبو حاتم : " و أما قوله ( أي أبا بكر الرازي ) : الآن ننظر في كلام القوم و مناقضته – يعني بذلك كلام الأنبياء عليهم السلام – و قال : زعم عيسى أنه ابن الله ، و زعم موسى أنه لا ابن له ، و زعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس. و ماني و زرهشت ( يقصد زرادشت ) خالفا موسى و عيسى و محمد في القديم ، و كون العالم ، و سبب الخير و الشر ، و ماني خالف زرهشت في الكونين ( أي النور و الظلمة ) و عالمهما. و محمد زعم أن المسيح لم يُقتل ، و اليهود و النصارلا تنكر و تزعم أنه قتل و صلب " ( 6 ) . و اتخذ الرازي من هذا التناقض بين الأنبياء دليلا على بطلان النبوة ، لأن النبوة في أصلها تقوم على أساس الإلهام و الوحي من الله الواحد ، فما دام المصدر واحدا ، فالواجب أن يتحد القول الصادر عنه ، و إلا نسبنا التناقض و الاضطراب إلى الله نفسه ، و هذا مستحيل على الله الحكيم فوجود التناقض بين الأنبياء – مع ادعائهم جميعا أنهم إنما يصدرون عن وحي الله الواحد – إنما يدل على أنهم غير صادقين ، و أن النبوة التي يقولون بها باطلة.
و من هنا يمكن تلخيص الأسس التي بنى عليها الرازي إبطاله للنبوة على هذا النحو :
1 – العقل يكفي وحده لمعرفة الخير و الشر و الضار و النافع في حياة الإنسان و كاف وحده لمعرفة أسرار الألوهية ، و كاف كذلك وحده لتدبير أمور المعاش و طلب العلوم و الصنائع فما الحاجة بعد إلى قوم يختصون بهداية الناس إلى هذا كله ؟
2 – لا معنى لتفضيل بعض الناس و اختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعا ، إذ الكل يولدون و هم متساوون في العقول و الفطن ، و التفاوت ليس إذا في المواهب الفطرية و الاستعدادات و إنما هو في تنمية هذه المواهب و توجيهها و تنشئتها.
3 – الأنبياء متناقضون فيما بينهم ، و ما دام مصدرهم واحدا ، و هو الله فيما يقولون ، فإنهم لا ينطقون عن الحق و النبوة و بالتالي باطلة.
هوامش المؤلف :
1 – رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي ، ج 1 ص 17 س 16 – ص 18 س 16 . نشرها باول كروس ، القاهرة سنة 1939 .
2 – فصل من كتاب المنتظم في التارلايخ لابن الجوزي نشره جوزف دي سوموجي في مجلة الدراسات الشرقية ط ج 13 ( سنة 1932 – سنة 1933 ) ص 261 س 2
J de Somogyi : A treatise on the Qarmatians in the qitab al Muntazam in RSO.
3 – رسائل فلسفية ج 1 ص 295 س 3 – س 6 .
4 - الكتاب نفسه ص 269 س 5 – 13 .
5 – رسائل فلسفية ص 296 س 14 – س 18 .
6 – باول كروس : فصول مستخرجة من كتاب أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي ، منشور في مجلة " شرقيات " Orientalia ج 5 سلسلة جديدة ، كراسة 3 / 4 ، روما سنة 1936 ص 362 ، قطعة رقم 8 س 4 – س 6 . و قارن أيضا القطعة رقم 12 س 7 – س 9
و يبدو من هذه النصوص أن نظرية النبوة كانت الشغل الأكبر لنقد الرازي للأديان. فالرازي كان لا يؤمن بالنبوة ، و كان نقده لها يقوم على أساس اعتبارات عقلية و أخرى تاريخية.
أما من الناحية العقلية فإنه لا بد قد قال بالحجة العامة التي قال بها البراهمة المزعومون ، و هي التي أوردناها عن ابن الراوندي في القطعة رقم 3 من أن العقل يكفي وحده لمعرفة الخير و الشر فلا مدعاة إذا لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من جانب الله. و يؤيد هذا الافتراض ما نراه من مدح الرازي للعقل ، خصوصا في مستهل كتاب " الطب الروحاني " حيث قال : " إن البارئ – عز اسمه – إنما أعطانا العقل و حبانا به لننال و نبلغ به من المنافع العاجلة و الآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله و بلوغه ، و إنه أعظم نعم الله عندنا و أنفع الأشياء لنا و أجداها علينا ... و بالعقل أدركنا جميع ما ينفعنا و يحسن و يطيب به عيشنا و نصل إلى بغيتنا و مرادنا ... و به أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا الخفية المستورة عنا... و به وصلنا إلى معرفة البارئ عز و جل الذي هو أعظم ما استدركنا و أنفع ما أصبنا ... و إذا كان هذا مقداره و محله و خطره و جلالته فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته ، و لا نجعله – و هو الحاكم – محكوما عليه ، و لا – و هو الزمام – مزموما ، و لا – و هو المتبوع – تابعا ، بل نرجع في الأمور إليه و نعتبرها به و نعتمد فيها عليه ، فنمضيها على إمضائه و نوقفها على إيقافه " ( 1 ) . و من هذه الفقرة المهمة يتبين التشابه الكبير بينه و بين ابن الراوندي حين قال على لسان البراهمة : " إنه قد ثبت عندنا و عند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه ، و إنه هو الذي يعرف به الرب و نعمه ، و من أجله صح الأمر و النهي و الترغيب و الترهيب ". فإذا كان ابن الراوندي قد بنى على هذه المقدمة إبطاله للنبوة ، فيشبه أن يكون الرازي قد أراد هذا أيضا و رمى إليه ، خصوصا و هو يزيد في توكيد مناقب العقل فينسب إليه ليس فقط ما يتصل بالأخلاق ، كما اقتصر عليه ابن الراوندي بل و أيضا ما يتصل بالمسائل الإلهية ، فيقول إننا " به وصلنا إلى معرفة البارئ عز و جل و هذا يقطع بأن النبوة أصبحت لا مبرر لها ما دمنا نعرف بالعقل كل شيء أخلاقي و إلهي ، لأن النبوة لا تقوم بأكثر من هذا و لقد كان قول ابن الراوندي – لو أخذ وحده – خليقا بأن يرد عليه بالقول بأن الأنبياء يأتون لبيان الأمور المتصلة بالألوهية ، و لا يقتصرون على الناحية الأخلاقية وحدها. أما الرازي فقد أكد أن العقل هو المرجع في كل شيء ، و راح يشيد بلهجة لا نكاد نجد لها مثيلا عند كبار العقليين في كل العصور ، حتى في العصر الحديث : فالفلاسفة اليونانيون كانوا مع الإيمان بسلطان العقل يتركون للوحي و الإلهام مجالا لنوع من النبوة ، كما يظهر لدى أفلاطون ، فكأن الرازي إذا قد ذرّف على أستاذه و زاده ، مع أنه كان يشايع أفلاطون ، و في العصر الحديث ، لا تزال فكرة اللامعقول تلعب دورا كبيرا في معظم المذاهب الفلسفية.
و ليس من شك في أن الرازي إنما يشير إلى النبوة و الأديان حينما قال في تلك الفقرة عينها : " و إذ كان هذا مقداره و محله و خطره و جلالته ( لاحظ هذا التكرار الذي يرمي إليه الرازي عن قصد ليؤكد ما يشير إليه ) فحقيق علينا ألا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته ، أي ليس علينا أن " نجعله – و هو الحاكم – محكوما عليه ، و لا – و هو الزمام – مزموما ، و لا – و هو المتبوع – تابعا " ، و ذلك بالالتجاء إلى سلطة دينية خارجة عن العقل هي النبوة. لهذا يجب أن نفسر هذا الفصل كله من " الطب الروحاني " على أساس فكرة إبطال النبوة عند الرازي ، و إلا لم نفهم الغرض من كل هذه التوكيدات المتكررة المتوالية. و لقد كان الملاحدة يلجأون جميعا إلى الإشادة بالعقل كيما يكون في مقابل النبي. و لما كانت المقدمات التي تقوم عليها نظرية النبوة هي عينها التي تقوم عليها فكرة الإمامة و مهمة الأئمة عند الإسماعيلية فقد عنى الإسماعيلية بالرد على منكري النبوة ، و هذا يفسر لنا كون بعض الردود قد وردت في كتب الإسماعيلية. ذلك أن الإسماعيلية ، على اختلاف فرقها من إسماعيلية حقيقية و باطنية و قرامطية ، خصوصا فرقة السبعية ترد العلم كله إلى الأئمة المعصومين الذين يؤخذ عنهم وحدهم العلم. فكما يقول ابن الجوزي عن سبب تسمية فرقة " التعليمية " بهذا الاسم : " إن مبدأ مذهبهم إبطال الرأي ، و إفساد تصرف العقول ، و دعوة الخلق إلى التعليم في الإمام المعصوم ، و أنه " لا مدرك للعلوم إلا بالتعليم " ( 2 ). و قال أيضا : " و اعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض و باطنه الكفر و مفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم و عزل العقول عن أن تكون مدركته ( لعل الصواب : مدركة ) للحق " ( المرجع نفسه ، ص 262 س 19 و ما يليه ).
فكان من الطبيعي إذا و قد كان هذا مذهبهم أن يهاجموا كل من يتعرض بالنقد لنظرية النبوة ، ما دامت هذه النظرية تقوم على أساس تفضيل الله لبعض الناس كيما يكونوا مصدر المعارف و الهداية للناس.
