بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 4 مارس 2015

أعنيات القلب الأخضر

ذاكرة تأبى النسيان
.....
من دفاترى القديمة جداً
________________
فى بداية الثمانيات من القرن الماضى ..كانت لى محاولات فى كتابة القصة القصيرة ..
كتبت قصصاً كثيرة وأخترت منها ما رضيت عنه وجعلتها فى مجموعة قصصية باسم "أغنيات القلب الأخضر " واحتفظت بها ولم أنشرها
لكن وأنا ،بعد أيام قلائل ،أبدأ الواحد والستين من عمرى ،سأنشر منها ما أراه صالحاً للنشر .

__________________



ضباب


(1)
أنا حزين ووحيد ..خرجت فى الصباح ..الصباح حزين لأنى حزين .
فى كل صباح تتشاجر أمى مع أبى ..يستيقظ إخوتى على الشتائم ..أحمل كتبى فى يدى ..الكتب أصبحت قديمة ،عرق يدى هو السبب ..المدرس يكرهنى ويضربنى ..كل صباح أذهب إلى المدرسة ..المدرسة بعيدة عن قريتنا ..أجرى أحياناً كى أصل مبكراً ..لا أملك ثمن تذكرة الأتوبيس ..أبى فقير وأمى تشتمه كل صباح ..أمشى وحدى ..أنا حزين .
(2)
البحر ماؤه رمادية ..أنا أحب البحر ..أجلس على شطه وحدى ...أنظر إليه طويلاً ..أتكلم معه كثيراً ..لايمل سماع كلماتى ...أشكو له وهو يستمع .
أبى قال لى اليوم أنه حزين لأنه لايملك ثمن الكتب والملابس لى لإخوتى ..أنا حزين من أجل أبى ..لو كنت كبيراً أعطيته كل شىء.
قمت ..مشيت متى تُشفى أختى ؟؟
أختى الصغيرة مريضة ..مريضة منذ سنوات طويلة ..أبى أحياناً يأتيها بالدواء
..أمى تأخذها إلى المستشفى فى المدينة ..حالة أختى تزداد سوءاً ..أمى تضحك وتقول لها بلاش دلع إنتى حلوة وبقيتى عروسة ..تضحك أختى وتصمت.
(3)
الصمت ..الحزن ..الهم ..العيون زائغة ..الأفواه مكممة ..أختى راقدة على الأرض تصرخ من الألم تتلوى ..أبى صامت ..أمى صامتة ..إخوتى يبكون ..أنا حزين ووحيد.
30مارس 1980م



________________________

الله ..والفقر 


(أ)
الفقر كافر ..هكذا قالها ثم مضى إلى الشارع ..الأنوار خافتة ..الكلاب تنبح..البرد القارص يتسلل فى عظامه ..ينكمش على نفسه ..ثيابه قليلة خفيفة لاتحميه من البرد.
(ب)
الفقر كافر ..لاطعام ..كسرة خبز مع قطعة من الجبن القريش ..الحجرة عارية إلا من سرير بالغ القدم .
فى الركن عنكبوت ينصب شباكه لإصطياد ذبابة ..الذبابة تسقط فى الشرك ..العنكبوت يقترب فى حرص من فريسته ..يبدأ فى قضمها تتوقف حركتها ..تهمد.
(ج)
المكتب من خشب قديم ..لايعلم عمره إلا الله..الحجرة معتمة ..الموظفون الزملاء متبلدون كسلى ..الدوسيهات مرصوصة فى غير انتظام ..فأر يطل برأسه من خلف زجاج الشباك المكسور منذ سنين ولم يلتفت أحد لإصلاحه.
(د)
المرتب .......ضاع
(ه)
"أختك راحت المدرسة ..عايزين المصاريف ..أحوك سعيد خطب سلوى بنت عمته..الشبكة بعد أسبوعين والفرح بعد سنة ..أمك بتسلم عليك ..فى انتظار ردك .أختك صفاء" قذف بالخطاب جانباً ..قام فتح الباب ..خرج ..قابلته ابنة الحاج طلبت منه الإيجار ..أومأ لها برأسه.
(و)
المرارة تقتل ماتبقى فى فمه من مذاق..الصدر يضيق ..الحياة تزداد كآبة ..الأرض لاتدرى شيئاً..السماء تصم أُذنها عن الأنين والآنات.
(ز)
اجتماع غير عاد..كل الموظفين والسعاة ..السيد المدير يفتح فاه...لم يتم القبض على الموظف الذى سرق المرتبات وهرب ..النيابة تحقق ..المباحث تجرى البحث والتحرى ..لاجديد.
مايو1982م

___________________

إبتسامة


ضفيرة طويلة تنام على صدر ناهد ،خصلة ذهبية يداعبها الهواء ،تأبى السكون والراحة،يد رشيقة ترتفع لأعلى تحاول إيقاف عناد خصلة الشعر المتناثرة على جبهة متألقة كنور الشمس وقت الضحى .
بسمة عريضة تملأ الوجه ،تروى العطشان وتزيل الهم من صدر المتعب.
آه..ذات مساء طرى تفوح منه الخضرة وأحلام الصبا ورغبات الشباب ونور القمر يسربل الكون بضوئه الفضى ،يدغدغ المشاعر والحواس للمرهقين المتعبين .
الوسعاية تسع الجميع ..همس أحد الصحاب الحالمين :
إبتسامة ترد الروح وتحل من على المشنقة .
أكتوبر 1981م

_____________________

ليلة من ليالى قطر الندى

ليلة من الليالى الخالدات ،حلم من أحلام شهر زاد وأقاقصيص العشق والخلود ..العيون تضج بالرغبات المستكنة بالأعماق والصدور مشحونة بالأفراح والليالى الملاح ..المال يتدفق من بحر طامٍ ..القرية تسبح فى أنهار الأضواء والألوان والزينات .
من كل صوب وحدب ،القادمون يباركون يشاركون السعادة الغامرة واللحظات البهيجة الطاغية على الأفئدة المذبوحة بالأنين والآنات ؛ الأجراء الفقراء المطحنون.
الكوشة تضم العروسين ..أم العريس ست الكل تنثر الأموال على رؤوس الجالسين بيديها الشريفتين الطاهرتين ،توزع الهدايا على الفقراء ممزقى الثياب حفاة الأقدام زراعى الأطيان وحاصدى الخيرات الوفيرة .
تبتسم إبتسانة عذبة وضيئة ..يلهث ماسحو الخوج بذكر محامدها والثناء عليها .
أيام وليالى مليئة بالأفراح والاحتفالات الخرافية ..تعيد ليالى قطر الندى التاريخية عبر القرون المزدانة بالإنتصارات الجليلة والمتوجة بهالات النور والبهاء!!!!
أكتوبر 1981م
____________________


هزيمة

شوف يا ابنى ..أنا باحترمك وأحترم الإنسان إللى جواك وإنت عملة نادرة ..لكن
(دارات الأرض ..هبطت النجوم من عليائها ..تبدل الليل بالنهار ..سرت الرعدة فى مفاصلى ..إعترانى شلل مفاجىء ..لم أستطع الحركة ..عصف الرياح خارج الحجرة يشتد يعوى )
أنا عارف كويس إن بنتى بتحبك وهى بتقول لى على كل شىء ..وإنت شاب محترم ومثقف ..لكن
(مرة أخرى تُظلم الدنيا ..إنطفأ نور القلب ..سُلبت السعادة من سويداء الفؤاد ...شحوب يهز الوجدان ..أما هذه ال لكن عقبة كأداء ..تمزق أوتار سنين الحلم والرغبات ..تقتل تخنق تبعثر كل الأشياء ..تتطاير ..تتلاشى ..تتلاشى ...تتلاشى )
إنت أنسان مثقف وده رأيى فيك ،مش من النهارده .. دا من زمن بعيد ..من يوم ماكنت لسه طالب فى المدرسة الإبتدائية وتيجى تقعد مع هالة وتلعب معاها .
كنت حاسس إنك لك مستقبل ومستقبل عريض وعمرى ما كنت أصدق إن العلاقة البسيطة دى تكبر جواك .
(دخان السيجار يخرج من الأنف والفم .. حلقات حلقات تملأمساحات الفراغ المميت ..ظلال سرعان ماتفنى )
يهمنى إنك تعرف حاجات كتيرة تناسب العصر إللى إحنا فيه ..طلبات العصر ده كل يوم بتزيد وطبعاً إنت شاب وتعرف....
(قطر الندى ..حنة ياحنة ياقطر الندى ياشباك حبيبى جلاب الهوى ...أموال ظائلة أودت إلى الإفلاس ..أيام الجوعى ..المقريزى ..أشهر المجاعات فى مصر ..قصور قصور فى الطريق إلى بغداد )
للمرة الأخيرة ..أقول لك ياابنى ..إنت فقير والفقر عمره مايفتح بيت ..والحب موضة قديمة ..أنا عامل حسابى إنك تكون فهمت وأنت شاب مثقف وعايش فى زمن مُر وحاسس أكتر من الآخرين ..الحياة صعبة وأنا لايمكن أحط بنتى فى النار بإيديا .
(لو كان الفقر رجلاً لقتلته .. إذا دخل الفقر من الباب هرب الحب من الشباك )
آه...
ديسمبر 1981م


____________

شتائية حزينة

كثيراً ما كنت أزور قبر أختى التى رحلت فى ميعة الصبا وشرخ الشباب الغض ،وأمام قبرها يمر شريط طويل من الذكريات الدفينة ،عن حياتها ،أحلامها ..ثم لم يتركها المرض اللعين ،فخرجت صباحاً لأعود ظهراً لأورايها الثرى وكأنى أودع قطعة من نفسى .
ومرةً من المرات وفى وسط مقابر القرية ،سمعت صوت إمرأة يُنبىء عن نضوج أنثوى ،صوت رخيم مشحون بالحزن :
"ليه ياضنايا رحت وسبتنى لوحدى ..ليه وكنت حتة منى ..حتة من قلبى ..من وجودى .
آه ياكبدى ..ياعود أخضر ونشف قبل أوانه ..كنت باحسب إن العمر حيطول بك وتعيش وتمرح قدام عينيا ..وتبقى راجل وتشيل هم البيت عن أبوك إللى تعب ومعدتش قادر يشتغل ..
ليه ياضنايا تروح من بين إيديا وأنا واقفة مش عرافة حاجة .
كنت وأنت صغير ..أسهر معاك وأنت تنام وأنا صاحية عشانك إنتا..إنت دنيتى كلها ..
من يوم ماولدتك وأنا ندرت حياتى لك..كل نظرة لك ..وكل الحنان لك..وكل الاهتمام لك ..
صحيح أبوك زعل شوية وإخواتك زعلوا قوى ..لكن معرفش ليه ؟
كنت انت حبيبى وأنا قدامك باحس إنك أبويا وأخويا وكل أهلى ودنيتى .
كل الناس قالوا بعد موتك ..لأ إنت ماموتش ..إنت صاحى ..إنت حى وبتكبر قدام عينيا كل يوم ..ومابعدتش عنى ..كل يوم باشوفك بتجرى قدامى وتطلع الشارع نلعب مع ولاد الجيران وأنا قاعدة على الباب منتظراك حتى لوش الفجر ..وساعات تيجى تعيط وقلبى يتقطع وأقو لك ماتزعلش إنت بقيت كبير وأبص فى عينيك تقوم تضحك وترمى نفسك فى حضنى .
ليه ياضنايا ..ليه تروح بعيد وتسيبنى ..قتلوك الكلاب وده كان أملهم من زمان .
آه ياضنايا ..لو كنت أعرف ساعتها كنت فديتك بروحى وحياتى .
كل يوم أشوفك قدامى وافتكر كلامك ..والأحلام الكتيرة إللى كنت عايش فيها وعايز تحققها .
ضعت ..ورحت بعيد ..وضاعت معاك أحلامك وبقيت رماد..لكن أبداً إنت عايش جوايا ..وأحلامك إللى كنت باسمعها منك ح تتحقق ويبقى لنا بيت كبير زى ولاد الشراقوة ..لأ قصر ولاقصر العمدة وجنينة ومكتبة كبيرة عشان كتبك ..
على فكرة ..أنا كل يوم باطمن عليها ومفيش حد بيقرب لها .كنت بتقول لى:الكتب دى روحى ودمى ..وروحك عايشة ويانا ..
أخوك محسن بيقول عليك إنك عبقرى ..معرفش إيه الكلمة دى ..لكن بافرح لما أسمعها .
لكن.. إنت فين ياضنايا ..جعان ولاعطشان..ليه ياضنايا تروح وتسيبنى كده ..معلشى قدر ومكتوب ..ولازم تكون إنت ..أقول إيه لربنا ..هو عايز كده ..خدك من وسط إخواتك وكنت نوارتهم ..أنا بأحب إخواتك ..دول حتة من وكل واحد له عندى معزة ..ومادمت مشيت بعيد عنى يعنى أنساك ؟؟
لأ أبداً معزتك كل يوم بتزيد فى قلبى وأنا باشوفك بتكبر قدام عينيا .
أسيبك بقى ياضنايا لوحدك تنام فى تربتك وكنت بتنام فى عينيا ولابتستريح إللى على رجليا ..أروح لإخواتك زمانهم قاعدين منتظرينى وأسيبك لحد بكرة وأرجع لك تانى عشان أحكى لك على إللى حصل من أبوك اليومين إللى فاتوا ..أصله زعلنى قوى .
أسيبك ياضنايا وعزيز عليا أسيبك تنام بعيد عنى عن أمك حبيبتك ""

واختفى الصوت وأفقت من صمتى والحديث الذى آتانى عرضاً ،وتذكرت أمى وماحدث لها يوم رحلت أختى لمثواها الأخير ولا زالت حتى ،الآن ،تتذكرها ثم تشرد وتبكى فى صمت.
يوليو 1981م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق