بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 18 فبراير 2016

تجليات الفقد والغياب


مقدور ،ياصديقي الأعز، موتك أن تتهدل أعضاؤك المتعبات فى ليل خريف حزين.
مقدور أن تصحو ذات ليلة شتائية كئيبة فترى بركان الموت الخامد قد صحا من رقدته الطويلة.
مقدور أن يقهرنى الحزن، بين يديك. و روحك تسبح فى الملكوت وعيناك معلقتان بالنور والظلام.
مقدور أن تبقى مسجونا بين الموت والموت .
وأراك صديقى الأعز مسجى بين لفائف القماش ويدعونه كفنا.
مقدور أن أحترف الحزن والانتظار وأن أدلف بوابة الدمع باقتدار.
مقدور، وبعد مئات المئات من الساعات،من غيابك الأبدى، أن تشدو روحى الظمأى بمواريث الفكر والتأملات.
مقدور ألا أنساك،مهما تعاقب الليل والنهار، وترتوى الذاكرة بماء الذكرى العذب.
مقدور أن تصحبنى فى يوم صممت فيه ألا تتركنى وحيدا ،وأنت تشهد الاحتضار.
مقدور أن أزهد فى فى ذكرى هذا اليوم المتجدد كل عام وتأبى نفسى ،بدونك ،الذهاب.
صديقى الأعز. .الدكتور على إبراهيم. .طبت حيا وميتا.
......
مقدور ،ياصديقي الأعز، موتك أن تتهدل أعضاؤك المتعبات فى ليل خريف حزين.
مقدور أن تصحو ذات ليلة شتائية كئيبة فترى بركان الموت الخامد قد صحا من رقدته الطويلة.
مقدور أن يقهرنى الحزن، بين يديك. و روحك تسبح فى الملكوت وعيناك معلقتان بالنور والظلام.
مقدور أن تبقى مسجونا بين الموت والموت .
وأراك صديقى الأعز مسجى بين لفائف القماش ويدعونه كفنا.
مقدور أن أحترف الحزن والانتظار وأن أدلف بوابة الدمع باقتدار.
مقدور، وبعد مئات المئات من الساعات،من غيابك الأبدى، أن تشدو روحى الظمأى بمواريث الفكر والتأملات.
مقدور ألا أنساك،مهما تعاقب الليل والنهار، وترتوى الذاكرة بماء الذكرى العذب.
مقدور أن تصحبنى فى يوم صممت فيه ألا تتركنى وحيدا ،وأنت تشهد الاحتضار.
مقدور أن أزهد فى فى ذكرى هذا اليوم المتجدد كل عام وتأبى نفسى ،بدونك ،الذهاب.
صديقى الأعز. .الدكتور على إبراهيم. .طبت حيا وميتا.

حلم نويهى



ونا العابد تراب أرضك 

ونفسى يامصر أراضيكى


واشيل الهم من قلبك 

وعادى كل من يعاديكى

حياتى إنتى وضيا عينى

وروحى تهون وتفديكى

وهم

ويبقى المنفى
أملا مستحيل الحضور 
وهاجس الغياب
ميلاد مضى
من ألوف الساعات 
وتبقين ضحكة
مرسومة على الشفاه
وشرايين الوجع
ذاكرة للذئاب .

فى انتظارى العبثى

أيا أنت..
بكاء الروح
اعتلال الجسد 
السحب السوداء تغشى المدى 
الخريف الدامي المنهمر أوراقه تملأ مساحات الوجيعة و تزخر بالسقم.


أيا أنت..
متاهات ضاعت بين توارى الفصول واجترار الحيرة .
ماعادت النوارس تصدح بالغناء 
اشتعال ذاكرة الأفعى والجراد بما كان 
و...ومالم يكن.


أيا أنت. .
نزف وعزف وانكسار واحتراق.


أيا أنت. ..
ليل كثيف ودياجى ورمال.


أيا أنت. ..
بحر لجى
ظلمات فوق ظلمات .

تخاريف شيخ عجوز



1
أيها السارى فى قلب الليل
تمد يديك 
تستجدي النجيمات أن يسطعن
فى ليلك الطويل.
2
أيها المحموم
بذكرى إقتران الروحين
ما عادت حقولك خصبة
وما عادت تنبت الزهور والأقاحى .

3
أيها المخمور
سر فى النور
وشاهد ظلك يترنح
تحت عباءة الظلمات.
4
أيها الساعى
نحو الجنون
تمهل
فماعاد لديك سوى وثبة واحدة
وتستريح .
5
أيها الوجه الهارب منى
تحت لفائف الانكسار
جئت إليك معتذرا
عن قتامة الأضواء
عن خرافة النبوءات
وعن إغتيال البشارات
واختناق الصباح.
6
أيها الموغل
فى الصمت
وموسيقى الرعب
طنين وأنين
وبقايا نار ورماد .

الرحيل إلى سنوات الجمر والثورة ..ذكريات جامعية ،كلية الحقوق جامعة القاهرة



سنة 1973م
(1)
فى المدرج تنتابني الدهشة والعجب، طلاب وطالبات من أقاليم مصر المحروسة يتبادلون الأحاديث فى انتظار الدكتور نعمان جمعة مدرس القانون المدنى، هذا العائد من فرنسا جامعة السربون بعد حصوله على دكتوراه الدولة فى القانون، تعلو الضحكات بصورة مفزعة وتبادل الطالبات مع الطلاب السجائر الأجنبية، أكاد من دهشتى وعجبى أن يهدر صوتى غاضبًا :
كفى تهريجًا ولابد من الصمت فالدكتور نعمان يقف على المنصة منتظرًَا الصمت.
بجوارى يجلس فؤاد عجوة. .ينظر إلى بعينين حائرتين وكأنه يهمس لى: مالك غاضبًا!!
ورويدًا رويدًا تخفت الأصوات العالية ويعتدل الطلاب في جلستهم وينتبه الجميع، ويخرج صوت الدكتور نعمان متحدثًا عن نظرية الحق.
كنا معا لانفترق إلا قليلًا. .تدور بيننا الأحاديث الطويلة عن السياسة والدين والأدب والفكر والثقافة .
كنا فى السنة الأولى بكلية الحقوق جامعة القاهرة سنة 1973م وقلوبنا تمتلأ بالأحلام المستحيلة والتى نسعى حثيثًا لتحقيقها ووهج العقل يسيطر علينا والبحث عن المسير والمصير وما ينبغى أن يكون.
تنتهى المحاضرة ويخرج الدكتور نعمان. .ونخرج فى إثره لنشرب الشاى بكافتريا الكلية.
وأبدى إعجابى بالدكتور نعمان وقدرته على توضيح نظرية الحق بسهولة ويسر وضرب الأمثلة لتوصيل المعلومات.
ويبتسم فؤاد عجوة ويقول:
الدكتور مأمون سلامة أحسن منه ،وهو يشرح الإجرام.

(2)
يقول لى فؤاد :
هل ستحضر محاضرة الشريعة الإسلامية. ؟
قلت على الفور :
طبعا. .الدكتور أنور رجل محترم ورغم إن محاضرته معظمها قرأناها قبل كده إلا إننى بأحب أسمعه.
كنا أعضاء فى نادى الفكر الناصرى والذى يرأسه آنذاك الدكتور رفعت المحجوب. .وفؤاد من العاشقين لجمال عبد الناصر ويدافع عنه بقوة واقتدار. .
وفجأة يسألني فؤاد:
أراك متحفظا فى الدفاع عن عبد الناصر؟
قلت :
أبدا ..عبدالناصر مات من 3 سنوات وتقييم عصره لم يحن بعد. .كفاية علينا حرب 73 والسادات متورط فى موضوع ثغرة الدفرسوار والحرب شغالة بينه وبين رئيس الأركان الشاذلى. .وبصراحة صورة جولدا مائير فى السويس جعلتني قرفان من كل حاجة. .
كفاية محاصرة الجيش الثالث من الصهاينة. .حزن شديد بيأكلنى أكل. .
وتمتلأ عينا فؤاد بالدموع ويصرخ :
حرام عليك نكدت عليا. .أنا ماشى ولامحاضرة ولايحزنون. .والنادي الناصرى ينتظر لبكرة.
(3)

يقابلنى فؤاد فى اليوم التالى وبوجه جاد وكلمات حاسمة ويقول:
بخصوص موضوع ثغرة الدفرسوار. .
أظن أن الحرب بينا وبين الصهاينة حرب وجود لا حرب حدود ،وإذا كان هناك مشكلة بينا وبينهم فالحياة لم تنته وعمرنا ما نفرط فى أرضنا. .
أنا قرأت من مدة مقالة بصراحة لمحمد حسنين هيكل وكلامه عن الحرب وموضوع الثغرة ..ولم يعجبني كلامه. .كلام محبط جدا. .
وكفاية إن جيشنا عبر القناة وهدم خرافة الجيش الذى لايقهر وتحطيم خط بارليف أقوى مانع مائى كما يزعمون.
يانويهى. . خطة الحرب رسمها عبدالناصر وتدريب القادة العسكريين والقوات المسلحة كانت على قدم وساق. .
يبدو إنك نسيت حرب الإستنزاف 3 سنين بحالهم. .
الجيش أصبح قوة ضاربة وكفاية عبورنا للشط التانى للقناة. .
زى ماقلتلك دى حرب وجود. .ومهما حصل من الصهاينة ،أمريكا وراهم بتمدهم بكل الأسلحة ولكن ربنا معانا وبكرة يخرجوا وهم مكسورين. .وخوفك مالوش مبرر ،كفاية بطولات الجيش. .عبدالعاطى صياد الدبابات وأسر عساف ياجورى وضباطه وعساكره. ...
وأعترانى صمت قاتل .وقالت لى نفسى:
فؤاد له كل الحق. .ونظرته صحيحة في رؤية الواقع.

(4)
4
ذات يوم..ذهبت إلى المدينة الجامعية باحثا عن فؤاد فلم أره منذ عدة أيام خشيت أن يكون قد مسه مكروه واشتد بى القلق وعلى بوابة المدينة الجامعية يفترش الأرض بائع كتب قديمة، فأنسى ما أقلقنى وأقف قارئًا للعناوين .
وأمد يدى وأنتقى عددا كبيرا وأحمله وبعد وقت أتذكر فؤاد عجوة فأهرع مسرعًا بحملى الثقيل كى أطمئن عليه، وأثناء سيرى. .ألمحه قادما فتهدأ روحى قليلا وأتوقف حتى صار أمامى وتتملكه الدهشة ويسألنى :
رايح فين؟فأتأمله باسما:الحمد لله إنت بخير. .كنت قلقان عليك وجيت أشوفك.
فيمد يده ويحمل بعض الكتب، ثم يقول :
رحت البلد وقعدت يومين قلت اشوف العيلة ورجعت إمبارح بالليل. وعلى فكرة هناك مفاجأة حلوة معايا قصيدة نزار قبانى إللى قالها بعد موت عبدالناصر، وأثناء عودتنا إلى الكلية يبدأ فؤاد وبصوت شجى فى قراءة القصيدة :
قتلناك يا آخر الأنبياء
قتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ
قتلناكَ..
ليسَ جديداً علينا
اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ
فكم من رسولٍ قتلنا..
وكم من إمامٍ..
ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ
فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ
وأيامُنا كلُّها كربلاءْ..
2
نزلتَ علينا كتاباً جميلاً
ولكننا لا نجيدُ القراءهْ..
وسافرتَ فينا لأرضِ البراءهْ
ولكننا.. ما قبلنا الرحيلا..
تركناكَ في شمسِ سيناءَ وحدكْ..
تكلّمُ ربكَ في الطورِ وحدكْ
وتعرى..
وتشقى..
وتعطشُ وحدكْ..
ونحنُ هنا نجلسُ القرفصاءْ
نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ
ونحشو الجماهيرَ تبناً وقشاً
ونتركهم يعلكونَ الهواءْ
3
قتلناكَ..
يا جبلَ الكبرياءْ
وآخرَ قنديلِ زيتٍ..
يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ
وآخرَ سيفٍ من القادسيهْ
قتلناكَ نحنُ بكلتا يدينا
وقُلنا المنيَّهْ
لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟
فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا..
سقيناكَ سُمَّ العروبةِ حتى شبعتْ..
رميناكَ في نارِ عمَّانَ حتى احترقتْ
أريناكَ غدرَ العروبةِ حتى كفرتْ
لماذا ظهرتَ بأرضِ النفاقْ..
لماذا ظهرتْ؟
فنحنُ شعوبٌ من الجاهليهْ
ونحنُ التقلّبُ..
نحنُ التذبذبُ..
والباطنيّهْ..
نُبايعُ أربابنا في الصباح..
ونأكلُهم حينَ تأتي العشيّهْ..
4
قتلناكَ..
يا حُبّنا وهوانا
وكنتَ الصديقَ، وكنتَ الصدوقَ،
وكنتَ أبانا..
وحينَ غسلنا يدينا.. اكتشفنا
بأنّا قتلنا مُنانا..
وأنَّ دماءكَ فوقَ الوسادةِ..
كانتْ دِمانا
نفضتَ غبارَ الدراويشِ عنّا..
أعدتَ إلينا صِبانا
وسافرتَ فينا إلى المستحيل
وعلمتنا الزهوَ والعنفوانا..
ولكننا
حينَ طالَ المسيرُ علينا
وطالتْ أظافرُنا ولحانا
قتلنا الحصانا..
فتبّتْ يدانا..
فتبّتْ يدانا..
أتينا إليكَ بعاهاتنا..
وأحقادِنا.. وانحرافاتنا..
إلى أن ذبحنكَ ذبحاً
بسيفِ أسانا
فليتكَ في أرضِنا ما ظهرتَ..
وليتكَ كنتَ نبيَّ سِوانا…
5
أبا خالدٍ.. يا قصيدةَ شعرٍ..
تقالُ.
فيخضرُّ منها المدادْ..
إلى أينَ؟
يا فارسَ الحُلمِ تمضي..
وما الشوطُ، حينَ يموتُ الجوادْ؟
إلى أينَ؟
كلُّ الأساطيرِ ماتتْ..
بموتكَ.. وانتحرتْ شهرزادْ
وراءَ الجنازةِ.. سارتْ قريشٌ
فهذا هشامٌ..
وهذا زيادْ..
وهذا يريقُ الدموعَ عليكْ
وخنجرهُ، تحتَ ثوبِ الحدادْ
وهذا يجاهدُ في نومهِ..
وفي الصحوِ..
يبكي عليهِ الجهادْ..
وهذا يحاولُ بعدكَ مُلكاً..
وبعدكَ..
كلُّ الملوكِ رمادْ..
وفودُ الخوارجِ.. جاءتْ جميعاً
لتنظمَ فيكَ..
ملاحمَ عشقٍ..
فمن كفَّروكَ..
ومَنْ خوَّنوكَ..
ومَن صلبوكَ ببابِ دمشقْ..
أُنادي عليكَ.. أبا خالدٍ
وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ
وأعرفُ أنكَ لن تستجيبَ
وأنَّ الخوارقَ ليستْ تُعاد…
قتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ
قتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ
قتلناكَ..
ليسَ جديداً علينا
اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ
فكم من رسولٍ قتلنا..
وكم من إمامٍ..
ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ
فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ
وأيامُنا كلُّها كربلاءْ..
2
نزلتَ علينا كتاباً جميلاً
ولكننا لا نجيدُ القراءهْ..
وسافرتَ فينا لأرضِ البراءهْ
ولكننا.. ما قبلنا الرحيلا..
تركناكَ في شمسِ سيناءَ وحدكْ..
تكلّمُ ربكَ في الطورِ وحدكْ
وتعرى..
وتشقى..
وتعطشُ وحدكْ..
ونحنُ هنا نجلسُ القرفصاءْ
نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ
ونحشو الجماهيرَ تبناً وقشاً
ونتركهم يعلكونَ الهواءْ
3
قتلناكَ..
يا جبلَ الكبرياءْ
وآخرَ قنديلِ زيتٍ..
يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ
وآخرَ سيفٍ من القادسيهْ
قتلناكَ نحنُ بكلتا يدينا
وقُلنا المنيَّهْ
لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟
فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا..
سقيناكَ سُمَّ العروبةِ حتى شبعتْ..
رميناكَ في نارِ عمَّانَ حتى احترقتْ
أريناكَ غدرَ العروبةِ حتى كفرتْ
لماذا ظهرتَ بأرضِ النفاقْ..
لماذا ظهرتْ؟
فنحنُ شعوبٌ من الجاهليهْ
ونحنُ التقلّبُ..
نحنُ التذبذبُ..
والباطنيّهْ..
نُبايعُ أربابنا في الصباح..
ونأكلُهم حينَ تأتي العشيّهْ..
4
قتلناكَ..
يا حُبّنا وهوانا
وكنتَ الصديقَ، وكنتَ الصدوقَ،
وكنتَ أبانا..
وحينَ غسلنا يدينا.. اكتشفنا
بأنّا قتلنا مُنانا..
وأنَّ دماءكَ فوقَ الوسادةِ..
كانتْ دِمانا
نفضتَ غبارَ الدراويشِ عنّا..
أعدتَ إلينا صِبانا
وسافرتَ فينا إلى المستحيل
وعلمتنا الزهوَ والعنفوانا..
ولكننا
حينَ طالَ المسيرُ علينا
وطالتْ أظافرُنا ولحانا
قتلنا الحصانا..
فتبّتْ يدانا..
فتبّتْ يدانا..
أتينا إليكَ بعاهاتنا..
وأحقادِنا.. وانحرافاتنا..
إلى أن ذبحنكَ ذبحاً
بسيفِ أسانا
فليتكَ في أرضِنا ما ظهرتَ..
وليتكَ كنتَ نبيَّ سِوانا…
5
أبا خالدٍ.. يا قصيدةَ شعرٍ..
تقالُ.
فيخضرُّ منها المدادْ..
إلى أينَ؟
يا فارسَ الحُلمِ تمضي..
وما الشوطُ، حينَ يموتُ الجوادْ؟
إلى أينَ؟
كلُّ الأساطيرِ ماتتْ..
بموتكَ.. وانتحرتْ شهرزادْ
وراءَ الجنازةِ.. سارتْ قريشٌ
فهذا هشامٌ..
وهذا زيادْ..
وهذا يريقُ الدموعَ عليكْ
وخنجرهُ، تحتَ ثوبِ الحدادْ
وهذا يجاهدُ في نومهِ..
وفي الصحوِ..
يبكي عليهِ الجهادْ..
وهذا يحاولُ بعدكَ مُلكاً..
وبعدكَ..
كلُّ الملوكِ رمادْ..
وفودُ الخوارجِ.. جاءتْ جميعاً
لتنظمَ فيكَ..
ملاحمَ عشقٍ..
فمن كفَّروكَ..
ومَنْ خوَّنوكَ..
ومَن صلبوكَ ببابِ دمشقْ..
أُنادي عليكَ.. أبا خالدٍ
وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ
وأعرفُ أنكَ لن تستجيبَ
وأنَّ الخوارقَ ليستْ تُعاد…
(5)

أعود إلى سنوات الجمر والثورة التى تمور بعقلى وحرصى على النبش فى ذاكرة التاريخ ومعرفة حقائق الواقع وتجلياته في مصر والعالم.
حملت كتبى وسرت مع فؤاد متجهين إلى كلية الحقوق. .وهو يقرأ قصيدة نزار قباني في ذكرى وفاة عبد الناصر وتوقفنا كثيرا أثناء السير وبعد إنتهاء فؤاد من القصيدة النزارية. .قلت :
هناك قصيدة لأحمد عبد المعطى حجازى عن موت عبد الناصر. .أحفظ الكثير منها، وقالها بعد موت عبدالناصر مباشرة، مرثية للزمن الجميل:
هذه آخر الأرض
لم يبق إلا الفراق
سأسوى هنا لك قبرا
وأجعل شاهده مزقة من لوائك
ثم أقول سلاما !
زمن الغزوات مضى
والرفاق ذهبوا
ورجعنا يتامى
هل سوى زهرتين أضمهما فوق قبرك
ثم أمزق عن قدمى الوثاق
إننى قد تبعتك من أول الحلم ،
من أول اليأس حتى نهايته
وفيت الذماما
ورحلت وراءك من مستحيل إلى مستحيل
لم أكن أشتهى أن أرى لون عينيك
أو أن أميط اللثاما
كنت أمشى وراء دمى
فأرى مدنا تتلألأ مثل البراعم ،
حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل
والحصون تساقط حولى ،
وأصرخ فى الناس ! يوم بيوم
وقرطبة الملتقى والعناق
(6)
يتوقف فؤاد كى يسمع قصيدة حجازى، وأنا سارح معها ومندمج. .ثم يعقب قائلا:
بعد موضوع ثغرة الدفرسوار ودخول الصهاينة إلى السويس وتطويق القوات الموجودة في سيناء وحزنك الشديد وغضبك مما حدث، و بدأت المقاومة الشعبية فى صفوف السويسين تظهر ضد قوات الصهاينة ،وبدون علم والدى أو أى من الأسرة. .
ومع صديق عزيز علىّ جدا. .حضرنا معا من الرجدية ورحنا مديرية الأمن وطلبنا التطوع مع جماهير المقاومة الشعبية وتم قبولنا وأخذونا للتدريب على أساليب الدفاع المدني، وقبل سفرنا حدث أن قبل السادات الحوار مع الصهاينة ..ولم نسافر إلى السويس.
وأبتسم مكملا :
طبعا كيسنجر بدأ رحلاته المكوكية وسيطر على فكر السادات وبالتأكيد هدده بأن أمريكا لاتقبل بهزيمة السلاح الأمريكى من السلاح الروسى.
وبدأت الجرائد تكتب عن كيسنجر مهندس السياسة الأمريكية وموسى صبرى يكتب فى الأخبار مشجعا على حسن تصرف السادات ولاعنا الفريق سعد الدين الشاذلي الذى لايهمه سوى الحرب وأنه لا يعرف أى حاجة عن السياسة.
ويشدنى فؤاد من يدى زاعقا:
محاضرة الدكتور محمودالسقا. .لازم نحضرها.
7
خرجنا من المحاضرة سعداء جدا ومنشرحين بما أضفاه الدكتور السقا من بلاغة لغوية ومعلومات تاريخية عن المصريين القدماء وطريقة إلقائه التى يمتزج فيها العاطفة بالعقل.
قصة فريدة من عمق التاريخ المصرى القديم .
يقول الدكتور السقا :
عبر قنطرة التاريخ يلوح لنا المصرى القديم وهو يشيد معابده الخالدة مسجلا على جدرانها وأعمدتها تاريخه الفكرى والثقافى والدينى والحربى.
المصرى القديم كان عاشقا ويذوب عشقا فى وطنه الثرى المعطاء ونيله المقدس.
ويقاطعنى فؤاد مزهوا ومبتهجا :
هذا الدكتور محترم جدا جدا. .ألم تسمعه قبل المحاضرة وهويتأمل الطلبة والطالبات ويدور بعينيه فى المدرج بالكامل ويرى أن معظم الطلبة والطالبات من أقاليم مصر المحروسة ..من طريقة اللبس والشكل. .فيقول:
أرى أن معظم الطلبة والطالبات من أبناء الفلاحين والعمال. .وهذا يسرنى جدا ولكم الحق أن تفخروا بأنفسكم وآبائكم، انا من الشرقية فلاح ابن فلاح. .وكنت أسعد مخلوق عندما يزورنى والدى وهو يحمل لى الزوادة من خير الأرض والمواشى.. والله كنت أقابله وانا فخور به وأجلس معه في الكلية وأقول :هذا والدى الفلاح العظيم.
أما أولاد الذوات الحاضرين معنا. .فلاتبتعدواعنهم وكونوا على قدم المساواة معهم ،فالإنسان بعلمه وعقله لا بشكله ولبسه.
(8)
من الصعب على الوطن تقبل فكرة الهزيمة وأيضا من الأصعب تبرير الهزيمة.
كان الحوار الدائر حول تطويق قواتنا فى سيناء والحشد الطلابى لم يعترف بالمبرارات التى تسوقها القيادة السياسية وأصبحت جامعة القاهرة شعلة من الثورة وكأن مايحدث يعيد التاريخ نفسه لثورة الطلاب سنة 1968م بعد هزيمة يونيو 1967 م.

(9)
المظاهرات مشتعلة فى جامعة القاهرة واندلاع الحركة الطلابية العارمة ،ولم يجد السادات ،وثغرة الدفرسوار أصبحت مفتوحة لتدفق قوات الصهاينة على الشط الغربى للقناة والجرائد تكتب أن أمريكا دخلت الحرب بجانب إسرائيل والعتاد الحربى الأمريكى متواصل ليل نهار وإذاعة البرنامج العام وصوت العرب ينددان بالتدخل الأمريكى، إلا قبول وقف النار ..فى أواخر أكتوبر .
وكأن السادات يهيىء المناخ لوقف إطلاق النار ..وتبدأ مباحثات فض الاشتباك تحت الرعاية الأمريكية والأمم المتحدة ..ويتم اللقاء عند الكيلو 95طريق مصر - السويس،بين الفريق الجمسى وياريف رئيس أركان الجيش الصهيونى ...ومندوب من قوات الأمم المتحدة ..
وتذكر جريدة الأهرام.. أن اللقاء تم والجمسى يكاد يبكى على ما آلت إليه الحرب وتطويق الجيش الثالث من قوات العدو ..وأنه قال لرجاله لا تسلموا على الوفد الإسرائيلى إلا إذا أدوا التحية العسكرية لكم .
وبالفعل قام الوفد الإسرائيلى بقيادة ياريف بأداء التحية العسكرية للجمسى ورجاله .
ثم بدأت المباحثات وتم الإتفاق على عدة نقاط من أهمها السماح بالتموين للجيش الثالث المحاصر من قبل القوات الإسرائيلية .
ثم تم الإتفاق على بدء المفاوضات عند الكيلو 101 وقد أقامت قوات الأمم المتحدة ثلاث خيمات ،الأولى لهم والثانية للوفد المصرى والثالثة للوفد الإسرائيلى .
ويرسم صلاح جاهين كاركاتيرا به رسم للخيام الثلاث ... وتعلو خيمة الأمم المتحدة كلمة خيمة الأمم المتحدة بين علامتى التنصيص.وكأنى به يقول خيبة الأمم المتحدة .
ويبكى الجمسى ويذرف الدموع وينتهى مع الوفد الإسرائيلى إلى ست نقاط :
فصل القوات ،تبادل الأسرى ،إمداد الجيش الثالث بالتموين،إمداد مدينة السويس بالتموين،إجلاء الجرحى من السويس إجلاء الجرحى من الجيش الثالث.
(10)
سمعت عن قيادات الحركة الطلابية الذين هاجموا أنور السادات فى بداية حكمه بعد موت غبدالناصر الدراماتيكى وما أعقب ذلك من خروج الشعب المصرى بمطالبته بالعودة إلى سدة الحكم بعد خطاب تنحيه عقب هزيمة يونيو 67.
وكانت كلية الآداب المواجهة لكلية الحقوق هى الموقع الأثير والمفضل للتجمعات الطلابية وأمامها من الجانب الآخر من الشارع كلية الفنون التطبيقية .
وثارت الحركة الطلابية بمطالبة السادات بالحرب على إسرائيل وتحرير سيناء من دنسهم .
وعلى جدران كلية الفنون التطبيقية رسومات تندد بالسادات وتخاذله عن تحرير سيناء .
وأسعى للتعرف على هذه القيادات وأتعرف على أروى صالح وهبة العالم وأحمد عبدالله .
كانت أروى صالح من القيادات الثورية التى لاتقبل القسمة على إثنين وصاحبة رؤية متقدمة فى صراعنا مع الصهاينة وكانت ماركسية حتى النخاع.
تعرفت عليها وقربت منها ،فهى شخصية ذكية جدا ومثقفة ثقافة رفيعة ومجنونة بعشق الوطن وصوتها حاد وجاد فى اتخاذ القرارات الثورية ..
ومن خلالها وهبة محمود أمين العالم أتعرف بقوة على الفكر الماركسى التقدمى ،هبة ابنة المفكر الماركسى الأشهر محمود أمين العالم،وأذهب إلى كلية الآداب مشتركا فى التجمعات الطلابية وأصبحت كتب ماركس ولينين وكتابات جورج طرابيشى وكتابات فردريك أنجلز ضمن ثقافاتى ودار الثقافة الجديدة لمحمد يوسف الجندى المقصد والمأمول .
أركب أتوبيس 9 أو 888 وأنزل فى ميدان التحرير ثم أذهب إلى دار الثقافة الجديدة شارع صبرى أبو علم
وبقروش معدودة، أحمل عددا من الكتب التقدمية .
(11)
ولا أكتفي بما يدور بكلية الحقوق والآداب و أسعى إلى كلية السياسة والإقتصاد لمقابلة ابن بلدى محمد الجندى واستمع لمحاضرات الدكتور حامد ربيع
كان سعيا لاحدود له ونهما معرفيا لاشبع له.
جوع أبدى وظمأ دائم.
ويظهر فى أفقى القصايد الممنوعة لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. .
كنت أحفظ قصيدته الفارقة التى هجا فيها عبد الناصر وصحبه بعد هزيمة 67.
خبطنا تحت بطاطنا يامحلى رجعة ثوارنا من خط النار
وكالنحلة التى تتنقل بين الورود، كنت أسابق عمرى في معرفة المستور والمستخبى ونشاط الدولة فى التضليل لما حدث فى ثغرة الدفرسوار ثم مباحثات الكيلو 101 وزيارات كيسنجر المكوكية بين القاهرة وتل أبيب.
ويقابلنى محمد الجندى. ..الطالب بالسياسة والإقتصاد والمحول من جامعة بيروت ويطلب منى أن أمر على شقيقه وأطلب منه 30 جنيه لمصاريفه فهومستأجر لشقة فى الدقى. .لكنى أطلب منه أن يكتب ما يطلبه .
ويلبى طلبى ويكتب ثم يقول لى:
عندنا ندوة شعرية. .ممكن تحضرها.

(12)
جامعة القاهرة ،الإسم المدوى والصرح الخالد خلود الأهرام ، نفخر بها ونهيم بأروقتها ، ونكاد لا نفترق عنها إلا لنعود إليها ، وحركة الطلاب لا تنتهى ما بين مجلات الحائط والندوات والمحاضرات ، والأساتذة الدكاترة مع الطلاب لا يفترقون ، إنه الهم الوطنى والقومى ، إنها مصر العروبة ، مصر المحروسة ، مصر الحضارة والتاريخ .
وأسمع عن الشاعر على يوسف قنديل، ابن كفر الشيخ ، طالب بكلية الطب جامعة القاهرة وأسعى لمن يدلنى عليه أو يعطينى قصائده ..ويأتينى أحد الأصدقاء ببعض الأوراق وأقرأ فيها قصيدة رائعة .
أقرأ أشعاره ، والبصيرة المستيقظة المستنفرة ، وقصائده المشحونة بالكشف عما سيكون وما تؤول إليه الأمور ، كانت خارج السياق والسباحة السهلة فى نهر الشعارات والأناشيد العاهرة والتراتيل التى تكرس الواقع المزيف ، والنضال الكلامى فى غياب منظومة الفكر الثورى ، كنا نتبادل القصائد بلهفة وشوق ، هذا الشاعر النابغة الذى وددت أن أراه ، وسعيت وراءه ولم يسعفنى وقتى وزمنى ، للسفر من طنطا إلى القاهرة يوميا ، والإرتباط بمواعيد القطارات ، فلم تكن لدينا القدرة على إمتطاء السيارات ، فقد كانت ترفا وحلما صعب المنال .
إشراقات شعرية
-1-
-وردة الشك-
أشك فى انتظام الليل والنهار ، فى علم الحسب والمنطق
فى الميزان ، فى المرأة الحبلى
أشك فى مخاطبى : لعله يسرق ،خدعة ،لغاتى
فى أحبائى ، لعلهم تأمر ضد نقمتى وشهوة السفر ، لعلهم
فى الحديد الصلب والمطاوع .لمجهول 0.
أشك فى المجهول
فى المقاهى ، أتليه الفنون ، فى الفاكهة ورائحة الشواء
فى الحديد الصلب والمطاوع 0
فى براءة الذئب من دم يوسف
فى ملوحة البحار وجمال نهر النيل.
.
فى الحديد الصلب والمطاوع .لمجهول..
والتى لا تأتى .
فى حساب السنين
-2-
طعنت مرتين :
بخنجر المدينه
وفرشة السكينة
وأمك المسكينة
تظل فى الليالى / تعبد كوكبين
"ابنى يضيع ؟أين ؟"
-3-
تظهر أم تختفى
الدفء الجانى الذى ينسينى المجهول .
حملتنى ثقل هذه الأمانة :
الطب والشعر والكهانة
محبة تلك أم خيانة ؟
.......
هل خنتنى ياشعر ؟
ما أفسدك
يالضياع من يبيع نفسه
ليعبدك
لا شعر من يخون
نثرا تكون .
-4-
الليل صدر الأم
يا يمامة
أمسى قرار
أمسى قرار البحر وانسجامه
صبت كئوس الكون
نامت القيامة
نامى ، ولا تهتمى
يا يمامة
-5-
لا أفق يبصرنى
لا سماء
مزروعة خطاى فى تهدج الرثاء
غدا
تشقنى الرياح رافدا للدمع
أو يجتازنى الصباح
جنية أصير
أين حلم الماء
****
لا أفق يدركنى ولا سماء
خطاى حجم الأرض
وانفراجة الرجاء
خفق اللهيب بعضى
وبعضى :الغريب
أنا الذى يفض أو يعيد
بكارة الأشياء 0
-6-
صمت القبور فى مخارج القرى
إشارة اللغات للدخول فى المغامرة
وللبذور حينما تشب عن تهادن الثرى
ولا يفهم الملوك والأباطرة .
ولا يفهم الملوك والأباطرة 0
-7-
لا تسل عن "على"
فقد دحرجته خيول السماء
إلى آخر القمح والفول
حين تساقط حقل السماء
وأخفى الصغار وهم يصنعون العشاء
تماما:
بكارة الأشياء .ين ، والأنبياء ..
-8-
مقفلة شرفات الدار
والمصباح غائب .
لا أهلا
لا موقد نار
لا فوضى تتجاذب
رحلت أدراج الأسرار
معهم
إلا صمت نام
وتقلقه
نقط الماء السائب
-9-
تأتى لكل قارىء :قراءة
وكل مبصر تأتيه : شمعة مضاءه
ومن أباح الحب : ملكه السماء
ومن تطهر قلبه بالدمع : أشعل الفضاء
ان الذى أعنيه قادم
لا ريب
قادم وقت الإدانة والبراءه.
من أروع القصائد وأكثرها عمقا ، التساعية / النبوءة / الشرارة / التوهج ، كنا سعداء بها ونردد أبياتها ومقاطعها ونحفظها ، وأجد خطى المتعب والحروف المتآكلة، وقد كتب على حواف الورقة وبقلم أسمر بهت لونه،،وبخط ردىء.
أن الذى أعنيه قادم
لاريب
قادم وقت الإدانة أو البراءة .
فرغم حرب أكتوبر 1973وما تمخضت عنه ،إلا أنه قادم وقت الحساب عن هزيمة يونيو 1967سواء بالبراءة أو الإدانة.
(13)
أبحث عن فؤاد عجوة والسيد يوسف وأحمد فريد ومجدى عبده ومحمد حسين وإبراهيم خلف وإبراهيم السماحى وحسين الدمشيتى وعبدالحميد هيكل وياقى الزملاء ..
لم أعد أراهم أو نلتقى إلا قليلا وسفرى بالقطار صار شاقا ومتعبا ،فرغم فتوة الشباب إلا أن معاناة الاستيقاظ فجرا والسير على الأقدام للوصول إلى محطة القطار لركوب قطار الساعة السادسة إلا الثلث ،منعنى من اللقاء .
رحت أسأل عنهم وكلى أمل أن أراهم ،وأرى فؤادعجوة وما إن تلتقى الأعين إلا وتعلو الوجهين فرحة غامرة ويمتلأ القلبان إنشراحا وطمأنينة .
ويشدنى فؤاد من يدى مرحبا ومهللا ونسرع معا للحاق بمحاضرة القانون الدستورى للدكتور يحيى الجمل .
الدكتور يحيى الجمل ،أستاذ مساعد،أطيب قلب رأيته وإنسانية تنساب عذوبة وعطفا وعلما عزيرا .
نسرع للحاق بالمحاضرة ..ولم نجد مكانا فى المدرج وعلى البعد يجد فؤاد مكانا لكن لايسعنا معا فيجرى هابطا إليه ولم أجد سوى أجناب المنصة التى يقف عليها الدكتور يحيى الجمل فأجلس على أحد جوانبها أنا وآخرون .
وأشير لفؤاد الذى راحت عيناه تبحث عنى ..
وتهدأ الأصوات ويسود السكون وبعينين باسمتين ينظر الدكتور يحيى نحونا نحن الحالسين حواليه .
ويبدأ الدكتور يحيى محاضرته عن البدايات الحقيقية لأول دستور مصرى فى الحياة المصرى .



14

وتنهى المحاضرة ونقف نحن الجالسين على أجناب المنصة ،ويمر الدكتور يحيى الجمل من بيننا ،ونلهج جميعنا بالشكر له والتقدير وأغادر المدرج وأنتظر فؤاد بكافتيريا الكلية .
وأفتح كتابا وأسرح فى القراءة وأفيق على صوت فؤاد :
إيه يانويهى .. بقى لى مدة واقف ولا إنت هنا ..مستغرق فى الكتاب.

ويسحب كرسيا ويجلس ووحهه مفعم بالبهجة ويقول:
محاضرة ممتازة جدا ..فعلا مصر عظيمة وبدأت بداية صحيحة وبصراحة أنا بحب الدكتور يحيى وسعادتى كبيرة لما أشوفه وأحضر محاضرته ..ده ناصرى وعروبى .
فضحكت وأغلقت الكتاب الذى بيدى وقلت:

ساعة ماشافنا قاعدين على جوانب المنصة وكل واحد منا حاطط ورقة تحت منه ،وقف مكانه ولم يتحرك يمينا أو شمالا وكان بيعيد الكلام لما شافنا بنكتب فى الكشاكيل .
وقمت أحضرت كوبين شاى ..وسألنى فؤاد :
إيه الكتاب إللى كنت تقرا فيه؟؟
فقلت له :
مجموعة قصصية ليوسف إدريس اسمها العسكرى الأسود.
ويبتسم قائلا :
إنت مهتم بالقصص والروايات .
قلت :
تأريخ لما يحدث بأسلوب أدبى ورؤية متعمقة ،ويوسف قرأت له مجموعاتة ..أرخص ليالى وجمهورية فرحات وآخر الدنيا والنداهة وقاع المدينة ومسرحية الفرافير رائعة جدا ومن حوالى سنتين إشتريت من طنطا من شارع المديرية مجموعته بيت من لحم .






15
يعاتبنى فؤاد فى موقفى من جمال عبدالناصر ووأننى متحامل عليه ورؤيتى غير موفقة ويحكى عن عبدالناصر ويعدد مناقبه وإعماله .
وأقول لاتزعل منى وهذه حكايتى مع عبدالناصر:
هذه الحكاية التى عشتها بعقلى ووجدانى وهى محفورة فى ذاكرتى ،متوهجة،حية ،تقتات روحى وتستكين بأعماقى ...فى سنة 1967وتحديدا شهر يوليو وأغسطس ، هزيمة يونية المدوية الساحقة الماحقة للعقل العربى والإرادة العربية والكبرياء العربى ،
وكنا نمتلأ بالحلم العربى والصمود العربى ونزهو بالقومية العربية والتحدى الخلاق للتخلف والرجعية وسحق الإستعمار الجاثم فوق نفوسنا ، واقف أنا مع أمى وعمى فى سوق بيع الخضروات بجوار مصنع الكتان والزيوت بقريتنا ميت حبيش البحرية ، نبيع ما جمعناه من محصول الخيار ، وفجأة يمتلأالطريق بالسيارات العسكرية حاملة الجنود العائدين والمنسحبين من سيناء بعد إحتلالها وسحق القوات المصرية بها ، وكات هؤلاء الجنود الشعث الغبر الجوعى العطشى الممزقى الثياب الزائغى الأعين المهزومين الضائعين التائهين ،مئات السيارا ت بل الألوف تحمل فلذات الأكباد أبناء مصر البررة ، المخدوعين ، الذين إنهزموا قبل الحرب قبل القتال ، تركوا السلاح والمعدات للصهاينة ،غنيمة حرب لم تقم ، والألوف من الجنود تركوا بسيناء المحتلة ،غنائم ، للعدو المتربص بنا دوما وإلى آخر الزمان ،عيونهم ، ملابسهم ، أشكالهم ، الحسرة ، والضياع الى يسربلهم وإلى المتاهة يأخذهم .
ولم نجد مناصا أن يبادر الرجال والنساء بإيقاف هذه السيارات وإعطاء الجنود الأكل والخضروات والمياه والسجائر ، صار السوق يقذف كل مابه لهؤلاء المساكين العراة الحفاة المهزومين .
والله يافؤاد أنا محزون وفيه حكايات كثيرة ممكن أحكيها لك...كفاية صورته فى التليفزيون وهى يعلن الهزيمة ويتنحى
ويصمت فؤاد ويلتفت برأسه عنى ..وألمح دموعا فى العينين توشك على النزول على الوجنتين.
16
وننزل من القطار فى طنطا ..وفؤاد عابس الوجه لايكلمنى ويشيح بوجهه عنى ،وكأننى إرتكبت ذنبا كبيرا فى حق عبدالناصر ..ونهبط على السلالم وفى ميدان المحطة ونفترق .
وتبدأ رحلة التفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة بين مصر والعدو الصهيونى ..مباحثات الكيلو 101 ويزورنا للمرة الثانية هنرى كيسنجر فى ديسمبر 1973م ويلتقى بالسادات ويصرح السادات: بأن مابيننا وإسرائيل عقدة نفسية وأن 99% من أوراق اللعبة مع أمريكا وأن حرب أكتوبر آخر الحروب ..
وفى محاضرة الدكتور مفيد شهاب ، المنظمات الدولية ،وكنت أكره حضور محاضرات الدكتور شهاب ..لأنه لايريد أى طالب يدخل المدرج بعد دخوله وأيضا لابد من جلوس الطلبة على البنجات فقط ولا يريد أى طالب يجلس على سلالم المدرج أو حول المنصة ...كان مزهوا بنفسه كالطاووس .
وشاء حظى أن أجد مكانا فى آخر المدرج وألمح ، فى البنجات الأولى، فؤاد فأشير له .
وتنتهى المحاضرة وكعادتنا نتقابل فى الكافتيريا ..ونشرب الشاى ويبدأ فؤاد قائلا:
يانويهى ..صحيح مات عبدالناصر ولكن أعماله باقية وإللى حصل فى سبعة وستين دى مؤامرة وأهى حرب أكتوبر رجعت لنا حقوقنا وبعدين إللى حوالين عبدالناصر همه السبب .
وأبتسم ضاحكا:
يافؤاد لسه زعلان من كلامى ..ده كلام من وجهة نظرى سليم ولك وجهة نظرك ...
على فكرة السادات فرحان بصديقه العزيز كيسنجر..ّّّّّّّّّّ!!! وبدأت مرحلة دخول أمريكا لمصر ومقالة هيكل بالأهرام بتقول كلام كبير قوى،وموسى صبرى هايص مع السادات .
ويقوم فؤاد من على كرسيه ويقول لى :
تعالى أعرفك على بعض الطلاب ..ح يعجبوك جدا
17
وخرجت أنا وفؤاد. .والحديث الدائر بيننا عن ظاهرةالجماعات الإسلامية وتنامبها داخل الحرم الجامعى ونشاطاتهم الدينية التى أخذت حيزا واسعا من مجلات الحائط والنشرات المطبوعةكصوت الحق والتى أعطت لنفسها الحرية في طبع كتيبات لحسن البنا وأبى الأعلى المودودي وحيدالدين خان وعبدالقادرعودة...ويطول الحديث بينى وبين فؤاد ويقابلنا عبدالسلام عيسى وهو يجرى نحو البوابة ويقول :
عايز ألحق القطار .
وأقول لفؤاد:
قلت لى من مدة إنك ستحكى لى ماذا حصل لك وصديقك لما تطوعتم فى المقاومة الشعبية ..ويبدو إنك نسيت .
عموما سأحكى لك حكاية :
عشت أجواء الهزيمة المروعة القاصمة الساحقة لكبريائنا والتى أعادتنا إلى وراء الوراء ، وجعلت منا أضحوكة الأمم والدول ،وإحتلال أجزاء من البلاد العربية وضياع فلسطين وسحق ومحق الشعب العربى الفلسطينى ، وزوال الصمود العربى وسيطرة الخرافات والأكاذيب على عقولنا وأرواحنا وسيادة الدروشة والإتكالية والتوهمات والتماس الحلول من أولياء الله الصالحين .
كنت فى سنى الأولى ، أرى هزيمة يونيو او حزيران ، ماثلة فى كل شىء ، الحزن والهم والغم والضياع ، بيوت كثيرة يطل الصراخ منها لفقدابنها واللطم والبكاء الموجعان للقلوب والأفئدة ، وبيوت تقيم السرادقات لتلقى العزاء فى عائلها الشهيد ، وبكاء الرجال والأطفال ، صور مرعبة وحزينة ومؤلمة ،ماثلة فى عيونى وقلبى وعقلى لاتفارقنى مع تقدم العمر .
وفى ظل هذه الأيام المهزومة والمنكسرة ، وجدت والدى وهو الرجل المثقف والقارئ لأحدث ماتجود به المطابع من دراسات وأبحاث ، يأتى إلى البيت مسرعا ويدخل إلى المكتبة ويبحث عن نسخ القرآن الكريم ، ويفتح كل نسخة عند سورة "محمد" ، ودنوت منه بهدؤ وعلى أطراف أصابعى ، وسألته :
ماذا تفعل؟
فقال لى بكل ثقة ووجهه يفيض بالفرح ويعلوه الإنشراح :
سننتصر بإذن الله ، وأن الشيخ القطب فلان الفلانى قد قص علينا رؤيا صادقة ، أن الرسول "ص" قد زاره فى المنام وبشره بالنصر المبين على أعداء الله والمسلمين وا سترجاع فلسطين وزوال اليهود !!!!!!!!!!!!!!!!!وأن الدليل على صحة ذلك وجود شعرة من ذقن الرسول فى المصحف ، وكل هم والدى هو البحث عن هذه الشعيرات بين الصفحات ، وطال الوقت وهو يكد ويبحث عن الشعيرات ،وفجأة إنهار قاعدا على الأرض وهو يضرب كفا بكف ، ويحوقل ويهذى ويتغضن وجهه ، وأصبح الحديث يدور ليلا ونهارا عن البشارة بالنصر ، فى الشوارع ، وفى المساجد بل فى صلاةالجمعة ، كانت الخطبة تنصب على هذه البشارة وأن النصر آت لاريب فيه ، ولم يطل الوقت ، وظهر الرئيس جمال عبدالناصر ,هو يعلن تنحيه عن الرئاسة ويؤكد الهزيمة المدوية
18
ولحرصى الشديد على متابعة الدوريات والمجلات الشهرية، الازهر ،منبر الإسلام، العربى الكويتية، روزا اليوسف وكتاب اليوم وكتاب الجمهورية وكتاب الهلال وروايات الهلال..أشترى من مصروفى ما أستطيع شراءه وظهرت مجلة الجديد ورئيس تحريرها الدكتور رشاد رشدى أستاذ الأدب الإنجليزى بكلية الآداب جامعة القاهرة. .
كانت المجلة تُباع بخمسة قروش أى خمسون مليماً،أستقطعها من مصروفى .
كانت مجلة من أوراق الجرائد ،وإخراجها كان مميزاً وغلافها جذاب ومدهش ومواضعيها رائعة ،هذا من وجهة نظرى آنذاك،
لكن الدكتور رشاد رشدى "صاحب ديدمونة " أخذ على عاتقه أن تحظى هذه المجلة الحكومية بالحماية الكاملة منه ، فالمقال الإفتتاحى ومايقارب من نصف صفحات المجلة لإبداعاته المتنوعة ،مسرح ،رواية ،مقالات ..وباقى الصفحات كتابات متنوعة .
ومايهمنى اللحظة ..أن أكثر من 5صفحات من المجلة ،رسائل القراء الذين يذوبون عشقاً وهياماً فى كتابات فلتة العصر وأديب الزمان الدكتور رشاد رشدى .
وأوضح مابدر منى فى السطور الأولى "صاحب ديدمونة " .
عطيل إحدى مسرحيات شكسبير وديدمونة حبيبة عطيل وياجو و...باقى أشخاص المسرحية .
وكأن الله لم يخلق فى الأرض إلا ديدمونة ..ويكتب الدكتور رشاد رشدى ولايمل عن الكتابة ويزيد ويعيد ويعيد ويزيد ويكرر ويكتب ويكتب ويكتب عن ديدمونة ومأساة ديدمونة والله يرحمها ...
وقامت حرب أكتوبر 1973م وعبر الجيش المصرى قناة السويس وحطم خط بارليف واستعاد الكرامة المفقودة طيلة سنوات الهزيمة الفادحة وحدثت الثغرة التى أفقدتنا البهجة والسرور ،لكن هاجت الدنيا وماجت وحمل الدكتور رشاد رشدى قلمه وصارت المجلة لسان حال الرئيس السادات بطل العبور .
وتم تجييش الصفحات للحط من شأن عبدالناصر صاحب هزيمة يونيو1967م وانتقاد التجربة الثورية التى أوصلت الوطن إلى هزيمة منكرة .
ولما اشتدت الحملة على التجربة الناصرية واضطرام وطيس الحرب بين المؤيدين والمعارضين وزادت حدة القذائف المتبادلة وأن عبدالناصر أحنى الرؤوس وجاء السادات ورفع الرؤوس .
مهاترات وسخائف من المؤيدين والمعارضين ،وبحماس الشباب وغروره وطوفان المشاعر الغاضبة وبلغة حادة ،وضعت عمامة الوعظ على رأسى وأعتليت منبر العقل والحكمة وأمسكتُ بالقلم وكتبتُ رسالة للسيد الأستاذ الكبير الدكتور رشاد رشدى ..طالبته فيها بالكف عن هذه الحملة المسعورة والعودة إلى الموضوعية وترك الأمر للتاريخ فهو الوحيد الذى سيصدر نتائجه ..... واسترسلت فى إسداء النصائح وكأنى حكيم الزمان المنتظر .
ولم تنشر هذه الرسالة البغيضة المملؤة بالحكمة والعقل والتعقل ،وأحسبنى تعلمت درساً عظيماً ،أن الكتابة فى الصحف والمجلات هى ملء الصفحات بما يوافق سلطة رئيس التحرير ،فإذا خرجت عن القطيع ،كان الرقيب بالمرصاد فى إلقاء ماتكتبه سلة المهملات.
(19)
مابين هزيمة 1967م وحرب أكتوبر 1973م عشت مع أصحابى بالقرية ..نرى بأعيننا ما آلت إليه أحوال البلد بعد إحتلال سيناء وسنوات عجاف عشتها متنقلاً بين الصواب والخطأ،بين الصراخ والنواح ،بين الهزيمة والفشل هزيمة مروعة رأيتها وجلدتنى بنيرانها الحارقة وسقوط الآلهة المزيفة التى أخذت بخناقنا سنوات وسنوات ،ونصحو على جريمة من أشنع الجرائم فى حق الشعوب التى أسلمت قيادها وسكرت بتغيير آملةً فيه خيراً كثيراً.
موت الألوف من الأطهار الأبرياء ،واحتلال يمتص الدماء ،وانكسار العزة وضياع الكرامة ،وعودة إلى الأناشيد المضللة ،ولاصوت يعلو فوق صوت المعركة ..
أين كان الأشاوس الأحامد النشامى الثوار الأحرار ؟؟
عشت مذهوب العقل ،مشتت الفكر ،أبحث عن يقين ،أبحث عن أسباب هزيمة فادحة أكلت الأخضر واليابس .
ما شغل بالى حتى اللحظة ،والذى تكتمت عليه السلطات وطمست معالمه الفاجعة ومدى تأثيرها على واقع أمة منكوبة برجالها ،ألا وهو :
**تهجيرأبناء ثلاث مدن وتوزيعهم فى طول البلاد وعرضها .
**التعتيم على أسباب الهزيمة .
ذات صباح حزين ..فوجئت بخيام تُنصب فى الأجران ،وسيارات تحمل أبناء مدن القناة "السويس ،الإسماعلية ،بورسعيد " وفتح المدارس لإسكانهم وفرض الأوامر على أبناء القرية بتوفير الأطعمة والملابس والأغطية وتسكينهم فى بيوت القادرين .
كان من نصيب القرية العديد من أسر مدينة السويس، الذين فقدوا بيوتهم وملابسهم وتاريخهم ،عشت معهم والسؤال تلو السؤال ينخر فى عقلى .
ما الذى حدث حتى يتم تهجير ملايين من البشر ؟؟
أين كان القادة وأصحاب الجاه والسلطان ورجال السلطة وقادة الجيوش ؟؟
لم أجد إجابةً ،فالتعتيم التعتيم التعتيم وتموت الأسئلة .
مجتمع الريف المنغلق على ذاته وتقاليده الصارمة وأعرافه المتشددة ،كيف يصمد هذا المجتمع لسلوكيات غريبة عليه ؟؟
وضاقت القرية بناسها وزادت مشاكلها وكثرت جرائمها وسادت الفوضى ،وأصبحنا نُطلق على أبناء السويس ،المهجّرين ،فقد أتوا بلا مال ولا عمل ولالقمة ،وسطوا على ما تم تخزينه !!!
وعاشت القرية ،سنوات مريرة صعبة ، تشكو الفقر والفاقة وشظف العيش وصرنا، أصحاب القرية ،غرباء ..فكل يوم تأتى السيارات ،وتًفرغ حمولتها ،من أبناء وبنات مدن القناة ،وتتعقد الحياة أكثر فأكثر..وتضيق بنا البيوت وتؤخذ اللقمة من أفواهنا ،وتمتلأ الأجران وأفنية المدارس بالخيام ..
ياله من منظر حزين !!!
(20)
ياله من منظر فاجع!!
ياله من منظر حزين!!
فجأة ً ..تقلبت الأحوال بالقرية واختلط الحابل بالنابل وانتشرت سلوكيات غريبة وملابس فاضحة تناقض السائد والمألوف ،وتعرضت المزروعات للنهب ،صبيان وبنات ينامون فى الخيام بلا عائل ولاحاضر ولامستقبل ،وشوارع تضيق بأهلها وفصول مكدسة بطلابها وطالباتها .
كنا صغاراً.. لانجد سوى النواح والعديد ،عن ابن الأسرة الفلانية ، الشاب الذى عاد جثة هامدة ،وتأتى به سيارة عسكرية ويتم دفنه،ليلاً، فى سرية تامة ودون ضجيج والتنبيه المشدد بالسكوت والخرس والبكاء الصامت والحزن المكبوت ..
وأسرة أخرى ترتدى نساؤها السواد ووجوههن شاحبة غارقة فى الدموع ..فلم يعد شبابها من الجبهة ..صرحت السلطات أنهم مفقودون ،فلايدرى أحد أهم أحياء أم أموات ..
والانتظار مٌر ومرير ووحش يفتك بالعقول .
وشيوخ القرية فى صمت وموات وحيرة واستغراب وحوقلة واستغفار ، وينهار خالى، الشاب الطموح ،ويسقط فى بحر الحيرة ،كان أحد شباب الثورة الأوفياء ، وأنظر إليه وقد دخل فى غيبوبة ،فقد معها اليقين بالثوار الأحرار وبرجال الثورة ،وتتحطم على صخر الهزيمة عزيمته ،ويسقط قلبه فى ليل العنكبوت ،ويمتلكه الحزن الأسود .
عشت معه لحظات الجنون العاصف والغضب الساحق ،أحنو عليه وأجالسه وأقرأ له كتبه الدراسية ، فإمتحان التوجيهية "الثانوية العامة " بعد أيام ، وينسى خالى عزيز.. كل ما قرأه ومادرسه طوال عام دراسى شاق ،وما تنتظره الأسرة والعائلة من شابها الطموح الذكى ،زهرة شباب العائلة ، ويبكى والدى رحمة الله عليه ،ويدعو له أن يجتاز الإمتحان بتوفيق الله وعونه.
لكن ما أصاب خالى عزيز ..أفقده اليقين ودخل فى أدغال الصمت المميت ،حزيناً يائساً ،فقد كانت مصر فى قلبه تخفق مع نبضاته وشهيقه وزفيره .
وانكسرت مصر ،وضاع خالى عزيز ،فقد عاش،فيما بعد، فى مأتم لاينتهى.

21
هذا الأعمى الذى قاد أمة المبصرين والذى حمل أمانة الكلمة الحرة حتى إنتقل إلى رحمة الله تعالى.
هذا الأعمى. .هو طه حسين.
الأيام. .درته الخالدة ..قرأناها ودرسناها وأستمع لوالدى وهو يشيد به أيما إشادة ويحكى عن مآثره وأفضاله على الدكتور محمد النويهى.
وبعد حرب 6 أكتوبر سنة 1973م ينعى الناعى:
مات طه حسين.
أحمل رسالة الدكتوراه عن أبى العلاء المعرى وأذهب إلى كلية الآداب. .هذه الكلية العريقة التى قادها طه حسين وصار عميدا لها، ومن يومها نودى بعميد الأدب العربي.
طه حسين. .هذا العلم وهذا العالم الذى يطوى تحت جناحيه ثقافات العالم.
أتقابل مع بعض طلاب وطالبات كلية الآداب وأتعرف عليهم ..زميلى فى الثانوى رزق الدراجينى ابن قطور الطالب والدارس للغة العبرية والذى حرضنى على ترك كلية الحقوق والانتقال لكلية الآداب معللا:يانويهى هى دى الكلية إللى تقدر تظهر فيها مواهبك وثقافتك.
وأبتسم وأقول :
ننتهي من الحقوق وندخل الآداب.
ويدور النقاش الجاد والحوار الهادف والبناء مع طلبة الآداب ودور طه حسين فى الحياة المصرية والعربية
وينبرى أحد الواقفين منفعلا :
طه حسين كافر وشكك فى القرآن وهو ماسوني.
وتعلو الوجوه حالة الوجوم وتتجه كل الأعين إلى المتحدث.
ويغضب أحدهم شاتما :
إنت البعيد حمار وغبى. .مش بتوع الجماعات الإسلامية وانت منهم لابيعرفوا قراية ولاكتابة. .لولا طه حسين كان زمانك بتلم سبارس من الشوارع.



22


على الحشائش الخضراء أمام مبنى كلية الحقوق. .جلست ومددت رجلى حتى آخرهما وأخذت نفسا عميقا لنسيم عذب تمنيت لوأغرق فيه.
جعلت من ذراعى وسادة. تأملت السحب فى أشكالها المتعددة من خيول وطيور و....
غفوت ثم نهضت على صوت فؤاد عجوة يوقظنى من غفوتى ويقول:
تعال نصلى الضهر. .

مشينا معا وفؤاد يحكى عن بلدياتنا وهو زميل لنا بالكلية. .كنا نطلق عليه وكيل نيابة. .........
نظرا لما فيه من تطلعات لاتتناسب وظروف حياته ودائما يتشدق بعبقريته في فهم القانون ويكررعلينا مادرسناه وكأننا لسنا في نفس الكلية.

يحكى فؤاد وهو مبتهج :
ده شخصية غريبة جدا وفى يوم قابلني أثناء محاضرةالدكتور رفعت المحجوب عن الاقتصاد السياسى وطلب منى أروح البيت عندهم أجيب حاجة له لأنه مستأجر أوضة فى مكان قريب من الجامعة وبينزل كل فترة طويلة ،فأنا رحت بيتهم وجبت شنطة وتانى يوم سافرت ورحت الكلية وقابلنى ورحت معاه الأوضة ،لقيته فتح الشنطة وفيها لفة مليانة قوالح وعلب دخان معسل. .فقلت له :
إيه ده؟
قال لى:
أبويا عارف إنى باشرب الجوزة وعشان كده بعت القوالح والدخان.
وتمايلنا من الضحك وقلت له :
أنا حصل لى موقف كوميدى معاه وطلب منى أروح بيتهم عشان أجيب له فلوس ورحت البيت رفض أبوه يدينى فلوس وأعطانى شنطة فيها حلة فيها فرخة مطبوخة وغرقانة فى المرقة بتاعتها. .فأنا إنزعجت وقلت:
هاتوا الفرخة من غير المرقة. ..إزاى أشيل حلة فيها مرقة من طنطا للجيزة! !!!!




23
تحملت نصيبى من الشقاء والتعب والسهر والسفر إلى مصر ونعنى بها القاهرة لحضور المحاضرات والدروس الجامعية والساكاشن.
تسألني أمى فى براءة :
بتحضر السكشن؟
فلمعت عيناى بهجة وحبورا وصرخت فرحا :

مين قالك على السكشن؟
يحمر وجه أمى الشديد البياض والمشرب بالأحمر وتهمس :
خالتك فلانة ابنها بيسافر الكلية ويحكى لها عن كل حاجة، وأنت عمرك لابتحكى ولابتقوللى على حاجة.


أمى زهرة جميلة عذبة نقية، عزيزة النفس لطيفة المعشر حسنة المظهر ضاحكة العينين . .
بينى وبينها بالتمام والكمال 22 يوم و3شهور و16سنة.

هى مولودة 3 ديسمبر 1938م.
و أنا مولود 25 مارس 1955م
يعنى أمى تزوجت وعمرها 15سنةو5شهور.

تعلمت أمى حتى الإبتدائية ولم تواصل تعليمها.
كانت تطالع كتبى المدرسية وتسهر معى وتحثنى على المصابرة والتفوق. و تحافظ على كتبى .




24
جلست مع أمى وشرحت لها مواد كلية الحقوق وأسماء الأساتذة والمحاضرات.
حاولت أن أكون الابن البار بأمه ولم أبخل في الرد على تساؤلاتها ومحاولة التعرف على الدراسة الجامعية وباعتبارى أول طالب فى العائلة أستكمل تعليمى الجامعى.
وفى حياء شديد وانشراح ،تسألني أمى :
والبنات زميلاتك. ...؟
ابتسمت ابتسامة عريضة وشعرت بأهميتى وخوف أمى ،من إنتقالى من الريف بتقاليده الصارمة والمدينة بتحررها والحرية المتاحة فيها، قلت :
البنات فى الجامعة وبالأخص جامعة القاهرة. .معظمهن بنات البندر ولابسات جيبة وبلوزة وشعرهن ممشط وجميل. .وفيه بنات من الفلاحين. .باين من طريقة الكلام والخوف من الإقتراب من الطلاب والوقوف بعيد وساعة الدخول في المدرج تلاقى البنات دول بيتلموا جنب بعض.

وفى مرة من المرات طالبة رفضت تقعد جنب زميلها وبقت واقفة لحد ماتنبه لها الدكتور مفيد شهاب مدرس المنظمات الدولية وقال لها :
اقعدى أو أخرجى.
وفعلا خرجت من المدرج.

وموضوع السكشن هو حصة خاصة لشرح ماغمض من مواضيع القانون أو الإقتصاد أو الفرنساوى.
وتأتى معيدة من كلية السياسة والاقتصاد اسمها نجلاء بتشرح لنا نظريات الاقتصاد السياسى ،وهى حاصلة على تقدير جيد جدا ومعينة بالكلية وتقوم بتحضير ماجستير فى الإقتصاد.
والسكشن حجرة كبيرة تضم حوالى 30 طالب وطالبة، مرتب على الحروف الأبجدية ،وأنا مع حرف العين مثل عزة وعزيزة وعبلةو عائشة وعالية و عايدة .........
وكل طالب اسمه يبدأ بالعين.

تلتمع عينا أمى ويبتهج وجهها وتهمس بفرح :
كل يومين تحكى لى شوية. .عشان أعرف أرد على خالتك. ....مبقاش قاعدة معاها وهى بتحكى وأنا قاعدة مش فاهمة حاجة.




25
زميلى أحمد فريد ..شخصية حيية خجولة لاتخرج من فمه العيبة. .أقابله مهموما وغاضبا، فيبتسم ضاحكا ويقول:
مالك يارؤوف زعلان من إيه؟
ولكنى لم أرد عليه ،فينظر ناحيتى ويصمت. .ونسير جانبا إلى جنب حتى نخرج من باب الجامعة ونتجه إلى تمثال نهضة مصر فنجلس تحته.
الصمت بيننا مستمر ويهمس أحمد فريد. .فيه إيه قوللى؟؟
وأتأمل وجه أحمد تعلوه الابتسامة وإشراقة روحه وأفول:
والله مفيش حاجة بس زهقان شوية. .النهاردة زميلة من الاقتصاد والسياسة أعرفها كويس. .سألت عليها ،لقيت زميلة لها قالت لى:
خطفوها من قدام الجامعة ومحدش عارف ليه.
ودى ياأحمد بنت لها رأى محترم وفاهمة كويس وعرفتها من أروى صالح.
ويهم أحمد بالكلام إلا أنه يتراجع ويشدنى من ذراعى صارخا :القطر ح يفوتني قم نركب الأتوبيس بسرعة عشان نلحقه واحكيلى بعدين.





26

سور الأزبكية. .المكتبة العالمية التى تجمع كل العقول الإنسانية قاطبة، تجد الكتب بجميع لغات المعمورة.

ما من أسبوع إلا وتأخذنى قدماى إلى سور الأزبكية مارا من ميدان رمسيس، مسلما على جلالة الملك رمسيس الثاني ،الرابض بالميدان مقدما رجله اليسرى عن اليمنى، بأسمى آيات التحايا والإجلال والتبجيل.

هذا الملك الأعظم من عظماء الملوك المصريين وآثاره الخالدة فى الاقصر والكرنك وأبو سمبل.
وأسير فى شارع الجمهورية وعيناى لاتكفان عن قراءة اليفط على واجهات المحلات وعلى الحوائط.
وكأن أرصفة الشارع تعرفنى حق المعرفة، أجد نفسي متجها حيث سور الأزبكية والبهجة تملأ صدرى وتلال الكتب والمجلات فى الأرفف وعلى الأرض ترحب بى ترحيبا جميلا وتفتح لى ذراعيها تكاد تحضننى بشوق عارم وفرحة غامرة وتهليل صارخ.
وأقف متمهلا مدقق النظر فيما هو مطروح على الأرض من كتب مرصوصة بنظام وترتيب. .ويشد نظرى الرواية العبقرية، الشمندورة، للروائي المصرى محمد خليل قاسم. .عن النوبة وأهل النوبة وعادات وتقاليد النوبيين.
رواية ضخمة جدا ومن القطع الكبير. .وأنحنى حاملا إياها بين يدى مطبطبا عليها، ماسحا ما علاها من غبار الشارع وأسدد ثمنها دون مناقشة.
ثم أكمل سيرى بأناة.وبطء شديد .مدققا النظر فيما على الأرض من كتب وفيما هو على الأرفف.

وأجد أعمال عبد الوهاب البياتي الشعرية ونزار القباني وبدر الدين شاكر السياب ونازك الملائكة. .وبالتدقيق رأيت ديوان شعر شارل بودلير. .الشاعر الرجيم ..أزهار الشر. .فى طبعته الفرنسية المنمقة.. الأنيقة ..فأنسى ما أمامى من دواوين وكتب وأمد يدى وآخذه. .مغتبطا به، شاكرا الله على عثورى على هذا الديوان الذى أحدث ثورة شعرية على مستوى العالم.
وأجد أمامى أتوبيس رقم 15 فأسرع خلفه وهو منتظر فى الإشارة وأركب حاملا تحت إبطى الشمندورة وأزهار الشر ..مكتفيا بهما فى هذه الجولة، ذاهبا إلى الجامعة لألحق بمحاضرة الدكتور رفعت المحجوب فى الإقتصاد السياسى.

(27)



حملت، بحب وتقدير، رواية الشمندورة وأزهار الشر، وسرحت بعيدا وبعيدا جداوتعجبت من نفسى وقلت:
ما الذى يجمع بين محمد خليل قاسم وبين شارل بودلير؟

كلاهما يسعى إلى الجمال والحب والخير والنور.
كلاهما يحتضنهما الأمل في مستقبل زاهر.
وفتحت صفحات ديوان شارل بودلير فطالعتنى قصيدة كيمياء الألم. .فتعكر مزاجى وسرت ببدنى رجفة الحزن وأغلقت الديوان.
ونظرت من شباك الأتوبيس وهو يمرق بميدان التحرير، هذا الميدان الضخم الواسع جدا ويتجه نحو كوبرى قصر النيل وعلى اليمين مبنى جامعة الدول العربية وأمامها قصر فخيم تأوي فيه وزارة الخارجية. .ثم فندق سمير أميس. .ويدخل الأتوبيس على الكوبرى ويقابلنى اسدان قصر النيل.

ثم أعود إلى صفحات الشمندورة ...ويأخذنى خليل قاسم إلى النوبة العظيمة مهد الحضارة والتاريخ المصرى القديم. .وأرفع رأسى فأرى ساعة الجامعة. .ويتوقف الأتوبيس فأنزل مسرعا حتى ألحق محاضرة الدكتور رفعت المحجوب فى الإقتصاد السياسى.
وأدخل المدرج وأنا أنهج من التعب وسرعة دقات قلبى ويلمحنى هيكل فينادى على:
رؤوف. .رؤوف. .تعالى .
وأندفع جريا وأجلس جنب هيكل وهو يتأملنى بود وترحاب ..ويهمس :
بالراحة على نفسك هو أنت جاى من طنطا بتجرى!

عبد الحميد هيكل. .زميل فى الثانوى ومن أرق زملائى حاشية وأدبا ولطفا. .لم أشاهده غاضبا أو منفعلا بل إذا آذاه زميل. .يصمت ولايرد ويمضى فى طريقه غير مبال لما حدث.
كنت أضحك منه ويعلو صوتى:
ياهيكل. .متزعلش. .فتزول انقباضة نفسه و يبتسم.

ويهل علينا الدكتور رفعت المحجوب بقامته الفارعة ويبدأ محاضرته عن فائض القيمة عند ماركس. .وتنتهى المحاضرة ويغادر الدكتور المحجوب. .ويميل على هيكل مداعبا :
حبيبك ماركس .. مش كده ولا إيه!!!

وأسأل هيكل عن باقى الزملاء ،فؤاد عجوة والسيد يوسف وأحمد فريد ومجدى عبده ومحمد حسين وحسين الدمشيتى..فيرد جادا :
أنا جيت فى القطار بدرى وركبت الأتوبيس وفطرت عند بتاع السندويشات بابا عبده إللى قصاد السياسة والاقتصاد وشربت شاى وعلى المدرج عدل.

وتتملكنى النكتة وصاخبا تدمع عيناى وأقول :
الراجل إللى اسمه بابا عبده لما الخس إللى عنده وبيقطعه سلطة مع الطماطم ويحطه مع الطعمية أو الفول. .لمابيخلص من عنده بيحط بداله برسيم !!

وبطيبة وبراءة يقول هيكل:
يا أخى بلاش تشنيع على الراجل دى بيأكل يمكن كل طلبة الجامعة. .وتقول لى برسيم.
وأقسم بالله وأقول لهيكل :
أسأعبدهل أحمد فريد وانا كنت معاه. .طلعت من السندويشات برسيم مقطع مع حتة طماطم مفعصة. .ده بيتعامل معانا على إننا بهايم. .وبيحط لنا برسيم. .وبكرة يعلفنا تبن.
ويضحك هيكل ويقول:
يعنى أنا كلت دلوقتى برسيم ..الظاهر إن الضمير ضاع مش عند بابا عبده ولكن بقى منتشر فى البلد كلها. ..ربنا يلطف يارؤوف.
وأرد ساخرا :
بابا عبده الكبير. .كان مع التلمسانى..وبكرة نشوف ونسمع.










(28 )




فوجئت بعد واقعة سندوتش البرسيم وأثناء ركوبى قطار السادسة والثلث صباحا بمجدى عبده ومعه هيكل والسيد يوسف وأحمد فريد وما إن رآنى إلا وصوته عاليا :
أهلا وسهلا بأكلة البرسيم ثم نظر حواليه.
لم أندهش بل قلت على الفور:
كلنا فى زريبة واحدة. .كلكم كلتو وشبعتو ومحدش منكم إتكلم رغم إن بياكل برسيم.
مجدى عبده. .من الزملاء المحترمين وصوته يرج الأسماع وضحكته عالية وله قفشات متميزة وياويل من يقع تحت ضرسه!
ويسألنى مجدى عبده :
فؤاد عجوة مختفي اليومين دول. .يكونش عيان!
قلت :
هو كويس وكان معايا من يومين بس زعلان منى عشان السياسة.
وتعلو الابتسامة الساخرة وجه مجدى عبده ويزعق :
سياسة. .سياسة. .إنتم مشكلة. .خصام وصلح مش عارف ليه؟؟؟؟
ويزغر بطرف عينه السيد يوسف ويتهكم قائلا :
دول فلاسفة يامجدى. .مجرد مانقعد فى مكان إلا والكلام عن عبد الناصر والسادات والحرب والسلام. .شغلانة على طول.
ويضحك مجدى عبده :
ابن النويهى بيوجع قلبنا مع ابن عجوة. ..باقول لك إيه ياسيد. .لو اتكلمو فى السياسة نرميهم من القطار ونريح دماغنا.
وبغتة يرفع هيكل رأسه ويقول:
آيه سبب الزعل؟؟
فأرد موضحا :
بص ياهيكل. .كنا بنتكلم عن مسؤولية غبدالناصر وعبد الحكيم عامر عن هزيمة 67 الفادحة الرهيبة وإن هزيمة الجيش المصري في الحرب وتحطيم الطايرات في المطارات العسكرية.. دى سقوط مدوى للقيادة وحتى لو كان عبدالحكيم مات مسموم كما يقولون وهو سم نفسه وناس بتقول ده تم ذبحه عشان يداروا على الهزيمة آلا أن عبد الناصر المسؤول الأول والأخير. .وحتى بعد حرب أكتوبر وموضوع الثغرة دى بردو مسؤولية قيادة. .يعنى إحنا موعودين بالهزايم. ..48 و56 و67. .كلامى ماعجبش فؤاد. .قام يهاجمنى ويتهمنى بأننى ظالم ومفترى وباقف فى صف الأعداء والكارهين لعظمة عبدالناصر وبيحاولو يلوثو تاريخه الوطنى. .. وقال كلام كتير. .
ويصيح مجدى عبده :
وقعتو فى بعض. .الحمد لله. .ح نستريح منكم شوية..

-------------------------------------

29)
...............
معذرة ياصحبتى
لم تثمر الأشجار هذا العام
فجئتكم بأردأ الطعام
ولست باخلا وإنما فقيرة حقول حنطتى
معذرة ياصحبتى
فالضوء خافت شحيح
والشمعة الوحيدة التي وجدتها بجيب معطفى
أشعلتها لكم
لكنها معروقة لهيبها دموع
معذرة ياصحبتى
قلبى حزين
من أين آتى بالكلام الفرح.

كنت جالسا تحت تمثال نهضة مصر ووجهى متجها نحو قبة جامعة القاهرة وعيناى معلقتان بالساعة والتى يشير إليها مذيع الراديو بالبرنامج العام عندما يقرأ نشرة الأخبار " دقت الآن ساعة جامعة القاهرة الخامسة مساءا " وتعقب نشرة الأخبار تمثيلية درامية".
منفردا بنفسى وبعيدا عن زملائى ومنتظرا دقة ساعة الجامعة الثانية عشر حتى أقوم لحضور محاضرة الشريعة الإسلامية للدكتور أنور دبور، هذا الأستاذ الطيب الذى يضحك وجهه ولم أره إلا مبتسما، وعندما يبدأ محاضرته يتكلم فى الميكرفون بصوت هادئ وبتأن ووضوح.

أسرعت فى الخطى حتى أجد مكانا، رغم أن الطلبة والطالبات قلة قليلة هى التى تحضر هذه المحاضرة ،ودخلت ملتفتا كى أجد أحد الزملاء فرأيت السيد يوسف ومحمود كريم وأحمد فريد ومجدى عبده إبراهيم خلف وعبد الحميد هيكل وإبراهيم السماحى يحتلون صفا من الصفوف فجلست بجوارهم ولحق بى فؤاد عجوة. .وبدأت المحاضرة عن مصادر الفقة الإسلامى. .
انتهت المحاضرة وخرج الدكتور دبور وتداول الحديث بيننا عن موضوع تأخير القطارات والزحمة فى الاتوبيسات والوصول إلى الجامعة متأخرين وكثرة السيارات والجو القاتم والهواء الملوث بعوادم السيارات وأكوام الزبالة فى نواصى وقلب الشوارع وأجنابها والهرج والمرج فى إشارات المرور وانتشار المتسولين بصورة ملحوظة وتوهان رجل المرور وحيرته الواضحة فى لخبطة المارة والسيارات وعدم القدرة على السيطرة على هذه الفوضى العارمة.

وفجأة يمسك فؤاد بكتاب معى ويقرأ أحلام الفارس القديم. .صلاح عبدالصبور. .فيقول :
طبعا زمانك حافظ نصه ولايمكن كله. .مهتم إنت بصلاح قوى وكأن مفيش شاعر غيره.
وأقول له : طب إسمع وقول لى
معذرة ياصحبتى. .....
‎عبدالرؤوف النويهى‎'s photo.

14
وتنهى المحاضرة ونقف نحن الجالسين على أجناب المنصة ،ويمر ال15
يعاتبنى فؤاد فى موقفى من جمال عبدالناصر ووأننى متحامل عليه ورؤيتى غير موفقة ويحكى عن عبدالناصر ويعدد مناقبه وإعماله .
وأقول لاتزعل منى وهذه حكايتى مع عبدالناصر:
هذه الحكاية التى عشتها بعقلى ووجدانى وهى محفورة فى ذاكرتى ،متوهجة،حية ،تقتات روحى وتستكين بأعماقى ...فى سنة 1967وتحديدا شهر يوليو وأغسطس ، هزيمة يونية المدوية الساحقة الماحقة للعقل العربى والإرادة العربية والكبرياء العربى ،
وكنا نمتلأ بالحلم العربى والصمود العربى ونزهو بالقومية العربية والتحدى الخلاق للتخلف والرجعية وسحق الإستعمار الجاثم فوق نفوسنا ، واقف أنا مع أمى وعمى فى سوق بيع الخضروات بجوار مصنع الكتان والزيوت بقريتنا ميت حبيش البحرية ، نبيع ما جمعناه من محصول الخيار ، وفجأة يمتلأالطريق بالسيارات العسكرية حاملة الجنود العائدين والمنسحبين من سيناء بعد إحتلالها وسحق القوات المصرية بها ، وكات هؤلاء الجنود الشعث الغبر الجوعى العطشى الممزقى الثياب الزائغى الأعين المهزومين الضائعين التائهين ،مئات السيارا ت بل الألوف تحمل فلذات الأكباد أبناء مصر البررة ، المخدوعين ، الذين إنهزموا قبل الحرب قبل القتال ، تركوا السلاح والمعدات للصهاينة ،غنيمة حرب لم تقم ، والألوف من الجنود تركوا بسيناء المحتلة ،غنائم ، للعدو المتربص بنا دوما وإلى آخر الزمان ،عيونهم ، ملابسهم ، أشكالهم ، الحسرة ، والضياع الى يسربلهم وإلى المتاهة يأخذهم .
ولم نجد مناصا أن يبادر الرجال والنساء بإيقاف هذه السيارات وإعطاء الجنود الأكل والخضروات والمياه والسجائر ، صار السوق يقذف كل مابه لهؤلاء المساكين العراة الحفاة المهزومين .
والله يافؤاد أنا محزون وفيه حكايات كثيرة ممكن أحكيها لك...كفاية صورته فى التليفزيون وهى يعلن الهزيمة ويتنحى
ويصمت فؤاد ويلتفت برأسه عنى ..وألمح دموعا فى العينين توشك على النزول على الوجنتين.
15
يعاتبنى فؤاد فى موقفى من جمال عبدالناصر ووأننى متحامل عليه ورؤيتى غير موفقة ويحكى عن عبدالناصر ويعدد مناقبه وإعماله .
وأقول لاتزعل منى وهذه حكايتى مع عبدالناصر:
هذه الحكاية التى عشتها بعقلى ووجدانى وهى محفورة فى ذاكرتى ،متوهجة،حية ،تقتات روحى وتستكين بأعماقى ...فى سنة 1967وتحديدا شهر يوليو وأغسطس ، هزيمة يونية المدوية الساحقة الماحقة للعقل العربى والإرادة العربية والكبرياء العربى ،
وكنا نمتلأ بالحلم العربى والصمود العربى ونزهو بالقومية العربية والتحدى الخلاق للتخلف والرجعية وسحق الإستعمار الجاثم فوق نفوسنا ، واقف أنا مع أمى وعمى فى سوق بيع الخضروات بجوار مصنع الكتان والزيوت بقريتنا ميت حبيش البحرية ، نبيع ما جمعناه من محصول الخيار ، وفجأة يمتلأالطريق بالسيارات العسكرية حاملة الجنود العائدين والمنسحبين من سيناء بعد إحتلالها وسحق القوات المصرية بها ، وكات هؤلاء الجنود الشعث الغبر الجوعى العطشى الممزقى الثياب الزائغى الأعين المهزومين الضائعين التائهين ،مئات السيارا ت بل الألوف تحمل فلذات الأكباد أبناء مصر البررة ، المخدوعين ، الذين إنهزموا قبل الحرب قبل القتال ، تركوا السلاح والمعدات للصهاينة ،غنيمة حرب لم تقم ، والألوف من الجنود تركوا بسيناء المحتلة ،غنائم ، للعدو المتربص بنا دوما وإلى آخر الزمان ،عيونهم ، ملابسهم ، أشكالهم ، الحسرة ، والضياع الى يسربلهم وإلى المتاهة يأخذهم .
ولم نجد مناصا أن يبادر الرجال والنساء بإيقاف هذه السيارات وإعطاء الجنود الأكل والخضروات والمياه والسجائر ، صار السوق يقذف كل مابه لهؤلاء المساكين العراة الحفاة المهزومين .
والله يافؤاد أنا محزون وفيه حكايات كثيرة ممكن أحكيها لك...كفاية صورته فى التليفزيون وهى يعلن الهزيمة ويتنحى
ويصمت فؤاد ويلتفت برأسه عنى ..وألمح دموعا فى العينين توشك على النزول على الوجنتين.

يعاتبنى فؤاد فى موقفى من جمال عبدالناصر ووأننى متحامل عليه ورؤيتى غير موفقة ويحكى عن عبدالناصر ويعدد مناقبه وإعماله .
وأقول لاتزعل منى وهذه حكايتى مع عبدالناصر:
هذه الحكاية التى عشتها بعقلى ووجدانى وهى محفورة فى ذاكرتى ،متوهجة،حية ،تقتات روحى وتستكين بأعماقى ...فى سنة 1967وتحديدا شهر يوليو وأغسطس ، هزيمة يونية المدوية الساحقة الماحقة للعقل العربى والإرادة العربية والكبرياء العربى ،
وكنا نمتلأ بالحلم العربى والصمود العربى ونزهو بالقومية العربية والتحدى الخلاق للتخلف والرجعية وسحق الإستعمار الجاثم فوق نفوسنا ، واقف أنا مع أمى وعمى فى سوق بيع الخضروات بجوار مصنع الكتان والزيوت بقريتنا ميت حبيش البحرية ، نبيع ما جمعناه من محصول الخيار ، وفجأة يمتلأالطريق بالسيارات العسكرية حاملة الجنود العائدين والمنسحبين من سيناء بعد إحتلالها وسحق القوات المصرية بها ، وكات هؤلاء الجنود الشعث الغبر الجوعى العطشى الممزقى الثياب الزائغى الأعين المهزومين الضائعين التائهين ،مئات السيارا ت بل الألوف تحمل فلذات الأكباد أبناء مصر البررة ، المخدوعين ، الذين إنهزموا قبل الحرب قبل القتال ، تركوا السلاح والمعدات للصهاينة ،غنيمة حرب لم تقم ، والألوف من الجنود تركوا بسيناء المحتلة ،غنائم ، للعدو المتربص بنا دوما وإلى آخر الزمان ،عيونهم ، ملابسهم ، أشكالهم ، الحسرة ، والضياع الى يسربلهم وإلى المتاهة يأخذهم .
ولم نجد مناصا أن يبادر الرجال والنساء بإيقاف هذه السيارات وإعطاء الجنود الأكل والخضروات والمياه والسجائر ، صار السوق يقذف كل مابه لهؤلاء المساكين العراة الحفاة المهزومين .
والله يافؤاد أنا محزون وفيه حكايات كثيرة ممكن أحكيها لك...كفاية صورته فى التليفزيون وهى يعلن الهزيمة ويتنحى
ويصمت فؤاد ويلتفت برأسه عنى ..وألمح دموعا فى العينين توشك على النزول على الوجنتين.
‎عبدالرؤوف النويهى‎'s photo.
دكتور يحيى الجمل من بيننا ،ونلهج جميعنا بالشكر له والتقدير وأغادر المدرج وأنتظر فؤاد بكافتيريا الكلية .
وأفتح كتابا وأسرح فى القراءة وأفيق على صوت فؤاد :
إيه يانويهى .. بقى لى مدة واقف ولا إنت هنا ..مستغرق فى الكتاب.
ويسحب كرسيا ويجلس ووحهه مفعم بالبهجة ويقول:
محاضرة ممتازة جدا ..فعلا مصر عظيمة وبدأت بداية صحيحة وبصراحة أنا بحب الدكتور يحيى وسعادتى كبيرة لما أشوفه وأحضر محاضرته ..ده ناصرى وعروبى .
فضحكت وأغلقت الكتاب الذى بيدى وقلت:
ساعة ماشافنا قاعدين على جوانب المنصة وكل واحد منا حاطط ورقة تحت منه ،وقف مكانه ولم يتحرك يمينا أو شمالا وكان بيعيد الكلام لما شافنا بنكتب فى الكشاكيل .
وقمت أحضرت كوبين شاى ..وسألنى فؤاد :
إيه الكتاب إللى كنت تقرا فيه؟؟
فقلت له :
مجموعة قصصية ليوسف إدريس اسمها العسكرى الأسود.
ويبتسم قائلا :
إنت مهتم بالقصص والروايات .
قلت :
تأريخ لما يحدث بأسلوب أدبى ورؤية متعمقة ،ويوسف قرأت له مجموعاتة ..أرخص ليالى وجمهورية فرحات وآخر الدنيا والنداهة وقاع المدينة ومسرحية الفرافير رائعة جدا ومن حوالى سنتين إشتريت من طنطا من شارع المديرية مجموعته بيت من لحم .

‎عبدالرؤوف النويهى‎'s photo.