و بعد أن أنكر الرازي النبوة على الأساس العقلي العام راح يفند إمكانها بطريقة مفصلة فقال في مناظرته مع أبي حاتم الرازي حينما ناظره في أمر النبوة : " من أين أوحيتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم ، و فضلهم على الناس ، و جعلهم أدلة لهم ، و أحوج الناس إليهم ؟ و من أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختارهم لهم ذلك و يشلى بعضهم على بعض و يؤكد بينهم العداوات و يكثر المحاربات و يهلك بذلك الناس ؟" ( 3 ) و النقد هنا يقوم على الاعتبارات التالية :
أولا : على أي أساس يفضل الله بعض القوم على بعض و يختص بالنبوة ؟.
ثانيا : أليس في هذا التفضيل مدعاة للشقاق بين الناس ، و قد حدث هذا فعلا بما جرى من تنازع بين أصحاب الأديان المختلفة ؟ أما عن المسألة الأولى فيرى الرازي أن الجكمة الإلهية تقتضي أن يتساوى الناس في استعدادهم لإدراك المنافع و المضار و تمييز الخير من الشر ، و أن لا يدع بينهم مجالا للتنازع بتفضيل بعض الأفراد ، إذ سيكون لكل فرد أتباع و شيع ، مما يؤدي إلى الشقاق. و إذا " فالأولى بحكمة الحكيم و رحمة الرحيم أن يلهم عباده أجمعين معرفة منافعهم و مضارهم في عاجلهم و آجلهم ، و لا يفضل بعضهم على بعض فلا يكون بينهم تنازع و لا اختلاف فيهلكوا. و ذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض ، فتصدق كل فرقة إمامها و تكذب غيره و يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف و يعم البلاء و يهلكوا بالتعادي و المحاربات. و قد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى " ( الموضع نفسه).
و هنا يرد عليه أبو حاتم مبينا اختلاف الناس و تفاوت مراتبهم ، " فإنا لا نرى في العالم إلا إماما و مأموما ، و عالما و متعلما ، في جميع الملل و الأديان و المقالات من أهل الشرائع و أصحاب الفلسفة التي هي أصل مقالتنا ، و لا نرى الناس يستغني بعضهم عن بعض ، بل كلهم محتاجون بعضهم إلى بعض ، غير مستغنين بغلامهم عن الأئمة و العلماء ، لم يلهموا ما ادعيت من منافعهم و مضارهم في أمر العاجل و الآجل ، بل أحوجوا إلى علماء يتعلمون منهم ، و أئمة يقتدون بهم ، و راضة يروضونهم. و هذا عيان لا يقدر على دفعه إلا مباهت ظاهر البهت و العناد. و إنما مع ذلك تدعى أنك خصصت بهذه العلوم التي تدعيها من الفلسفة ، و أن غيرك قد حرم ذلك و أحوج إليك ، و أوجبت عليهم التعلم منك و الاقتداء بك ( 4 ) ".
فأجابه الرازي : " لم أخص بها أنا دون غيري ، و لكني طلبتها و توانوا فيها. و إنما حرموا ذلك لإضرابهم عن النظر ، لا لنقص فيهم. و الدليل على ذلك أن أحدهم يفهم من أمر معاشه و تجارته و تصرفه في هذه الأمور ، و يهتدي بحيلته إلى أشياء تدق عن كثير منا ، و ذلك لأنه صرف همته إلى ذلك. و لو صرف همته إلى ما صرفت همتي أنا إليه و طلب ما طلبت لأدرك ما أدركت " ( 5 ). و في هذا الجواب نجد أصداء لأفلاطون و نظريته في التعليم ، خصوصا كما عرضها في محاورة " مينون " : فالأمر عند الرازي كما هو عند أفلاطون أمر إيقاظ و استغلال لاستعدادات موجودة بالفطرة في نفوس كل منا منذ ميلاده ، و مهمتنا نحن إيقاظ هذا الكامن و استغلال ما هو فطري. و مع هذا فإن الرأي عند الرازي أن الناس يولدون و عندهم استعدادات متساوية ، و إنما يأتي التفاوت فيما بعد من إيثار بعضهم تنمية ملكات على أخرى ، و توجيه عنايتهم إلى نواح دون نواح. و لذا فحينما سأله أبو حاتم : " هل يستوي الناس في العقل و الهمة و الفطنة ، أم لا ؟". أجاب : " لو اجتهدوا و اشتغلوا بما يعنيهم ( و في قراءة : يعينهم ، و لكنا نفضل الأولى ) لاستووا في الهمم و العقول " ( ص 296 س 19 – س 20 ) فيرد عليه أبو حاتم بكلام وجيه لا يعنينا هنا بيانه لأن الذي يهمنا هو بيان نظرية أبي بكر الرازي وحده.
أما عن المسألة االثانية فقد فصل الرازي القول فيها في كتابه " مخاريق الأنبياء " كما يتبين من الشذرات التي يوردها أبو حاتم ، فبين الاختلاف بين الأنبياء ، و كيف أدى إلى النزاع بين أصحابها. روى أبو حاتم : " و أما قوله ( أي أبا بكر الرازي ) : الآن ننظر في كلام القوم و مناقضته – يعني بذلك كلام الأنبياء عليهم السلام – و قال : زعم عيسى أنه ابن الله ، و زعم موسى أنه لا ابن له ، و زعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس. و ماني و زرهشت ( يقصد زرادشت ) خالفا موسى و عيسى و محمد في القديم ، و كون العالم ، و سبب الخير و الشر ، و ماني خالف زرهشت في الكونين ( أي النور و الظلمة ) و عالمهما. و محمد زعم أن المسيح لم يُقتل ، و اليهود و النصارلا تنكر و تزعم أنه قتل و صلب " ( 6 ) . و اتخذ الرازي من هذا التناقض بين الأنبياء دليلا على بطلان النبوة ، لأن النبوة في أصلها تقوم على أساس الإلهام و الوحي من الله الواحد ، فما دام المصدر واحدا ، فالواجب أن يتحد القول الصادر عنه ، و إلا نسبنا التناقض و الاضطراب إلى الله نفسه ، و هذا مستحيل على الله الحكيم فوجود التناقض بين الأنبياء – مع ادعائهم جميعا أنهم إنما يصدرون عن وحي الله الواحد – إنما يدل على أنهم غير صادقين ، و أن النبوة التي يقولون بها باطلة.
و من هنا يمكن تلخيص الأسس التي بنى عليها الرازي إبطاله للنبوة على هذا النحو :
1 – العقل يكفي وحده لمعرفة الخير و الشر و الضار و النافع في حياة الإنسان و كاف وحده لمعرفة أسرار الألوهية ، و كاف كذلك وحده لتدبير أمور المعاش و طلب العلوم و الصنائع فما الحاجة بعد إلى قوم يختصون بهداية الناس إلى هذا كله ؟
2 – لا معنى لتفضيل بعض الناس و اختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعا ، إذ الكل يولدون و هم متساوون في العقول و الفطن ، و التفاوت ليس إذا في المواهب الفطرية و الاستعدادات و إنما هو في تنمية هذه المواهب و توجيهها و تنشئتها.
3 – الأنبياء متناقضون فيما بينهم ، و ما دام مصدرهم واحدا ، و هو الله فيما يقولون ، فإنهم لا ينطقون عن الحق و النبوة و بالتالي باطلة.
هوامش المؤلف :
1 – رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي ، ج 1 ص 17 س 16 – ص 18 س 16 . نشرها باول كروس ، القاهرة سنة 1939 .
2 – فصل من كتاب المنتظم في التارلايخ لابن الجوزي نشره جوزف دي سوموجي في مجلة الدراسات الشرقية ط ج 13 ( سنة 1932 – سنة 1933 ) ص 261 س 2
J de Somogyi : A treatise on the Qarmatians in the qitab al Muntazam in RSO.
3 – رسائل فلسفية ج 1 ص 295 س 3 – س 6 .
4 - الكتاب نفسه ص 269 س 5 – 13 .
5 – رسائل فلسفية ص 296 س 14 – س 18 .
6 – باول كروس : فصول مستخرجة من كتاب أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي ، منشور في مجلة " شرقيات " Orientalia ج 5 سلسلة جديدة ، كراسة 3 / 4 ، روما سنة 1936 ص 362 ، قطعة رقم 8 س 4 – س 6 . و قارن أيضا القطعة رقم 12 س 7 – س 9
3 - نقد الكتب المقدسة
و يوجه الرازي عناية خاصة إلى الكتب المقدسة ، فيحاول بيان فسادها بواسطة ما فيها من تناقض و إحالات. و نقده يهدف خصوصا إلى ما فيها من تشبيه و تجسيم ، فيأخذ على التوراة و القرآن و الحديث النبوي هذه الناحية. " فذكر ما في التوراة من ظاهر ما رسمه موسى عليه السلام في ذكر البساط و الخوان و وضع الشحم و الشرب على النار لشمة الرب ( في الأصل السنة ) ، و انه عتيق الأيام في صورة شيخ أبيض الرأس و اللحية ، و ما ذكر عن رواة الحديث و أعلام الأمة ، و نسبهم إلى الجهل. و ذكرهم بالتشنيع ( في الأصل : بالتسبيح ) لرواياتهم الأخبار التي ادعى عليها التناقض و التي تدل على التشبيه ، مثل ما روى عن النبي صلى الله و عليه و آله أنه قال : " رأيت ربي في أحسن صورة ، و وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي " ، و ما في القرآن من الآيات التي ظاهر ألفاظها يدل على التشبيه مثل قوله عز و جل : " الرحمن على العرش استوى ( 1 ) " ، و قوله : " و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( 2 ) " ، و قوله : " الذين يحملون العرش و من حوله ( 3 ) " ، و قول رسول الله صلى الله عليه و آله : " جانب العرش على منكب إسرافيل و إنه ليئط أطيط الرحل الجديد..." ( قطعة رقم 9 س 9 – س 20 ).
و لا يعني الرازي هنا أن يحسب حسابا لحركة التفسير العقلي لهذه الآيات و الأحاديث ، و هي الحركة التي قام بها المعتزلة خصوصا في القرنين الثاني و الثالث ، و لعله رأى أن هذا التفسير إنما هو نوع من التأويل إنقاذا لهذه الآيات من ظاهر ما تدل عليه مما يتنافى مع كمال الألوهية ، و هو كملحد لا يعتد بالتأويل ، لأنه في نظره و نظر أمثاله تحايل لا أكثر و لا أقل ، و هم إنما يتجهون إلى الأديان كما هي في نصوصها و كما تبدو عليه.
و لسنا ندري إلى أي مدى قام بنقد الكتب المقدسة الأخرى ، لكن يظهر أنه حاول أن يضرب هذه الكتب بعضها ببعض أولا ، ثم يفصل االقول الإيجابي في نقدها من جانبه هو ثانيا. فهو ينقد اليهودية و آثارها عن طريق المانوية ، إذ يقول أبو حاتم عنه : " و استظهر بدعوى المانية أن موسى عليه السلام كان من رسل الشياطين". و قال : من عني بذلك فليقرأ سفر الأسفار ( 4 ) الذي للمانية ، فإنه يطلع على عجائب من قولهم في اليهودية من لدن إبراهيم إلى زمان عيسى عليه السلام " ( قطعة رقم 10 س 7 – س 10 ) ، كما ينقد المسيحية - فيما يلوح ، و إن لم يظهر في النصوص التي بأيدينا – بما ورد في القرآن من تحريف الإنجيل ، كما أنه ينقد القرآن على أساس ما ورد فيه مخالف لما في المسيحية و اليهودية ، فقال : " إن القرآن يخالف ما عليه اليهود و النصارى من قتل المسيح عليه السلام ، لأن اليهود و النصارى يقولون إن المسيح قتل و صلب ، و القرآن ينطق بأنه لم يقتل و لم يصلب و أن الله رفعه إليه " ( قطعة رقم 12 س 7 – س 9 ). فمن هذا التضارب بين الكتب المقدسة يريد أن يصل إلى هذه النتيجة و هي أنها كاذبة لأن التناقض بين أمثالها يؤذن بكذبها جميعا ما دامت تدعي أنها تعود إلى مصدر إلهي واحد.
و لعل أهم عناية وجهها الرازي إلى الكتب المقدسة كانت تلك المتصلة بالقرآن. فهو يقول : " قد و الله تعجبنا من قولكم إن القرآن هو معجز ، و هو مملوء من التناقض ، و هو أساطير الأولين – و هي خرافات ". و هو هنا يهاجم إعجاز القرآن على نحو مشابه لما فعله ابن الراوندي ، فيهاجمه من ناحية النظم و التأليف ، كما يهاجمه من ناحية المعنى ( 5 ).
أما من ناحية نظم القرآن و تأليفه فإنه يقول : " إنكم تدعون إن المعجزة قائمة موجودة – و هي القرآن – و تقولون : " من أنكر ذلك فليأت بمثله " . ثم قال ( أي الرازي ) : إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء و الفصحاء و الشعراء و ما هو أطلق منه ألفاظا ، و أشد اختصارا في المعاني ، و أبلغ أداء و عبارة و أشكل سجعا ، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به ( قطعة رقم 16 س 3 – س 8 ). و الشبه واضح بين هذا القول و بين قول ابن الراوندي : إننا نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من بعض سور القرآن ، و إن كان الرازي لم يذكر بليغا بعينه. و هذا الطعن في إعجاز القرآن من حيث النظم ينقسم إلى أقسام : من حيث الألفاظ ، و من حيث التراكيب ، و من حيث القدرة على الأداء أي الفصاحة ، و من حيث الموسيقى اللفظية. فيرى أن في كتابات البلغاء ألفاظا أكثر طلاقة ، و لعله يقصد بالطلاقة هنا السهولة و عدم التعقيد اللفظي ، و هو إن لم يشر إلى بلغاء معينين ، فلعله يقصد الألفاظ السهلة التي يستعملها خصوصا كاتب مثل ابن المقفع ، فلعله يعجب بأسلوب علمي كهذا أكثر مما يعجب بالأساليب الإنشائية، نظرا إلى ذوقه العلمي الذي يميل إلى التدقيق و البساطة أكثر ما يميل إلى التفخيم و جلال اللفظ. و ينقد تأليف القرآن ثانيا من ناحية طريقة التركيب ، أي الأسلوب بالمعنى المحدود ، فيأخذ عليه إسهابه و تطويله و تكراره ، و هو هنا أيضا يحكم ذوقه العلمي في الأسلوب ، و لا يعجب بالأساليب المطولة ذوات الفواصل المتكررة المعاني ، لذا لا ينتظر منه أن يعجب بأسلوب كأسلوب الجاحظ . ثم يهاجمه من حيث البلاغة و الفصاحة ، أي القدرة على أداء المعنى المقصود من أيسر طريق. و لقد كان هذا هو المثل الأعلى للبلاغة في ذلك العصر ، خصوصا بتأثير كتاب " الخطابة " لأرسطو و ما قام حوله و تأثر به من دراسات بلاغية كما يظهر من " نقد النثر " لقدامة بن جعفر. و أخيرا يتطرق الرازي إلى الناحية الموسيقية في نظم القرآن فيقول إن في كلام البلغاء ما هو أشكل منه سجعا ، و " أشكل " هنا بمعنى أنضج أي من شأنه أن يكون أكثر موسيقية. و هذا إما بأن تكون الكلمات المسجوعة أقرب في تشابه حروفها الأخيرة ، و لعله لاحظ هنا اعتماد القرآن على الحروف المتقاربة دون المتساوية في بعض الأسجاع ، و إما يكون السجع أقرب إلى العفو و الطبيعة بحيث لا يشعر المرء بأنه مقصود إليه أو معتسف.
أما من حيث المعنى فقد هاجم القرآن من عدة نواح تختلف عن تلك التي هاجمه منها ابن الراوندي. و لا عجب فأبن الراوندي كان يجول في محيط كلامي ديني ، لهذا تركز نقده في هذه النواحي ، أما الرازي فقد كان يجول في جو علمي. و هذه النواحي التي هاجم منها الرازي هي أولا أن القرآن مملوء بأساطير الأولين ، و ثانيا أن فيه تناقضا بين بعض أجزائه و بعض ، و ثالثا أنه لا توجد فيه فائدة. قاتل الرازي : " قد و الله تعجبنا من قولهم في حكاية أساطير الأولين ، مملوء مع ذلك تناقضا ، من غير أن تكون فيه فائدة أو بينة على شيء " ( قطعة رقم 16 س 8 – س 10 ).
و فيما يتصل بالناحية الأولى لا نجد في النصوص التي بين أيدينا ما يفصل القول فيها لكن يمكن افتراض أن نقده هنا إنما سحبه من التوراة على القرآن ، فبعد أن بين أن الأقوال الواردة في التوراة أسطورية ، قال إنها هي التي رددها القرآن ، فهو الآخر مملوء بأساطير الأولين التي هي خرافات ( قطعة رقم 11 س 2 ). و نقده للتوراة يتصل بنبوءات النبي دانيال خصوصا ، كما يذكر أبو حاتم. و كم كان بودنا أن نعرف كيف قام الرازي بهذا النقد التاريخي ، كيما نطلع على هذه الناحية من نواحي نشاطه العقلي.
و لقد بينا من قبل الناحية الثانية من هذا النقد ، و نعني ما أشار الرازي إليه من تناقض في القرآن ، و ذلك خصوصا بمسألة التجسيم و التشبيه و ما يخالف هذا من نعت القرآن لله بأنه " ليس كمثله شيء ( سورة 42 : 9 ) ، ثم الآيات المتصلة بالجبر و الأخرى التي تقول بالاختيار.. و لعل الرازي قد استقى هذه المسائل من كتب الكلام نفسها.
و الناحية الثالثة هي التي يوجه إليها الرازي كامل عنايته ، على الأقل فيما يبدو من النصوص التي لدينا. فهو يريد أولا أن يرد على الخصم حجته ، هذا الخصم يقول : " من أنكر ذلك ( أي إعجاز القرآن ) فليأت بمثله " ، فيقول الرازي : و نحن نقول لكم كذلك إئتونا بمثل ما في كتاب أصول الهندسة و المجسطي و غيرهما. قال الرازي : " إنا نطالبكم بالمثل الذي تزعمون أنا لا نقدر أن نأتي به " ، و هو بهذا التحدي يشير إلى أن الحجة نفسها ترتد على الخصم ، فليس في وسع أحد أن يأتي تماما بما أتى به آخر.
و هو يريد ثانيا أن يبين أن هذه الكتب العلمية و أمثالها أكبر فائدة و نفعا من القرآن و الكتب الدينية عامة ، لأن في الأولى من العلم ما فيه فائدة للناس في معاشهم و أحوال دنياهم ، بينما القرآن ( و كذلك الكتب الدينية الأخرى ) لا تفيد شيئا . فإن كان لا بد من التحدث عن الإعجاز و الحجة ، فالأولى بهما أن يعزيا إلى مثل هذه الكتب النافعة. قال الرازي : " و أيم الله لو وجب أن يكون كتاب حجة ، لكانت أصول الهندسة ، و المجسطي الذي يؤدي إلى معرفة حركات الأفلاك و الكواكب ، و نحو كتب المنطق ، و كتب الطب الذي فيه علوم مصلحة للأبدان – أولى بالحجة مما لا يفيد نفعا و لا ضرا و لا يكشف مستورا ، يعني به القرآن العظيم. و قال أيضا : و من ذا يعجز عن تأويل الخرافات بلا بيان و لا برهان إلا دعاوى أن ذلك حجة؟ و هذا باب إذا دعا إليه الخصم سلمناه و تركناه و ما قد حل به أن سكر الهوى و الغفلة مع ما إنا نأتيه بأفضل منه من الشعر الجيد و الخطب البليغة و الرسائل البديعة ما هو أفصح و أسجع منه. و هذه معاني تفاضل الكلام في ذاته ، فأما تفاضل الكلام على الكتاب فللأمور كثيرة فيها منافع كثيرة ، و ليس في القرآن شيء من ذلك الفضل ، إنما هو في باب الكلام ، و القرآن خلو من هذه التي ذكرناها " ( قطعة رقم 17 س 1 – س 11 ).
فنقد الرازي هنا يتجه إذا إلى بيان ما في الكتب العلمية من نفع لصلاح معاش الناس في دنياهم ، بينما لا يوجد في الكتب الدينية ، فهي أكثر فائدة إذا من الكتب الدينية. و هنا نشاهد في رد أبي حاتم على أبي بكر الرازي صاحبنا تلك الظاهرة التي نجدها في العالم الأوروبي اليهودي و المسيحي ، خصوصا عند فيلون اليهودي و القديس أوغسطين في " مدينة الله " و عند روجر بيكون ، و نعني بهذه الظاهرة نسبة العلوم التي اكتشفت إلى وحي الله على لسان الأنبياء ، و ما العلماء و الفلاسفة إلا آخذون متلقون عن هؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم هذه العلوم.
فبينما الرازي يقول : " إن الفلاسفة استدركوا هذه العلوم بآرائهم و استنبطوها بدقة نظرهم و ألهموا ذلك بلطافة طبعهم – يعني ما في كتب الطب من معرفة طبائع العقاقير و الخصوصيات التي فيها. و ما في المجسطي و بطليموس من معرفة حركات الفلك و الكواكب و حساب النجوم و ما فيه من اللطائف و الأحكام ، و ما في إقليدس من علم الهندسة و المساحات ، و معرفة مقدار عرض الأرض و طولها و مسافة ما بين السموات و غير ذلك مما في هذه الكتب. فزعم الملحد ( أي الرازي ) أن ذلك كله باستنباط و إلهام ، و أنهم استغنوا عن أئمتنا في ذلك ، يعني الأنبياء عليهم السلام. ثم افتخر و قال : إن نفعها و ضرها أكثر من نفع كتب الشرائع و ضرها ، و تحجج بذلك. ثم قال : أخبرونا أين ما دلت عليه أئمتكم من التفرقة بين السموم و الأغذية ، و أفعال العقاقير ؟ أرونا منه ورقة واحدة كما نقل عن بقراط و جالينوس الآلاف لا الآحاد ( أي من الأوراق ) ، و قد نفع الناس و أرونا شيئا من علوم و حركات الفلك و علله نقل عن رجل من أئمتكم أو شيئا من الطبائع اللطيفة الطريفة نحو الهندسة و غير ذلك من أمر اللغات. لم تكن معروفة ، اخترعها أئمتكم؟ ثم قال : إن قلتم إن هذا كله أخذ أصله من أئمتنا ، قلنا هذه دعوى غير صحيحة و لا مسلمة لكم. و إنا لنعرف ما تدعون أنه من أئمتكم ، و هو الضعف الوتح ( اي القليل التافه الخسيس ) الذي شاع ذكره في عوام الناس و خواصهم. ثم قال : فإن قلتم : فمن أين عرف الناس أفعال العقاقير في الأبدان و حركة الفلك ، و بأي لغة تدعى إلى اختراع اللغات ؟ فإن لنا في ذلك أقاويل تستغنى عن أئمتكم ، فمنها ما تكون مستخرجة على رسومها المعروفة المشهورة عند أهلها كالأرصاد للنجوم و معرفة أفعال العقاقير في الأبدان و معرفة علومها و قوامها بالطعوم و الأراييح ، و منها ما أخذت أولا عن أول إلى نهاية الزمان ، و منها أن تكون معرفتها بالطبع كما يحسن الإوز السباحة من غير تعليم من أئمتكم و يدحض الاحتجاج الذي احتججتم به ( 6 ) – بينما يقول الرازي هذا مفسرا كيفية نشأة العلوم نرى أبا حاتم يرد عليه قائلا : " و أما هذه الكتب التي ذكرها و ذكر أنها ( نقلت ) عن أئمتهم ( أي الفلاسفة و العلماء ) فانا نقول : إنها من رسوم الحكماء الصادقين المؤيدين من الله ( ع ج ) ، و ليس اسم أئمتهم فيها إلا عارية. و هذه الأسماء التي نسبت هذه الكتب إليها مثل جالينوس و بقراط و إقليدس و بطليموس و غير ذلك مما يشاكلها فهي أسماء كني بها عن أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب ، و هذه الكتب هي مبنية على الحكمة الصحيحة و الأصول المنتظمة. و قد كنت ناظرت االملحد ( اي الرازي ) علي أشياء هي في كتاب بليناتس ، و قد ذكر لنا أن صاحب هذا الكتاب محدث و أنه كان في هذه الشريعة ( أي الإسلام ) و تسمى بهذا الإسلام و وضع هذا الكتاب – و قد ذكرنا شيئا من كلامه و الأمثال التي ضربها كتابه – فذاكرت الملحد بذلك فقال : هذا هو صحيح و قد عرفناه ، و اسم هذا الرجل فلان ، و كان في أيام المأمون و كان حكيما متفلسفا. و هذا كنا سمعناه من غيره. فهذا الرجل سلك سبيل أولئك الحكماء و القدماء ، و تسمى بهذا الاسم الذي يشاكل تلك الأسماء ، و كلامه من ذلك االنوع ، و لكنه قد جود االقول في التوحيد و رد على أصحاب الإثنين الملحدين ... و هكذا كان سبيل سائر الحكماء الذين تسموا بهذه الأسماء " ( قطعة رقم 20 س 1 – س 17 ).
من هذا الاقتباس الطويل ( 7 ) يتبين لنا أن الرازي يرى أن العلوم إنما استخرجها الفلاسفة و العلماء بعقولهم ، و هي كافية لتحصيلها كما روينا من قبل في وصفه للعقل ، و لا حاجة إلى الأنبياء من أجل هذا التحصيل ، كما أنه لم يرد عن الأنبياء شيء في هذا الباب ، ثم يوضح طرق تحصيل العلم فيردها إلى ثلاثة : التحصيل العقلي وفقا لقواعد البحث و البرهان الممعروفة ، و النقل من السلف إلى الخلف و هكذا إلى غير نهاية بالرواية الصحيحة كما هي في علم التاريخ ، و الفطرة و الغريزة اللتان بهما يدرك الإنسان ما يحتاج إليه في معاشه و بقائه دون معلم و لا إعمال ذهن و لا تلقين من رواة. و لقد كان الرازي موفقا حقا في حصر طرق العلم هذه و إن كان لم يأت فيها بجديد غير ما هو معروف في مقدمات الكتب المنطقية ، فيما عدا الطريق الثاني ، طريق الرواية التاريخية. و على العكس من هذا نرى أبا حاتم الرازي يعنى برد هذه العلوم و المعارف كلها إلى الأنبياء و الأئمة ، و قد كان واجبا عليه أن يقف هذا الموقف لأنه إسماعيلي ، و قد رأينا نظرية الإسماعيلية في التعليم و كيف أنها ترد العلوم كلها إلى الأئمة المعصومين ، فكان طبيعيا أن يناضل عن هذا الرأي. و الطريف حقا هو تفسيره لنسبة هذه العلوم المعروفة إلى أمثال جالينوس و إقليدس و بقراط و بطليموس ، فهو يزعم أن هذه الأسماء ما هي إلا أسماء مستعارة " كنى بها أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب ، و هذه الكتب هي مبنية على الحكمة الصحيحة و الأصول المنتظمة " ، أي على الوحي الذي تلقاه الأنبياء عن الله ، و يضرب لهذا مثلا بما جرى لكتاب بلنياس ( 8 ) من أن مؤلفه رجل محدث كان في عهد المأمون و أنه ألف الكتاب و نسبه إلى اسم بانياس ، مستعيرا هذا الاسم ، و كذلك فإن الأسماء المذكورة على أنها أسماء مؤلفي الكتب العلمية هي أسماء مستعارة ، و الواقع ان الكتب للأنبياء و مأخوذة عما تلقوه من وحي.
و هذا التفسير بعينه هو الذي نجد نظيره عند فيلون ( 9 ) و أوغسطين و روجر بيكون ، و هو الموقف الديني الذي لا بد أن يقفه رجل الدين في دفاعه عن حكمة الأديان ضد حكمة العلماء الدنيويين. و لذا لم يكن غريبا أن نجد تشابها كاملا في الموقفين بين العالم اليهودي و العالم المسيحي و العالم الإسلامي ، و أكد هذه الظاهرة في الإسلام مذهب الإسماعيلية بما تقتضيه نظرياته في الإمام المعصوم و التعليم. و هذا هو الأصل فيما نجده في كتب تواريخ العلماء و الحكماء في الإسلام من نسبة بعض العلوم إلى الأنبياء مثل إدريس الذي يقال إنه هرمس ( 10 ) . و لعلنا نعود إلى تفصيل هذه الظاهرة الإسلام و نتابع تطورها في فرصة أخرى ، مكتفين هنا بتسجيلها فحسب.
و الرازي يثير أيضا على هامش تلك المسألة العامة في نقد القرآن و الكتب المقدسة مسألة اللغات و كيف نشأت و قد رأيناها مفصلة بعض التفصيل في مقال كروس عن ابن الراوندي ( ص 122 – ص 126 ) و عرفنا قول الرازي و ما يثيره من مسائل ، فلا داعي إلى العود.
و من هذا كله يتبين لنا أن الرازي في نقده للقرآن من حيث المعنى قد عني خصوصا ببيان ما فيه من فوائد تتصل بأحوال الناس في حاجاتهم و معاشهم و عارضها بما في كتب العلماء و الحكماء من فوائد أجزل و أكبر في: نه يقف نفس الموقف الذي نشاهده لدى الملحدين من العلماء في العصر الحديث و بخاصة في القرن الثامن عشر و النصف الأول من القرن التاسع عشر ، و في وسع المرء أن يعقد مقارنات طريفة بين هذا الموقف و موقف مفكر حر آخر مثل فولتير : فكلاهما مؤمن بالعقل و مؤمن بالألوهية ، و كلاهما كافر بالأنبياء و الأديان خاصة على اختلافها ، و كلاهما كان متشائما يرى الشر في الوجود أكثر من الخير : أما فولتير فقد عبر عن رأيه هذا مرارا خصوصا في قصيدته التي نظمها عن " زلزال لشبونة " أما الرازي فرأيه هذا مثبوت في كتبه خصوصا في مواضع متفرقة من " الطب الروحاني " و مقالته في اللذة بعنوان " كتاب اللذة" ، و كذلك في كتاب " العلم الإلهي " إذ يذكر موسى بن ميمون في " دلالة الحائرين " ( جـ 3 ف 12 ، جـ 3 ص 18 من طبعة منك ، باريس سنة 1836 . انظر : رسائل فلسفية لأبي بكر الرازي ، نشرة كروس ، ص 179 – ص 180 ) أن " للرازي كتابا مشهورا وسمه بالإلهيات ضمنه من هذياناته و جهالاته عظائم ، و من جملتها غرض ارتكبه : و هو أن الشر في الوجود أكثر من الخير ، و أنك إذا قايست بين راحة الإنسان و لذاته في مدة راحته ، مع ما يصيبه من الآلام و الأوجاع الصعبة و العاهات و الزمانات و الأنكاد و الأحزان و النكبات – فتجد أن وجوده – يعني الإنسان – نقمة و شر عظيم طلب به. و أخذ أن يصحح هذا الرأي باستقراء هذا البلايا ليقوم كل ما يزعم أهل الحق من إفضال الإله وجوده البين و كونه تعالى الخير المحض ، و كلا ما يصوره محض بلا شك". و هو قول يشبه تماما قول بيرن : " عد ساعات سرورك ، و عد أيامك الخوالي من البلبال فأيا ما كنت ، اعترف بأن ثمت ما هو أحسن منه هو أن لا توجد " ( 11 ).
و قد بسط الرازي آراءه في شقاء الدنيا من هذه الناحية في فلسفته في اللذة و الألم التي عرضها في كثير من مقالاته و كتبه. بيد أننا لا نستطيع الجزم بموقف الرازي من العناية الإلهية ، و ذلك لأننا نراه يؤمن بوجود خالق حكيم ، إذ له كتاب بهذا العنوان " كتاب أن للإنسان خالقا حكيما " ( " الفهرست " لابن النديم ص 416 س 18 من الطبعة المصرية سنة 1929 ) ، ثم نراه يقول هذا صراحة في مناظرته مع أبي حاتم ( 12 ) و يشير إليه في مواضع متفرقة ، مما يدل على أنه كان فعلا يؤمن بوجود خالق حكيم ، و لكننا لا نستطيع أن نؤكد : أكان الرازي يدخل العناية ضمن حكمة الله أم كان يخرجها منها بحسبان الحكمة لا تقتضي بالضرورة العناية ، أو على الأقل العناية الجزئية الخاصة ببني الإنسان ؟ و لو كان لنا أن نرجح لقلنا إن مجرى تفكيره العام يفضي به إلى إنكار العناية الإلهية.
هوامش المؤلف :
1 – سورة 20 : 4 .
2 – سورة 96 : 17 .
3 – سورة 40 : 7 .
4 – هكذا في الأصل و الصواب : سفر الأسرار ، و هو كتاب ماني الرئيسي و في الفهرست لابن النديم بيان أبوابه ( الفهرست ، ص 470 س 9 و ما يليه ، طبعغ مصر سنة 1929 ).
5 – انظر فيما قبل.
6 – قطعة رقم 19 س 4 – س 27 .
7 – أطلنا في الاقتباس لأن النص المنشور في مجلة أورينتاليا من الصعب الحصول عليه.
8 – راجع فيما يتصل بهذذه الفقرة ما قاله كروس في : جابر بن حيان ، ج 2 ص 274 – 275 ، القاهرة سنة 1942
P Kraus : Jabir ibn Hayyan انظر المقال السالف عن جابر.
9 – راجع كتابنا : خريف الفكر اليوناني ، ص 127 ، القاهرة سنة 1943 .
10 – انظر ابن القفطي : إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، ص 2 و ما يليها ، طبع مصر سنة 1326 هـ = سنة 1908 .
11 – راجع كتابنا : شوبنهور ، ص 208 ، الطبعة الثانية ، القاهرة ، سنة 19456 .
12 – رسائل فلسفية للرازي ، ص 295 س 14 – س 15 .
و لا يعني الرازي هنا أن يحسب حسابا لحركة التفسير العقلي لهذه الآيات و الأحاديث ، و هي الحركة التي قام بها المعتزلة خصوصا في القرنين الثاني و الثالث ، و لعله رأى أن هذا التفسير إنما هو نوع من التأويل إنقاذا لهذه الآيات من ظاهر ما تدل عليه مما يتنافى مع كمال الألوهية ، و هو كملحد لا يعتد بالتأويل ، لأنه في نظره و نظر أمثاله تحايل لا أكثر و لا أقل ، و هم إنما يتجهون إلى الأديان كما هي في نصوصها و كما تبدو عليه.
و لسنا ندري إلى أي مدى قام بنقد الكتب المقدسة الأخرى ، لكن يظهر أنه حاول أن يضرب هذه الكتب بعضها ببعض أولا ، ثم يفصل االقول الإيجابي في نقدها من جانبه هو ثانيا. فهو ينقد اليهودية و آثارها عن طريق المانوية ، إذ يقول أبو حاتم عنه : " و استظهر بدعوى المانية أن موسى عليه السلام كان من رسل الشياطين". و قال : من عني بذلك فليقرأ سفر الأسفار ( 4 ) الذي للمانية ، فإنه يطلع على عجائب من قولهم في اليهودية من لدن إبراهيم إلى زمان عيسى عليه السلام " ( قطعة رقم 10 س 7 – س 10 ) ، كما ينقد المسيحية - فيما يلوح ، و إن لم يظهر في النصوص التي بأيدينا – بما ورد في القرآن من تحريف الإنجيل ، كما أنه ينقد القرآن على أساس ما ورد فيه مخالف لما في المسيحية و اليهودية ، فقال : " إن القرآن يخالف ما عليه اليهود و النصارى من قتل المسيح عليه السلام ، لأن اليهود و النصارى يقولون إن المسيح قتل و صلب ، و القرآن ينطق بأنه لم يقتل و لم يصلب و أن الله رفعه إليه " ( قطعة رقم 12 س 7 – س 9 ). فمن هذا التضارب بين الكتب المقدسة يريد أن يصل إلى هذه النتيجة و هي أنها كاذبة لأن التناقض بين أمثالها يؤذن بكذبها جميعا ما دامت تدعي أنها تعود إلى مصدر إلهي واحد.
و لعل أهم عناية وجهها الرازي إلى الكتب المقدسة كانت تلك المتصلة بالقرآن. فهو يقول : " قد و الله تعجبنا من قولكم إن القرآن هو معجز ، و هو مملوء من التناقض ، و هو أساطير الأولين – و هي خرافات ". و هو هنا يهاجم إعجاز القرآن على نحو مشابه لما فعله ابن الراوندي ، فيهاجمه من ناحية النظم و التأليف ، كما يهاجمه من ناحية المعنى ( 5 ).
أما من ناحية نظم القرآن و تأليفه فإنه يقول : " إنكم تدعون إن المعجزة قائمة موجودة – و هي القرآن – و تقولون : " من أنكر ذلك فليأت بمثله " . ثم قال ( أي الرازي ) : إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء و الفصحاء و الشعراء و ما هو أطلق منه ألفاظا ، و أشد اختصارا في المعاني ، و أبلغ أداء و عبارة و أشكل سجعا ، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به ( قطعة رقم 16 س 3 – س 8 ). و الشبه واضح بين هذا القول و بين قول ابن الراوندي : إننا نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من بعض سور القرآن ، و إن كان الرازي لم يذكر بليغا بعينه. و هذا الطعن في إعجاز القرآن من حيث النظم ينقسم إلى أقسام : من حيث الألفاظ ، و من حيث التراكيب ، و من حيث القدرة على الأداء أي الفصاحة ، و من حيث الموسيقى اللفظية. فيرى أن في كتابات البلغاء ألفاظا أكثر طلاقة ، و لعله يقصد بالطلاقة هنا السهولة و عدم التعقيد اللفظي ، و هو إن لم يشر إلى بلغاء معينين ، فلعله يقصد الألفاظ السهلة التي يستعملها خصوصا كاتب مثل ابن المقفع ، فلعله يعجب بأسلوب علمي كهذا أكثر مما يعجب بالأساليب الإنشائية، نظرا إلى ذوقه العلمي الذي يميل إلى التدقيق و البساطة أكثر ما يميل إلى التفخيم و جلال اللفظ. و ينقد تأليف القرآن ثانيا من ناحية طريقة التركيب ، أي الأسلوب بالمعنى المحدود ، فيأخذ عليه إسهابه و تطويله و تكراره ، و هو هنا أيضا يحكم ذوقه العلمي في الأسلوب ، و لا يعجب بالأساليب المطولة ذوات الفواصل المتكررة المعاني ، لذا لا ينتظر منه أن يعجب بأسلوب كأسلوب الجاحظ . ثم يهاجمه من حيث البلاغة و الفصاحة ، أي القدرة على أداء المعنى المقصود من أيسر طريق. و لقد كان هذا هو المثل الأعلى للبلاغة في ذلك العصر ، خصوصا بتأثير كتاب " الخطابة " لأرسطو و ما قام حوله و تأثر به من دراسات بلاغية كما يظهر من " نقد النثر " لقدامة بن جعفر. و أخيرا يتطرق الرازي إلى الناحية الموسيقية في نظم القرآن فيقول إن في كلام البلغاء ما هو أشكل منه سجعا ، و " أشكل " هنا بمعنى أنضج أي من شأنه أن يكون أكثر موسيقية. و هذا إما بأن تكون الكلمات المسجوعة أقرب في تشابه حروفها الأخيرة ، و لعله لاحظ هنا اعتماد القرآن على الحروف المتقاربة دون المتساوية في بعض الأسجاع ، و إما يكون السجع أقرب إلى العفو و الطبيعة بحيث لا يشعر المرء بأنه مقصود إليه أو معتسف.
أما من حيث المعنى فقد هاجم القرآن من عدة نواح تختلف عن تلك التي هاجمه منها ابن الراوندي. و لا عجب فأبن الراوندي كان يجول في محيط كلامي ديني ، لهذا تركز نقده في هذه النواحي ، أما الرازي فقد كان يجول في جو علمي. و هذه النواحي التي هاجم منها الرازي هي أولا أن القرآن مملوء بأساطير الأولين ، و ثانيا أن فيه تناقضا بين بعض أجزائه و بعض ، و ثالثا أنه لا توجد فيه فائدة. قاتل الرازي : " قد و الله تعجبنا من قولهم في حكاية أساطير الأولين ، مملوء مع ذلك تناقضا ، من غير أن تكون فيه فائدة أو بينة على شيء " ( قطعة رقم 16 س 8 – س 10 ).
و فيما يتصل بالناحية الأولى لا نجد في النصوص التي بين أيدينا ما يفصل القول فيها لكن يمكن افتراض أن نقده هنا إنما سحبه من التوراة على القرآن ، فبعد أن بين أن الأقوال الواردة في التوراة أسطورية ، قال إنها هي التي رددها القرآن ، فهو الآخر مملوء بأساطير الأولين التي هي خرافات ( قطعة رقم 11 س 2 ). و نقده للتوراة يتصل بنبوءات النبي دانيال خصوصا ، كما يذكر أبو حاتم. و كم كان بودنا أن نعرف كيف قام الرازي بهذا النقد التاريخي ، كيما نطلع على هذه الناحية من نواحي نشاطه العقلي.
و لقد بينا من قبل الناحية الثانية من هذا النقد ، و نعني ما أشار الرازي إليه من تناقض في القرآن ، و ذلك خصوصا بمسألة التجسيم و التشبيه و ما يخالف هذا من نعت القرآن لله بأنه " ليس كمثله شيء ( سورة 42 : 9 ) ، ثم الآيات المتصلة بالجبر و الأخرى التي تقول بالاختيار.. و لعل الرازي قد استقى هذه المسائل من كتب الكلام نفسها.
و الناحية الثالثة هي التي يوجه إليها الرازي كامل عنايته ، على الأقل فيما يبدو من النصوص التي لدينا. فهو يريد أولا أن يرد على الخصم حجته ، هذا الخصم يقول : " من أنكر ذلك ( أي إعجاز القرآن ) فليأت بمثله " ، فيقول الرازي : و نحن نقول لكم كذلك إئتونا بمثل ما في كتاب أصول الهندسة و المجسطي و غيرهما. قال الرازي : " إنا نطالبكم بالمثل الذي تزعمون أنا لا نقدر أن نأتي به " ، و هو بهذا التحدي يشير إلى أن الحجة نفسها ترتد على الخصم ، فليس في وسع أحد أن يأتي تماما بما أتى به آخر.
و هو يريد ثانيا أن يبين أن هذه الكتب العلمية و أمثالها أكبر فائدة و نفعا من القرآن و الكتب الدينية عامة ، لأن في الأولى من العلم ما فيه فائدة للناس في معاشهم و أحوال دنياهم ، بينما القرآن ( و كذلك الكتب الدينية الأخرى ) لا تفيد شيئا . فإن كان لا بد من التحدث عن الإعجاز و الحجة ، فالأولى بهما أن يعزيا إلى مثل هذه الكتب النافعة. قال الرازي : " و أيم الله لو وجب أن يكون كتاب حجة ، لكانت أصول الهندسة ، و المجسطي الذي يؤدي إلى معرفة حركات الأفلاك و الكواكب ، و نحو كتب المنطق ، و كتب الطب الذي فيه علوم مصلحة للأبدان – أولى بالحجة مما لا يفيد نفعا و لا ضرا و لا يكشف مستورا ، يعني به القرآن العظيم. و قال أيضا : و من ذا يعجز عن تأويل الخرافات بلا بيان و لا برهان إلا دعاوى أن ذلك حجة؟ و هذا باب إذا دعا إليه الخصم سلمناه و تركناه و ما قد حل به أن سكر الهوى و الغفلة مع ما إنا نأتيه بأفضل منه من الشعر الجيد و الخطب البليغة و الرسائل البديعة ما هو أفصح و أسجع منه. و هذه معاني تفاضل الكلام في ذاته ، فأما تفاضل الكلام على الكتاب فللأمور كثيرة فيها منافع كثيرة ، و ليس في القرآن شيء من ذلك الفضل ، إنما هو في باب الكلام ، و القرآن خلو من هذه التي ذكرناها " ( قطعة رقم 17 س 1 – س 11 ).
فنقد الرازي هنا يتجه إذا إلى بيان ما في الكتب العلمية من نفع لصلاح معاش الناس في دنياهم ، بينما لا يوجد في الكتب الدينية ، فهي أكثر فائدة إذا من الكتب الدينية. و هنا نشاهد في رد أبي حاتم على أبي بكر الرازي صاحبنا تلك الظاهرة التي نجدها في العالم الأوروبي اليهودي و المسيحي ، خصوصا عند فيلون اليهودي و القديس أوغسطين في " مدينة الله " و عند روجر بيكون ، و نعني بهذه الظاهرة نسبة العلوم التي اكتشفت إلى وحي الله على لسان الأنبياء ، و ما العلماء و الفلاسفة إلا آخذون متلقون عن هؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم هذه العلوم.
فبينما الرازي يقول : " إن الفلاسفة استدركوا هذه العلوم بآرائهم و استنبطوها بدقة نظرهم و ألهموا ذلك بلطافة طبعهم – يعني ما في كتب الطب من معرفة طبائع العقاقير و الخصوصيات التي فيها. و ما في المجسطي و بطليموس من معرفة حركات الفلك و الكواكب و حساب النجوم و ما فيه من اللطائف و الأحكام ، و ما في إقليدس من علم الهندسة و المساحات ، و معرفة مقدار عرض الأرض و طولها و مسافة ما بين السموات و غير ذلك مما في هذه الكتب. فزعم الملحد ( أي الرازي ) أن ذلك كله باستنباط و إلهام ، و أنهم استغنوا عن أئمتنا في ذلك ، يعني الأنبياء عليهم السلام. ثم افتخر و قال : إن نفعها و ضرها أكثر من نفع كتب الشرائع و ضرها ، و تحجج بذلك. ثم قال : أخبرونا أين ما دلت عليه أئمتكم من التفرقة بين السموم و الأغذية ، و أفعال العقاقير ؟ أرونا منه ورقة واحدة كما نقل عن بقراط و جالينوس الآلاف لا الآحاد ( أي من الأوراق ) ، و قد نفع الناس و أرونا شيئا من علوم و حركات الفلك و علله نقل عن رجل من أئمتكم أو شيئا من الطبائع اللطيفة الطريفة نحو الهندسة و غير ذلك من أمر اللغات. لم تكن معروفة ، اخترعها أئمتكم؟ ثم قال : إن قلتم إن هذا كله أخذ أصله من أئمتنا ، قلنا هذه دعوى غير صحيحة و لا مسلمة لكم. و إنا لنعرف ما تدعون أنه من أئمتكم ، و هو الضعف الوتح ( اي القليل التافه الخسيس ) الذي شاع ذكره في عوام الناس و خواصهم. ثم قال : فإن قلتم : فمن أين عرف الناس أفعال العقاقير في الأبدان و حركة الفلك ، و بأي لغة تدعى إلى اختراع اللغات ؟ فإن لنا في ذلك أقاويل تستغنى عن أئمتكم ، فمنها ما تكون مستخرجة على رسومها المعروفة المشهورة عند أهلها كالأرصاد للنجوم و معرفة أفعال العقاقير في الأبدان و معرفة علومها و قوامها بالطعوم و الأراييح ، و منها ما أخذت أولا عن أول إلى نهاية الزمان ، و منها أن تكون معرفتها بالطبع كما يحسن الإوز السباحة من غير تعليم من أئمتكم و يدحض الاحتجاج الذي احتججتم به ( 6 ) – بينما يقول الرازي هذا مفسرا كيفية نشأة العلوم نرى أبا حاتم يرد عليه قائلا : " و أما هذه الكتب التي ذكرها و ذكر أنها ( نقلت ) عن أئمتهم ( أي الفلاسفة و العلماء ) فانا نقول : إنها من رسوم الحكماء الصادقين المؤيدين من الله ( ع ج ) ، و ليس اسم أئمتهم فيها إلا عارية. و هذه الأسماء التي نسبت هذه الكتب إليها مثل جالينوس و بقراط و إقليدس و بطليموس و غير ذلك مما يشاكلها فهي أسماء كني بها عن أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب ، و هذه الكتب هي مبنية على الحكمة الصحيحة و الأصول المنتظمة. و قد كنت ناظرت االملحد ( اي الرازي ) علي أشياء هي في كتاب بليناتس ، و قد ذكر لنا أن صاحب هذا الكتاب محدث و أنه كان في هذه الشريعة ( أي الإسلام ) و تسمى بهذا الإسلام و وضع هذا الكتاب – و قد ذكرنا شيئا من كلامه و الأمثال التي ضربها كتابه – فذاكرت الملحد بذلك فقال : هذا هو صحيح و قد عرفناه ، و اسم هذا الرجل فلان ، و كان في أيام المأمون و كان حكيما متفلسفا. و هذا كنا سمعناه من غيره. فهذا الرجل سلك سبيل أولئك الحكماء و القدماء ، و تسمى بهذا الاسم الذي يشاكل تلك الأسماء ، و كلامه من ذلك االنوع ، و لكنه قد جود االقول في التوحيد و رد على أصحاب الإثنين الملحدين ... و هكذا كان سبيل سائر الحكماء الذين تسموا بهذه الأسماء " ( قطعة رقم 20 س 1 – س 17 ).
من هذا الاقتباس الطويل ( 7 ) يتبين لنا أن الرازي يرى أن العلوم إنما استخرجها الفلاسفة و العلماء بعقولهم ، و هي كافية لتحصيلها كما روينا من قبل في وصفه للعقل ، و لا حاجة إلى الأنبياء من أجل هذا التحصيل ، كما أنه لم يرد عن الأنبياء شيء في هذا الباب ، ثم يوضح طرق تحصيل العلم فيردها إلى ثلاثة : التحصيل العقلي وفقا لقواعد البحث و البرهان الممعروفة ، و النقل من السلف إلى الخلف و هكذا إلى غير نهاية بالرواية الصحيحة كما هي في علم التاريخ ، و الفطرة و الغريزة اللتان بهما يدرك الإنسان ما يحتاج إليه في معاشه و بقائه دون معلم و لا إعمال ذهن و لا تلقين من رواة. و لقد كان الرازي موفقا حقا في حصر طرق العلم هذه و إن كان لم يأت فيها بجديد غير ما هو معروف في مقدمات الكتب المنطقية ، فيما عدا الطريق الثاني ، طريق الرواية التاريخية. و على العكس من هذا نرى أبا حاتم الرازي يعنى برد هذه العلوم و المعارف كلها إلى الأنبياء و الأئمة ، و قد كان واجبا عليه أن يقف هذا الموقف لأنه إسماعيلي ، و قد رأينا نظرية الإسماعيلية في التعليم و كيف أنها ترد العلوم كلها إلى الأئمة المعصومين ، فكان طبيعيا أن يناضل عن هذا الرأي. و الطريف حقا هو تفسيره لنسبة هذه العلوم المعروفة إلى أمثال جالينوس و إقليدس و بقراط و بطليموس ، فهو يزعم أن هذه الأسماء ما هي إلا أسماء مستعارة " كنى بها أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب ، و هذه الكتب هي مبنية على الحكمة الصحيحة و الأصول المنتظمة " ، أي على الوحي الذي تلقاه الأنبياء عن الله ، و يضرب لهذا مثلا بما جرى لكتاب بلنياس ( 8 ) من أن مؤلفه رجل محدث كان في عهد المأمون و أنه ألف الكتاب و نسبه إلى اسم بانياس ، مستعيرا هذا الاسم ، و كذلك فإن الأسماء المذكورة على أنها أسماء مؤلفي الكتب العلمية هي أسماء مستعارة ، و الواقع ان الكتب للأنبياء و مأخوذة عما تلقوه من وحي.
و هذا التفسير بعينه هو الذي نجد نظيره عند فيلون ( 9 ) و أوغسطين و روجر بيكون ، و هو الموقف الديني الذي لا بد أن يقفه رجل الدين في دفاعه عن حكمة الأديان ضد حكمة العلماء الدنيويين. و لذا لم يكن غريبا أن نجد تشابها كاملا في الموقفين بين العالم اليهودي و العالم المسيحي و العالم الإسلامي ، و أكد هذه الظاهرة في الإسلام مذهب الإسماعيلية بما تقتضيه نظرياته في الإمام المعصوم و التعليم. و هذا هو الأصل فيما نجده في كتب تواريخ العلماء و الحكماء في الإسلام من نسبة بعض العلوم إلى الأنبياء مثل إدريس الذي يقال إنه هرمس ( 10 ) . و لعلنا نعود إلى تفصيل هذه الظاهرة الإسلام و نتابع تطورها في فرصة أخرى ، مكتفين هنا بتسجيلها فحسب.
و الرازي يثير أيضا على هامش تلك المسألة العامة في نقد القرآن و الكتب المقدسة مسألة اللغات و كيف نشأت و قد رأيناها مفصلة بعض التفصيل في مقال كروس عن ابن الراوندي ( ص 122 – ص 126 ) و عرفنا قول الرازي و ما يثيره من مسائل ، فلا داعي إلى العود.
و من هذا كله يتبين لنا أن الرازي في نقده للقرآن من حيث المعنى قد عني خصوصا ببيان ما فيه من فوائد تتصل بأحوال الناس في حاجاتهم و معاشهم و عارضها بما في كتب العلماء و الحكماء من فوائد أجزل و أكبر في: نه يقف نفس الموقف الذي نشاهده لدى الملحدين من العلماء في العصر الحديث و بخاصة في القرن الثامن عشر و النصف الأول من القرن التاسع عشر ، و في وسع المرء أن يعقد مقارنات طريفة بين هذا الموقف و موقف مفكر حر آخر مثل فولتير : فكلاهما مؤمن بالعقل و مؤمن بالألوهية ، و كلاهما كافر بالأنبياء و الأديان خاصة على اختلافها ، و كلاهما كان متشائما يرى الشر في الوجود أكثر من الخير : أما فولتير فقد عبر عن رأيه هذا مرارا خصوصا في قصيدته التي نظمها عن " زلزال لشبونة " أما الرازي فرأيه هذا مثبوت في كتبه خصوصا في مواضع متفرقة من " الطب الروحاني " و مقالته في اللذة بعنوان " كتاب اللذة" ، و كذلك في كتاب " العلم الإلهي " إذ يذكر موسى بن ميمون في " دلالة الحائرين " ( جـ 3 ف 12 ، جـ 3 ص 18 من طبعة منك ، باريس سنة 1836 . انظر : رسائل فلسفية لأبي بكر الرازي ، نشرة كروس ، ص 179 – ص 180 ) أن " للرازي كتابا مشهورا وسمه بالإلهيات ضمنه من هذياناته و جهالاته عظائم ، و من جملتها غرض ارتكبه : و هو أن الشر في الوجود أكثر من الخير ، و أنك إذا قايست بين راحة الإنسان و لذاته في مدة راحته ، مع ما يصيبه من الآلام و الأوجاع الصعبة و العاهات و الزمانات و الأنكاد و الأحزان و النكبات – فتجد أن وجوده – يعني الإنسان – نقمة و شر عظيم طلب به. و أخذ أن يصحح هذا الرأي باستقراء هذا البلايا ليقوم كل ما يزعم أهل الحق من إفضال الإله وجوده البين و كونه تعالى الخير المحض ، و كلا ما يصوره محض بلا شك". و هو قول يشبه تماما قول بيرن : " عد ساعات سرورك ، و عد أيامك الخوالي من البلبال فأيا ما كنت ، اعترف بأن ثمت ما هو أحسن منه هو أن لا توجد " ( 11 ).
و قد بسط الرازي آراءه في شقاء الدنيا من هذه الناحية في فلسفته في اللذة و الألم التي عرضها في كثير من مقالاته و كتبه. بيد أننا لا نستطيع الجزم بموقف الرازي من العناية الإلهية ، و ذلك لأننا نراه يؤمن بوجود خالق حكيم ، إذ له كتاب بهذا العنوان " كتاب أن للإنسان خالقا حكيما " ( " الفهرست " لابن النديم ص 416 س 18 من الطبعة المصرية سنة 1929 ) ، ثم نراه يقول هذا صراحة في مناظرته مع أبي حاتم ( 12 ) و يشير إليه في مواضع متفرقة ، مما يدل على أنه كان فعلا يؤمن بوجود خالق حكيم ، و لكننا لا نستطيع أن نؤكد : أكان الرازي يدخل العناية ضمن حكمة الله أم كان يخرجها منها بحسبان الحكمة لا تقتضي بالضرورة العناية ، أو على الأقل العناية الجزئية الخاصة ببني الإنسان ؟ و لو كان لنا أن نرجح لقلنا إن مجرى تفكيره العام يفضي به إلى إنكار العناية الإلهية.
هوامش المؤلف :
1 – سورة 20 : 4 .
2 – سورة 96 : 17 .
3 – سورة 40 : 7 .
4 – هكذا في الأصل و الصواب : سفر الأسرار ، و هو كتاب ماني الرئيسي و في الفهرست لابن النديم بيان أبوابه ( الفهرست ، ص 470 س 9 و ما يليه ، طبعغ مصر سنة 1929 ).
5 – انظر فيما قبل.
6 – قطعة رقم 19 س 4 – س 27 .
7 – أطلنا في الاقتباس لأن النص المنشور في مجلة أورينتاليا من الصعب الحصول عليه.
8 – راجع فيما يتصل بهذذه الفقرة ما قاله كروس في : جابر بن حيان ، ج 2 ص 274 – 275 ، القاهرة سنة 1942
P Kraus : Jabir ibn Hayyan انظر المقال السالف عن جابر.
9 – راجع كتابنا : خريف الفكر اليوناني ، ص 127 ، القاهرة سنة 1943 .
10 – انظر ابن القفطي : إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، ص 2 و ما يليها ، طبع مصر سنة 1326 هـ = سنة 1908 .
11 – راجع كتابنا : شوبنهور ، ص 208 ، الطبعة الثانية ، القاهرة ، سنة 19456 .
12 – رسائل فلسفية للرازي ، ص 295 س 14 – س 15 .
4 – خاتمة
و بالجملة كان الرازي ممن ينكرون النبوات للأسباب التي فصلناها في أول هذا البحث ، و يرى أن العقل الإنساني كفيل وحده بهداية الإنسان إلى السبيل القويم في حجياته ، و ما دام كذلك فإن مبدأ الاقتصاد في الفكر و التقدير يدعو إلى إنكار النبوة ، لذا يقول : " أخبرونا هل يكون مصيبا من وجد إلى أمر طريقين فسلك الأطول منهما و الأوعر ؟ و هل يكون مريدا للأفضل و الأصلح من يجد إلى تعريف شيء من وجهين سبيلا ، فيعرفه من أعسرهما و أبعدهما و أكثرهما ريبا و شكوكا و جلبا لسوء العواقب ، و يدع ما خالف هذه الوجوه ؟ فإن قلتم : لا ، قلنا : فهلا ألهم الله عباده معرفة منافعهم و مضارهم في عاجلهم و آجلهم . أما في عاجلهم فلتصديق كل أمة إمامها و ضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف و اجتهادهم في ذلك". ( قطعة 14 س 1 – س 9 ) . فكأن الخير و الحكمة كانا يقتضيان عدم إرسال الأنبياء حتى لا تقع الفرقة بين الناس ، و لعله هنا يريد أن يعارض الآية : " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " ( سورة 5 : 53 ) ، إذ " لو لا ما انعقد بين الناس من أسباب الديانات لسقطت المجاذبات و المحاربات و البلايا ، لأن المنازعات تقع إما لعاجل أو لآجل. و أورد كلاما طويلا في هذا الباب ، و لكن هذه جملته ( قطعة رقم 14 س 9 – س 11 ) ، و كنا نود أن نرى هذا الكلام بالتفصيل ، لنرى إلى أي حد حاول أن يرد على من يؤيدون النبوات أسبابا اجتماعية إصلاحية ذاكرين ما يعود على الناس من فوائد في جماعتهم إن اعتنقوا الأديان و تمسكوا بأوامرها و نواهيها. و هو بهذا لم يدع وجها من أوجه الدفاع عن النبوة إلا هاجمه أو أخضعه لنقد صارم ، خصوصا هذه الناحية المصلحية البرجمتية التي تضاف إلى النبوة حتى مع افنتراض عدم صحتها من الناحية النظرية ، و كأن هذه الفوائد العملية التي تترتب عليها تغني عن البحث في صحتها من الناحية النظرية. و يلوح أنه تناول طويلا هذه الناحية إذ نراه بعد هذا يرد على معترض ينسب هذا التنازع و تلك المحاربات إلى الناس و المعتنقين للديانات ، لا إلى نفسها ، فيقول : " إن قلتم إن المجاذبات و المحاربات من أجل إيثارهم أعراض الدنيا ، قلنا لكم : هل رأيتم أحدا آثر القليل على الكثير إلا لشك منه في نيل الكثير ؟ فإن قلتم : نعم ، كابرتم ، و إن قلتم لا ، فكذلك إيثار المؤثر لأغراض الدنيا و شهواتها على الأمور الجليلة و الثواب العظيم القدر الذي يعجز الواصفون عنه – ليس ذلك إلا لشك منه في نيل ذلك الكثير العظيم الدائم الذي يعجز الواصفون عنه ( لاحظ ما هنا من تهكم ) ، كما نرى الرجل يؤثر المائة الدينار على الألف إذا خاف فوت المائة و الألف ، و إذا كان مستيقنا أنه يصل إلى الألف مع ترك المائة فإه لا يرى أخذ المائة . قال : و كذلك لو أن الناس أخلصوا اليقين بقول أئمتكم فيما و عدوهم من الثواب الجزيل لما آثروا القليل من عاجلهم على الكثير من آجلهم ( القطعة نفسها ، س 12 – س 21 ). و على فإن الرازي يرى أنه حتى من الناحية العلمية -- البرجمتية – لا فائدة في النبوات و الأديان ، فإن أضفت هذا إلى بطلان النبوة من الناحية النظرية ، ثبت – في رأيه – فساد النبوة إطلاقا.
الرازي إذا يؤمن بإله خالق حكيم ، و لكنه لا يؤمن بالنبوة و الأديان ، و ينزع نزعة فكرية حرة من كل آثار للتقليد أو العدوى ، و يؤكد حقوق العقل و سلطانه الذي لا يحده شيء و ينحو منحى تنويريا شبيها كل الشبه بحركة التنوير عند السوفسطائيين اليونانيين ، و خصوصا بحركة التنوير ( 1 ) في العصر الحديث في القرن الثامن عشر ، و يدعو إلى إيجاد نزعة إنسانية خالصة خالطتها روح وثنية حرة ، مما يجعل من الرازي شخصية فكرية من الطراز الأول ، و واحدا من أحرار العقول النادرين في التاريخ ، و من أجرأ المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية طوال تاريخها ، و لا يسع المرء إلا أن يمتلئ إعجابا بهذا الجو الطليق الذي هيأه الإسلام للفكر في ذلك العصر ، مما يدل على ما كان عليه العقل الإسلامي في ذلك العصر من خصب و نضوج.
أترى يتحقق مثل هذا الجو مرة أخرى في حضارتنا العربية التي نأمل في إيجادها؟
هوامش المؤلف :
1 - راجع وصفها و خصائصها في كتابنا : نيتشة ص 111 و ما يليها ، الطبعة الثانية ، القاهرة سنة 1945 .
الرازي إذا يؤمن بإله خالق حكيم ، و لكنه لا يؤمن بالنبوة و الأديان ، و ينزع نزعة فكرية حرة من كل آثار للتقليد أو العدوى ، و يؤكد حقوق العقل و سلطانه الذي لا يحده شيء و ينحو منحى تنويريا شبيها كل الشبه بحركة التنوير عند السوفسطائيين اليونانيين ، و خصوصا بحركة التنوير ( 1 ) في العصر الحديث في القرن الثامن عشر ، و يدعو إلى إيجاد نزعة إنسانية خالصة خالطتها روح وثنية حرة ، مما يجعل من الرازي شخصية فكرية من الطراز الأول ، و واحدا من أحرار العقول النادرين في التاريخ ، و من أجرأ المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية طوال تاريخها ، و لا يسع المرء إلا أن يمتلئ إعجابا بهذا الجو الطليق الذي هيأه الإسلام للفكر في ذلك العصر ، مما يدل على ما كان عليه العقل الإسلامي في ذلك العصر من خصب و نضوج.
أترى يتحقق مثل هذا الجو مرة أخرى في حضارتنا العربية التي نأمل في إيجادها؟
هوامش المؤلف :
1 - راجع وصفها و خصائصها في كتابنا : نيتشة ص 111 و ما يليها ، الطبعة الثانية ، القاهرة سنة 1945 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق